حرية – (28/8/2024)
يبدو الكاتب أحمد كامل في مجموعته القصصية “جوارب عميد الأدب” (دار الشروق، 2024) كأنه يريد التأريخ لمشاهد ظلت في ذاكرته. وثمة التفاتة لا تُخطئها العين، نحو الأمس في اختيار الشخوص الساردة، وفي منحها مساحات للتعبير عن رؤيتها للحياة. ترصد القصص علاقة مهنية بين الأب والابن، ابن يمضي في مسار الأب، أو أسطى يُلقن صبيه أسرار الصنعة أو المعرفة، وغالباً يحدث هذا في أسلوب تبادلي، فيرتكز السرد على عدسة تنقل رؤية الأب، ثم الابن، وهو يستعيد في لحظات مفصلية ما لقنه إياه والده.
في القصة الأولى “أجمل حذاء في العالم”، يحكي عن شاب يذهب إلى العمل في ورشة لتصليح الأحذية، ويطرح سؤاله على الأسطى خليل عن أجمل حذاء صنعه على مدار رحلته في هذه المهنة. تتخذ القصة منحى نفسياً تشويقياً، حين يحكي خليل عن فتاة غجرية شابة، رأى في قدميها الصغيرتين مثالاً حياً للجمال، لذا يصمم أن يصنع لها بيديه أجمل حذاء. يحضر التساؤل خلال السرد عن علاقة الجمال بالواقع، وحقيقة إدراك الأشخاص له، وهذا يتضح في النهاية، مع عبارة حكمية يطلقها خليل قائلاً: “كذب، ليس في الدنيا أي إشارة”. وكما تنتهي القصة الأولى بالحديث عن الإشارات، تبدأ قصة “خطوط بلا حقيقة”، مع تتبع الإشارات في حياة قارئ طالع يجوب القرى والبلدات برفقة ابنه الصغير، الذي تركته أمه وهربت وظل لأيام عند الجيران، إلى أن صار يرافق والده في رحلاته اليومية للاسترزاق من تنبؤات، يستنطقها بما تشي به خطوط أيدي البشر.
يُمكن من خلال هذه القصة رؤية تجربة غنية بالتفاصيل الحياتية، التي تتراوح بين العبثية والمأساة، في الجمل الحكمية التي يقولها الأب، حين يسأله الابن عن الأم الهاربة إن كان قرأ كفها من قبل، وعرف أنها سوف تهرب، يقول: “لا حقيقة في كفوف المجانين”، أو أن يقول: “الخطوط مبهمة لكن العيون فضاحة”. يكبر الصبي ويخمن اقتراب رحيل والده، حين يبدأ في تلقينه أسرار المهنة، مدركاً أن الحكيم حين يُسلم حكمته يعني ارتحالاً بلا أوبة.
مشاهد مكتملة
المجموعة القصصية
يختار أحمد كامل في كل قصة، مشهداً مكتملاً لا يمكن تجاهله، يستوقفه ليعبر عنه سردياً في لغة دقيقة، وأوصاف غير متكررة. في قصة “حكاية، أظن، بلا توابل”، يصف ذكرى الرجل العاري الذي شاهده الصبي السارد قرب قضبان سكة القطار، والصبيان يركضون خلفه يهينونه في زفة من الشتائم. يتحول هذا المشهد في ذهنه إلى دلالة على كل موقف في الحياة يحمل الذل والمهانة. في معظم القصص هناك حضور واقعي ورمزي لشخصية الأب، كما في “السم في العسل”، “أيام من حديد”، “عصا موسى”، وغيرها من القصص.
تقدم قصة “جوارب عميد الأدب”، التي تُعتبر أطول قصة في المجموعة، وحملت اسمها، نظرة تحليلية حول واقع مهنة الأدب. تستكشف القصة الصراعات الداخلية للكاتب داخل محيطه، في أروقة الجرائد والمجلات ودور النشر الزائفة. وكيف يتم اللجوء إلى الكذب من خلال الأدب. البطل السارد ينتقل من الريف إلى المدينة للدراسة الجامعية، وفي أروقة الجامعة يكتشف أنه الريفي المنبوذ، بعد أن كان يتسلط على أهل بلده بسبب نفوذ عائلته. لكن في المدينة يصبح مثل أي طالب ريفي مجهول، لذا يدعي أنه قريب طه حسين، يستمد من هذه الكذبة وجوداً زائفاً، ثم يمضي في كذبته التي تقوده من ورطة إلى أخرى. ترصد القصة في بعدٍ فلسفي الضعف النفسي، والشعور بالدونية الذاتية، فالجوارب في القصة ليست مجرد شيء واقعي ملموس، بل رمز للحالة النفسية والاجتماعية للبطل السارد، الذي لا يجد في داخله أي ميزة سوى الادعاء بأنه من سلالة عميد الأدب.
