حرية ـ (3/9/2024)
علي المدن
قبل سنوات كتبت مقالا قصيرا أشرت فيه إلى فكرة بسيطة وسهلة، عنوان المقال هو (الطائفي المخاتل)، وفكرته هو الإجابة على هذا السؤال: كيف يمكن أن نكتشف الشخص الطائفي؟ الطائفية ليست بالشيء المحبوب، وجميعنا نتبرأ منها، ونشعر بالعار والإهانة إذا اتهمنا أحد بها، ومع ذلك نجد الواقع يقول إن العراق في الوقت الحاضر يشهد أعلى مستويات التمييز الطائفي. نحن في الحقيقة نقسّم كل شيء اليوم بناء على الانتماءات الطائفية، والحياء الذي كان العراقيون يتمتعون به في عقود ماضية عند الحديث عن طوائفهم، بل ويصدمون إذا ما ذكّروا بتلك الطوائف، تراجع كثيرا. هذه مفارقة! أن نفعل الشيء ونتقزز منه في الوقت ذاته. فما هو الحل لهذه المفارقة؟ ما هي الوسيلة الأفضل في فضح الطائفي المتخفي فينا وبيننا.
كان مقترحي هو أن يطبق كل واحد منا معاييره على نفسه، أو نطبق معايير كل شخص على ما يدعيه. الطائفي في تقديري لا يشعر بالمفارقات!! إنه يضع معاييرا عالية في نقد الآخرين، ولكنه يتخلى عن معاييره حين يتعلق الموضوع به شخصيا. كمثال على ذلك يمكن أن نذكر نقد الطائفي للتاريخ الإسلامي، هو يتعامل بروح نقدية صرامة وبحس أخلاقي مرهف، ولكن هذا فقط في القضايا التي يؤمن بها الآخر المختلف عنه. أما في القضايا التي يؤمن بها هو، فالتاريخ يأخذ طابعا آخراً. إنه عبارة عن حقائق ناصعة البياض، ولا مجال لنقدها بنفس المستوى من الرهافة والتشكيك المتقدم. إن هذا النمط من السلوك ينم في رأيي عن الطبيعة المخاتلة للطائفي، وإن أقصر طريق تعرف به الطائفي المخاتل هو أن تعيد تطبيق منطقه عليه، فإن انزعج فهو دليل على طبيعته المخاتلة المراوغة.
هذه كانت فكرة المقال القديم. أما الآن فإنني أريد تطبيق نفس المعيار في حقل جديد.
لي صديق يعيش منذ عقود في أحد الدول الأوربية، وهو إنسان مثقف ومهني ومهذب، ولكنه يعتقد إن السياسات الغربية المتأخرة في التعامل مع المسلمين تتسم بالارتياب والشك، وربما فيها بعض التشدد غير المبرر. يقول صاحبي: إن المسلمين، وهو يقصد بنحو خاص الشيعة الذين ينتمي إليهم مذهبيا، مسالمون. ويضيف: نحن متصالحون مع أنفسنا، ونطبّق القانون، ونحترم الآخرين الذين نعيش معهم. يؤمن صديقي إنه يفعل ذلك بدافع من عقيدته (الإسلامية في نسختها الشيعية) وليس بسبب البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها. لهذا يستغرب من سياسة الدول الغربية في مراقبة نشاطات المسلمين الدينية (كان هذا الحديث بعد صدور بعض التعليمات في تنظيم بعض الطقوس التي يفعلها الشيعة في أيام عاشوراء).
لا أتفق في الرأي مع صاحبي، وأظن أن سلميته لا تنبع من حقيقة عالم عقيدته المسالمة بل من عالم (الغرب المتعلمن). إنه في الواقع مدين لهذا العالم الذي منحه (النسبية في التفكير بالحقائق) و (الدولة المحايدة في التعامل مع الشؤون الدينية). إن هذا العالم هو من وفر له أجواء العيش بسكينة روحية داخلية وترك له الإيمان بعقيدته الخاصة دون أن يكدر سكينته شيء. ولكن إذا كان “العامل الخارجي” (البيئة الاجتماعية وقيمها، والدولة وقوانينها) هو السبب الحقيقي في سلمية العقائد فهل يوجد “عامل داخلي” يعكس هذه السلمية بدون ضغوط برّانية؟ هذا هو السؤال الحاسم في تقديري.
وجوابي على هذا السؤال هو: نعم، يوجد لدينا معيار نستطيع الاحتكام إليه؛ وهو نظام العقوبات المرتبط بتلك العقيدة. إن هذا النظام هو أفضل مرآة كاشفة للسلمية. وكلما كان نظام العقوبات سلميا كانت تلك العقيدة سلمية. والعكس صحيح أيضا. إن العقائدي المسالم هو ذلك الشخص الذي لا يربط نظام العقوبات لديه بعقيدته الدينية. لذا اذا قيل لنا (الدين الفلاني مسالم، أو المذهب الفلاني مسالم) فإن سؤالنا التالي يجب أن يكون: هل يربط هذا الدين أو المذهب عقوباته بالعقيدة التي يؤمن بها أو لا؟ الجواب على هذا السؤال هو الذي سيحدد إن كان هذا الدين أو ذاك المذهب مسالم حقا او لا. والأفضل اختيار أبعد المخالفين لهذا العقيدة ووضعه كأنموذج للاختبار. (بالنسبة للمسلم المسالم اسأله عن الملحد، وبالنسبة للسني المسالم اسأله عن الرافضي، وبالنسبة للشيعي المسالم اسأله عن الناصبي.. وهكذا). مقياس السلمية في كل عقيدة هو نظام العقوبات المرتبط بها، وخصوصا في حق أبعد المخالفين لها. أما أن تأتي السلمية بفضل إكراهات خارجية فهذا مجرد “تكيّف” و”خضوع” مؤقت، ولا علاقة له بحقيقة تلك العقيدة.