حرية ـ (1/9/2024)
لنجيب محفوظ قصة بعنوان “العائش في الحقيقة” يقول فيها: “اخترتَ سبيلك بنفسك يا مري مون، فاذهب في رعاية الآلهة، أجدادك ذهبوا للحرب أو السياسة أو التجارة، أما أنت فتُريد الحقيقة، وكلٌّ على قدر هِمَّته، ولكن احذر أن تَستفزَّ صاحبَ سلطان أو تَشمت بساقط في النسيان، كُن كالتاريخ يفتح أُذنَيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد، ثم يُسلِّم الحقيقة ناصعةً هِبةً للمُتأمِّلين”.
لا تُضاف هذه الرواية عادة إلى ثلاثيته التي تناولت تاريخ مصر القديم، برغم أنها تقدّم سيرة أخناتون أحد أشهر ملوك مصر القدامى، وأسئلته عن الوجود والحقيقة. وما أخناتون إلّا قناع آخر لنجيب محفوظ نفسه الذي ابتعد عن الحرب والسياسة والتجارة، بحثًا عن الحقيقة مغلّفة باستعارات الأدب.
وفي ذكراه الثامنة عشرة، ليس أجمل من زيارة المتحف الذي يحمل اسمه، ويقع وسط متحف كبير حيث استلهم منه محفوظ شخصيات وحبكات رواياته وقصصه، وأصغى فيه إلى صدى السنين وهمس الجنون.
الرحلة والأسئلة
تكمن عظمة محفوظ في ما وراء الحكاية الممتدة على أكثر من 50 كتابًا؛ في أسئلته عن الهوية والماهية والوجود والمعرفة والخير والعدل والجمال. تكمن في رحلته الروحية التي عاشها في تجربته الحياتية على امتداد 95 عامًا، أو تقاسمها مع أبطاله من “أخناتون” إلى “عاشور الناجي”.
لتلك الرحلة معجم صوفي خاص بها، مثل “الخلوة” حيث يختلي الشيخ والمريدون للذكر والتأمّل، وقد عرضت “الخلوة” حلًا سحريًا على “سعيد مهران” في “اللص والكلاب”، لكنه أبى إلّا مواصلة الانتقام إلى ما لا نهاية!
ولا يمكن الولوج إلى “ملحمة الحرافيش”، رواية الأجيال عبر الأزمان، إلّا عبر مفتاحها السرّي “التكية”. وهي مفردة عتيقة تعني المأوى الذي ينقطع فيه الدراويش والمسافرون والمحتضرون. دار عبادة وإقامة، تصل الأرض بالسماء، ونقطة يلتجئ إليها كل من زهد الدنيا بكل أحقادها ومعاركها.
استمد محفوظ معجمه الصوفي من ولادته بالقرب من مسجد الإمام الحسين والأزهر الشريف، حيث رأى بقلبه الأسبلة والتكايا والأضرحة، وأوصى أن يخرج جثمانه ـ في نهاية المطاف ـ من مسجد الإمام الحسين.
العودة إلى مسقط الرأس
بعد رحيله بسنوات، أعادت وزارة الثقافة محفوظ رمزيًا إلى مسقط رأسه، حين افتتحت متحفًا باسمه في “تكية محمد بك أبو الذهب”.
كان أبو الدهب أحد أمراء المماليك الأقوياء، وكاد أن ينفرد بحكم مصر ويستقل بها أواخر القرن الثامن عشر، وأنشأ مجموعة باسمه تضمّ المسجد والمدرسة والتكية التي تقع على طابقين وتفتح بابها على شارع التبليطة.
فمثلما ولد “عاشور الناجي” قرب التكية، واختفى فيها إلى الأبد، أصبحت تكية أبو الذهب مأوى لمحفوظ وسيرته في صورة متحف. فاختيار الموقع لا يعيده إلى مسقط رأسه فحسب، وإنما يشبه روحه تمامًا.
وقد يختلط الأمر على الزائر حين يعلم أن في مصر “نجيبين محفوظين” ومتحفين لكل منهما، وكلا النجيبين عمّر إلى ما بعد التسعين، وكان رائدًا في مجاله. أولهما قبطي والآخر مسلم تعلّق قلبه بأجواء الأزهر والحسين.