يتقن أحمد كامل في هذه القصة، كما في معظم قصصه، تضفير المونولوغ الداخلي مع السرد الخارجي والوصف، بغرض تقديم التفاصيل الدقيقة عن الشخصية الرئيسة، وتصاعدها الدرامي، ثم الهبوط إلى القاع. يمزج الكاتب بين السرد الواقعي والفلاش باك، لتقديم خلفية تاريخية وثقافية عن أبطاله، بغرض تقريبهم إلى ذهن القارئ، مسلطاً الضوء على دوافعهم وصراعاتهم الداخلية.
واقع زائل
تأتي أهمية هذا العمل من تمكنه من تحقيق خصوصية سردية، تنطبق عليها مقولة السهل الممتنع مضموناً، إذ يختار الكاتب موضوعات تبدو ظاهرياً أنها عادية، تتمحور حول علاقة بين أب وابن، وهي ضمناً، على المستوى الوجودي والفلسفي، تمثل صلة في غاية التعقيد، لأن الابن يُمثل سلالة الأب جسدياً، ويحمل ميراثه وأفكاره ذهنياً، إنه الامتداد الطبيعي لوجوده. تتجلى هذه الأفكار في قصص المجموعة، مع اختيار الكاتب لنماذج سردية مرئية من الحياة المعاشة، يختارها بعناية، ثم يحملها أفكاره، من دون أن تبدو نافرة أو شاذة عن وجودها ومستواها الفكري.
توقف الكاتب أيضاً أمام الماضي الذي شارف على الزوال، في ما يتعلق بمهن معينة، يكاد أن يندثر أصحابها، مع كل تقدم تكنولوجي وعلمي، لن يتحدث أحد في السنوات المقبلة عن مهنة الإسكافي، صانع الأحذية، كما أن مهنة قارئ الكف تغيرت كثيراً بين الأمس واليوم، من رجل يجوب الطرقات والحانات كي يقرأ كفوف الناس لقاء ما يسد به رمقه، إلى احتلال العرافين والعرافات صفحات في الجرائد والمجلات، ومنصات التواصل الاجتماعي، وحلقات تلفزيونية. تُقدم هذه القصص للأجيال القادمة مشاهد من الواقع المصري، تعود إلى زمن قريب، لكنه تباعد، وكاد أن يُصبح منسياً. ولعل المعادلة الصعبة، التي تمكن الكاتب من تحقيقها، تكمن في قدرته على تقديم سرد ممتع للقارئ، من خلال واقع قاتم وقاس، لا يرحم أصحابه، الذين يمارسون مهناً صعبة، ويعيشون في شظف من العيش.
لعل اللافت في لغة مجموعة “جوارب عميد الأدب”، هو اعتماد الكاتب على تركيبات لغوية رصينة، دقيقة، عذبة، تحتاج إلى نوع من التوقف عند تلقيها، تبدو هذه اللغة مستلهمة من مرحلة خمسينيات القرن الماضي في جزالتها، لكنها لا تُربك التلقي بالنسبة للقارئ، بقدر ما تحفزه على التأمل في صياغتها المختلفة عن اللغة التي ألفها في كتابة القصة الحديثة. وهنا يمكن الإشارة إلى عنوان المجموعة، الذي أراد من خلاله الكاتب استدعاء عميد الأدب العربي طه حسين، والإشارة إلى انعكاس ظله اللغوي داخل القصص. أما الأسلوب السردي في القصص، فقد سار موازياً للغة فيها الكثير من الاستعارات والتشابيه الوصفية المغايرة للمألوف، نسجها الكاتب دامجاً بين جمل فلسفية وتعابير حكمية، كأن يقول: الطير راحل والحقل باقٍ. كقعيد يردد في أذن أعمى مغامرات طيور محلقة، وإن امتنع عن الترديد ستبقى الطيور تحلق، والأعمى يراها بخياله.
حضر صوت ضمير المتكلم في القصص، مشتبكاً مع تداخلات سردية تربط بين الذاكرة والتداعي الحر، والمونولوج الداخلي، وجمل حوارية مقتضبة. وتبدو الرؤية الأدبية والفكرية، التي ينطلق منها الكاتب، محرضة للجيل الشاب على اكتشاف الكنوز الفكرية والمعرفية في كتابات الأدباء والمفكرين العرب، ويعتبر طه حسين من أبرز تلك الأسماء. لذا يبدو حضور اسمه في العنوان دافعاً للقارئ، كي يعود للبحث عن كتب طه حسين، ومعرفة السبب في اختيار الكاتب له، ليتصدر العنوان.
تكشف القصص أيضاً عن انحياز الكاتب للماضي، وللناس البسطاء، داعياً القارئ إلى التأمل في بعض التفاصيل المتعلقة بالمهن اليدوية، التي لا تلفت انتباه أحد، لكنه يُمعن في منحها مساحة للوصف الدقيق والحيوي.
“جوارب عميد الأدب”، هي المجموعة القصصية الأولى للكاتب، بعد إصداره دواوين شعرية، ورواية بعنوان “جبل المجازات”، ورواية أخرى حملت اسم “العهد القديم”.