حرية ـ (1/9/2024)
في منطقة “أفلة” بمحافظة الحوض الغربي في أقصى الشرق الموريتاني لبست الأرض ثوباً ربيعياً (يشهد موسم الخريف في موريتانيا ذروة التساقطات المطرية) بعد أسابيع ماطرة أعادت الحياة إلى إنسان هذه الأرض المعتمد على تربية المواشي وما بالأرض من زرع وخضرة.
هنا وتحديداً في منطقة “فريدي” السياحية على مسافة تسعة كيلومترات جنوب مدينة الطينظان بمحافظة الحوض الغربي في الشرق الموريتاني، يبدأ الاستعداد لإطلاق ثاني تجربة ثقافية وتراثية وتنموية وأول فعل ثقافي وسياحي تعرفه المنطقة وهو مهرجان الرعاة الدولي للأرض والإنسان.
أدوات تقليدية للشرب والأكل وحفظ المواد الغذائية في بادية موريتانيا
مدير ديوان والي محافظة الحوض الغربي أحمد جدو الشيخ الطلبة، أكد خلال افتتاحه الرسمي فعاليات النسخة الثانية، أن تنظيم المهرجان فرصة لإبراز انصهار حضارات عدة احتضنتها هذه المنطقة، ونفض الغبار عن المخزون الثقافي والعلمي الحافل بالتعايش والانسجام في هذه الربوع من الوطن.
حال حب
إحياء الموروث الثقافي في منطقة “أفلة” الزاخرة بثقافة من مختلف مكونات المجتمع الموريتاني البدوي التقليدي، وتنظيم هذا العدد الكبير من الأنشطة المتزامنة التي يمتزج فيها الفن بالثقافة المحلية والرياضات التقليدية القديمة بمختلف أنواعها، إضافة إلى تنظيم ندوات فكرية ومسابقات ثقافية تحيي المندثر من ثقافة بادية موريتانيا، مع رحلات سياحية لاكتشاف المعالم السياحية في المنطقة، كل ذلك يعبر عن “حال عفوية من الحب العميق بين الأرض والإنسان”، هكذا يؤكد مدير النسخة الثانية من مهرجان الرعاة الدولي محمد فال بوخوصة عبر تقنية الفيديو للزوار.
فتاة موريتانية تتأمل إناء تقليدياً في القرية النموذجية بالمهرجان
يوضح الصحافي الموريتاني محمد فال، صاحب بذرة المهرجان الذي تأجل مرتين، الأولى لدواعي وباء كورونا، والثانية تضامناً مع الشعب الفلسطيني وتحديداً في قطاع غزة، أن مهرجان الرعاة الدولي فكرة تنموية في المقام الأول تظهر حاجة سكان الريف الموريتاني العميق (البادية) لكسر العزلة وإنهاء التهميش وجلب الاستثمارات وولوج إنسان “أفلة” إلى خدمات التعليم والصحة والاتصالات وغيرها. وهو من جهة أخرى فعل ثقافي يظهر جوانب جبارة من حياة الأجداد في هذه المنطقة، حيث أقاموا حضارات وألفوا كتباً في مختلف المناحي على ظهور العيس (الإبل) وابتدعوا الفنون وصنعوا الجمال فكانوا مدرسة ثقافية وحضارية تنشر العلم والحب والسلام.
إلى الطبيعة
ومهرجان الرعاة الدولي يستظهر بصورة جادة موضوع البيئة والمحافظة على الغطاء النباتي والحياة البرية المتنوعة في هذه المنطقة وفي عموم محافظات البلاد من خلال استزراع مئات الشجيرات النادرة في فصل الخريف بعدما انقرضت من البيئة الموريتانية خلال أعوام جفاف السبعينيات، وذلك ضمن الجهود الرسمية والأهلية لمحاربة الجفاف والتصحر.
ليالي مهرجان الرعاة الدولي تقام في فضاء خريفي (فصل الربيع) مفتوح يجمع مكونات المجتمع الموريتاني وألوانه كافة، وقد حظي هذا العام بتغطية إعلامية محلية ودولية واسعة، فهنا يطرب الجميع لألوان موسيقى البيضان (العرب) والفلان والسونوكي والولوف (المكونات الأفريقية) في امتزاج وتناغم عجيبين معبرين عن الحب والتنمية والسلام.
وغير بعيد وضمن الفضاء المفتوح ذاته تتجسد لوحة لحياة البادية الموريتانية بدقائق تفاصيلها اليومية، وبالأدوات التقليدية نفسها التي استخدمها إنسان هذه الأرض قبل قرون خلت، في طحن الحبوب وإعداد الطعام، وفي المسكن والملبس وطريقة الحديث وبناء النصوص التواصلية العادية والشعرية، وفي الغناء والتسريحات وغيرها.
ثقافة الأرض والبشر
أيام مهرجان الرعاة الدولي كانت مناسبة لعدد من الكتاب والمثقفين والأكاديميين الموريتانيين لنفض الغبار عن تاريخ هذه المنطقة وأهم رجالاتها، عن حياتها السياسية والاجتماعية وثقافة مكوناتها الاجتماعية وفنها وأدبها التي عمرت الأرض خلال قرون. تاريخ كاد يندثر تعيد الندوات والمحاضرات والحلق النقاشية على هامش المهرجان سيرته لأبناء المنطقة وزوارها.
راع من قومية الفلان المرتبطة بعلاقة وجدانية مع البقر وتنميته
وكانت “المحظرة الشنقيطية” أقدم جامعة صحراوية ظلت لقرون تنتج العلوم الشرعية والعربية هي أبرز الحضور ضمن معارض وفعاليات المهرجان الدولي، إضافة إلى العروض المسرحية (المسرح الصحراوي) التي نالت إعجاب الزوار طيلة ليالٍ ثلاث.
يأخذ مهرجان الرعاة الدولي تسميته من الرعاة المتعهدين بالمشي وراء الإبل والبقر والماعز في فضاء ولاية الحوض الغربي في الشرق الموريتاني، يهتمون بها ويبحثون عن الكلأ والماء، ولهم نمط حياتهم المرتبط بالانتجاع في الغالب. تسمية يقول المشرفون على المهرجان إن وقعها واسع بالنسبة إليهم لأنهم في نهاية المطاف رعاة للثقافة والتراث والتنمية والبيئة وإشاعة الحب والسلام والتعايش والوقوف مع القضايا العادلة.