وكان للأول فضل وصول الثاني إلى الحياة، حيث أشرف على ولادته، فأطلق عليه الأب اسم الطبيب تيمنًا به.
الأول نجيب باشا محفوظ (1882 ـ 1974) رائد طب النساء والولادة في العالم العربي، ويقع متحفه في حرم مستشفى القصر العيني.
أما الآخر، نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) رائد الرواية العربية، فيتطلّب الوصول إلى متحفه دخول شارع التبليطة قبل أمتار قليلة من الجامع الأزهر، ودفع تذكرة رمزية.
تشبه التكية “الخان” أو فنادق القرون الوسطى، حيث تتكون من مجموعة غرف على طابقين، كلها تنفتح على فناء داخلي، وأبقى المتحف الذي افتتح عام 2019، على طابعها المعماري العتيق.
سيرة إنسانية وإبداعية
تتوزع على الغرف سيرة محفوظ الإنسانية والإبداعية، فعلى سبيل المثل هناك مكتبة تضمّ أهم الكتب التي كانت في مكتبة أديب نوبل، إضافة إلى مكتبه الذي كان يجلس عليه، وفي غرفة أخرى أهم الجوائز والأوسمة والنياشين التي حصل عليها، وفي غرفة ثالثة شهادة جائزة نوبل وحولها صور جميع الحائزين على الجائزة المرموقة، ونص الخطاب الذي كتبه بمناسبة الفوز، يُضاف إلى ذلك ألبوم صور لكل مراحل حياته، ومقاطع من رواياته وكلماته معلّقة على الجدران، وفي ركن جانبي من الفناء توجد بعض المقاعد التي تحاكي مقهى الحرافيش، مع صور وشروح تحيط بها، تروي قصة أصدقائه “الحرافيش” ومنهم المخرج توفيق صالح والشاعر صلاح جاهين والفنان أحمد مظهر.
بينما خُصّصت قاعة السينما لعلاقة محفوظ بالفن السابع ومقتطفات من الأفلام المأخوذة عن رواياته، غير قاعة النشأة والحارة.
وفي قاعة “أصداء السيرة” تحضر مقتنياته الشخصية ومنها نظارته الشهيرة والساعة والمسبحة وعدسته المكبّرة ولبيسة أحذية، وملابسه الرسمية، والسجائر المفضّلة لديه “كينت”، وأدوات الحلاقة، وأمام القاعة سجادة كبيرة أُهديت إليه.
ونصل إلى قاعة “رثاء” بعنوانها الشاعري الحزين، حيث نتعرف على تفاصيل محاولة اغتياله، واللافت وجود دفتر حاول محفوظ فيه التدرّب على الكتابة واستعادة حاسة الإمساك بالقلم بعد حادثة الطعن الشهيرة التي كادت تودي بحياته.
إلى المتحف الحي
بعد انتهاء الجولة داخل المتحف، لا أنصح الزائر باستعجال المغادرة، وإنما بالسير والتأمّل في المتحف الأكبر الحي والمفتوح على الحياة، والتجول في أزقة الجامع الأزهر ومكتباته العتيقة والشوارع المحيطة بمسجد الحسين، الدروب والعطفات الصغيرة، شارع المعز وخان الخليلي ومقهى الفيشاوي وبيت القاضي وزقاق المدق وبين القصرين، صعودًا نحو صحراء الدراسة والباطنية.
ففي هذا المتحف البشري الضخم الذي يعود إلى ألف عام، أبصر نجيب محفوظ النور، والتقط عشرات النماذج الإنسانية، فربما يرى الزائر “سعيد مهران” يجري بمسدسه نحو الجبل، أو “صابر” يبحث عن أبيه “سيد الرحيمي”، قد تطالعه “حميدة” من نافذتها في “زقاق المدق”، أو يلحق معركة فتوات “الحسينية” و”العطوف”، وحين تتعب قدما الزائر، فما عليه إلّا أن يستريح قليلًا على مقهى الفيشاوي ويطلب الشاي بالنعناع الأخضر، ولو كان سعيد الحظ سوف ينتبه أن نجيب محفوظ يجلس بجواره ويبتسم له.