حرية – (29/8/2024)
في بقعة من عالمي الذي أعيش فيه، الجزائر، يدوي صوت المهازل ويفتن الناس في أمورهم فيحرمون من أبسط حقوقهم، تمتلئ شوارعهم بشباب هاموا على وجوههم، وتزخر تجمعاتهم بشتى مظاهر التفريط، والسبب أنه خلف مكاتب تعج بالتفاهة والتجهيل غابت عقول نضرة وغُيب أصحابها، شباب هذه الأمة وعمادها الأول، أولئك الذين نصروا الدين قبل 1400 سنة، وأقاموا ثورة بلد ضحّى بأغلى ما فيه قبل نصف قرن ونَيِّفٍ من اليوم، قد حوّلوا أغلبهم الآن إلى غياهب الهزيمة والتيه، فما الذي غيّبهم، وما الذي يحتاجونه، ولِمَ هم هنا، لتقويض فكرهم ومآل دنياهم من الأساس؟
ملامح التفاهة
لقد تبوأ التافهون مقاليد السلطة، فنحن في عالم يسيطر فيه التافهون على كل مفاصل الحياة تقريباً، والذين أدت تفاهتهم لتدهور متطلبات الجودة العالية، فهمشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين ذوي الوضاعة الفكرية، وقد ألقت هذه المستجدات بظلالها على مختلف مناحي الواقع اليوم، ففي الشأن العام أصبحنا نرى المثقف الحكيم يختفي تدريجياً، ليصعد مكانه ذوو الادعاءات والشهادات الكاذبة والدورات التدريبية، التي تدوم لساعات وهنيهات، ومعظمها على النت والمنصات، محتوياتها فارغة فراغ إناء أقرع نضح منه الماء، وهؤلاء حتى وإن اعتلتهم السطحية وفقدوا النضج والفصاحة في كلامهم فهذا لا يهم، بل الأهم أنهم ذوو الأولوية، وبحكم ذلك يُخيل لهم أن جادة الصواب تلك ما اتخذوا، ويرون بطرف عين أنهم الأقدر على إيقاع التغيير والأكفأ والأجدر بكل منصب يؤتى لهم، ضاربين بذلك موعداً مع قدر محتوم مفاده رهن مستقبل البلاد والعباد والأمة الإسلامية، بسبب تصديقهم لكذبة كذبوها على أنفسهم، فانطلت عليهم وصدقوها، عاملين بها على أساس أنها اليقين، فهم الأذكى والأقوم في كل “زمكان”.
إنه غزو البلهاء
ففي عصر كهذا كيف سيكون شكل القدوات التي ينظر إليها الشباب؟!
نفوس البشر مجبولة على حب الاقتداء والتأسي بمن تتجسد فيهم المعاني والقيم النظرية والفكر العالي، لهذا دعا الله المؤمنين إلى التأسي المطلق برسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا”.
وهذا لما في رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكمال في شتى الجوانب البشرية، ولأجل هذا يرى علماء الإسلام أن السنة النبوية كانت تعمل عمل المنهاج الواقعي المفسر والشارح، وكأنها القدوة التي تحشد المؤمنين لفهم المنهج النظري، المتمثل في خير كتاب أنزل للأنام وهو القرآن، لكن مع تصاعد نفوذ التفاهة هذا، فإن عَرَبة الشباب افتقدت القائد القدوة في كثير من السياقات، ومن بين أولئك السياسيون ذوو المزاح الأجوف، الذين إذا ألقوا حكمة أو موعظة أو دعابة تفرز الناس خطاطين ومهرولين، كل لركنه، من سذاجة ما نطقوا به، وبين هؤلاء تضيع قدوات الشباب.
وهذا الأمر غيّب الرجال الرصينة عن الحياة المدنية، فالتافهون شوّهوا أهل العلم والرجاحة، مقتطعين كلماتهم عن سياقها، محتقرين إياهم بنشر الأكاذيب والأقاويل الزائفة، ضاربين شخصهم في مقتل، فالتافه يكذب ويتحرى الكذب، ونشر الكذبة على مجمع صدقها جعل المجمع منها حقيقة، وبذلك تبتذل العقول وتسيطر الرويبضة، فكل ما قال الصادق الراجح يصبح غير مقبول وملعون، ذاك هو عصر التفاهة.