حرية ـ (5/9/2024)
ليس عالم الأثرياء دائماً كما يبدو على السطح، فبينما يظن البعض أن الرفاهية تعني الأمان الكامل، فإن الواقع قد يكون قاسياً ومفاجئاً. في الأسبوع الماضي، اهتز عالم التكنولوجيا بخبر غرق اليخت الفخم لرجل التكنولوجيا البريطاني الشهير مايك لينش. تعرض اليخت، الذي كان يعتبر من أبرز رواد الابتكار، لحادثة مفاجئة أثناء رحلة ترفيهية قبالة سواحل صقلية، مما أسفر عن مقتل لينش وستة آخرين وإحداث صدمة كبيرة في الأوساط التجارية والتقنية.
تُضاف هذه الحادثة إلى سجل حافل من الحوادث المأساوية في عالم الرفاهية. ففي عام 2019 كان لاعب كرة القدم الأرجنتيني إيميليانو سالا يستقل الطائرة الخاصة من طراز “بيبر ماليبو” التي اختفت خلال رحلة من نانت في فرنسا إلى كارديف في ويلز. وبعد عمليات بحث مكثفة استمرت لأكثر من شهر تم العثور على جثة سالا إلى جانب الحطام في القنال الإنجليزي، لكن جثة الطيار ديفيد إبوتسون لم تظهر.
أود الإشارة هنا إلى أنني لا أنوي التطرق إلى الحوادث التي تحيط بها تعقيدات سياسية أو مؤامراتية، مثل تحطم مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أخيراً أو تحطم طائرة قائد مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين، في أغسطس (آب) من العام الماضي.
ملاحة وعرة
في عالم الرفاهية، حيث تلتقي الفخامة بالأخطار، تبرز إحصاءات مدهشة حول تكرار حوادث اليخوت والطائرات الخاصة المملوكة للأثرياء والمشاهير. وفقاً لبيانات منظمة الحماية البحرية الدولية، فإن الحوادث البحرية التي تشمل اليخوت الفاخرة تشكل نحو 10 في المئة من إجمالي الحوادث البحرية، على رغم أن هذه اليخوت تمثل نسبة صغيرة من الأسطول العالمي. تتنوع هذه الكوارث ما بين الغرق والحريق والحوادث الناجمة عن التصادم مع عوائق غير مرئية مثل الصخور أو الحواجز.
في ما يتعلق بالطائرات الخاصة، تشير إحصاءات من “اتحاد الطيران العام” إلى أن الطائرات الخاصة تشهد معدلات حوادث أعلى من الطائرات التجارية، على رغم استخدامها تقنيات حديثة لتحسين السلامة.
تتنوع الأسباب التي تسهم بوقوع حوادث اليخوت الفارهة والطائرات الخاصة
من بين الحوادث البحرية المثيرة تعرض يخت “أوكتوبوس” لحريق عام 2015 أثناء وجوده في ميناء “لا جولا” في كاليفورنيا. ألحق الحريق، الذي لم يسفر عن وفيات، أضراراً كبيرة باليخت الذي لم ينج من الخطر حتى وهو بعيد من عباب البحر.
أما يخت “ريز” فكان عرضة لحريق في قلب البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل فرنسا عام 2018. نجم الحريق عن تسرب في نظام الغاز، ولحسن الحظ، لم يُسفر عن إصابات أو وفيات.
وفي عام 2019 تحطم يخت فاخر يحمل اسم “ماري” بالقرب من شواطئ إيطاليا بسبب عاصفة شديدة أسفرت عن غرقه في وجه الظروف الجوية القاسية.
وفي عالم الطيران الخاص، شهدنا في سبتمبر (أيلول) عام 2022 تحطم طائرة خاصة كانت تقل رجل الأعمال الألماني بيتر غريسمان وعائلته في بحر البلطيق. كانت الطائرة من طراز “سيسنا 551” قد اختفت من على شاشات الرادار بعد إقلاعها من إسبانيا، وسقطت في البحر قبالة سواحل لاتفيا. أسفرت الحادثة عن وفاة غريسمان وزوجته وابنته وصديقها. وعلى رغم جهود البحث والإنقاذ، لم يتم العثور على ناجين.
تتعدد الأسباب والنتيجة واحدة
هناك تنوع في الأسباب التي تسهم في وقوع حوادث اليخوت الفارهة والطائرات الخاصة، وتتميز كل فئة من هذه الحوادث بعواملها الخاصة التي تؤدي إلى وقوعها.
تأتي الأخطاء البشرية على رأس قائمة الأسباب الشائعة التي تؤدي إلى حوادث الطيران والبحرية. وفقاً لـ”منظمة معايير السلامة” فإن التعب والإرهاق من أبرز الأخطاء التي يرتكبها الطيارون وقادة اليخوت، حيث يمكن أن يؤثر عدم الحصول على قسط كافٍ من الراحة على قدرتهم على اتخاذ القرارات بشكل صحيح. كما تلعب قلة الخبرة أيضاً دوراً مهماً بخاصة في التعامل مع الظروف غير المتوقعة أو في حالات الطوارئ. ويمكن أن يؤدي اتخاذ قرارات خاطئة نتيجة عدم تقدير الأخطار بشكل كافٍ إلى حوادث كارثية.
من ناحية أخرى تشكل العوامل الجوية خطراً كبيراً على سلامة الطائرات واليخوت، إذ يمكن أن تؤدي الظروف الجوية الصعبة مثل العواصف والأعاصير إلى تقلبات شديدة في البحر، مما يجعل التحكم باليخوت صعباً على قادتها وقد يؤدي ذلك إلى غرقها. بالنسبة إلى الطائرات، يمكن أن تتسبب العواصف الرعدية والأمطار الغزيرة بتدهور الرؤية وزيادة الاضطراب الجوي، مما يجعل عمليات الهبوط والإقلاع أكثر خطورة.
تلعب العوامل الميكانيكية أيضاً دوراً حاسماً، إذ يمكن أن تتسبب الأعطال الفنية في أنظمة المحركات أو الأجهزة الملاحية في فشل الطائرة في الطيران بسلام أو اليخت في الإبحار بشكل آمن. على سبيل المثال، قد تؤدي الأعطال في أنظمة التحكم أو التسربات في نظام الوقود إلى حوادث كارثية. وغالباً ما تكون الصيانة غير الكافية أو غير الدورية أو الإصلاحات غير المناسبة السبب في حدوث مثل هذه الأعطال.
في الوقت الحالي، تزداد أهمية تأثير التغير المناخي على خطر وقوع الحوادث، حيث يسهم في زيادة تواتر وشدة الظواهر الجوية القاسية مثل العواصف القوية والأعاصير والأمطار الغزيرة، مما يزيد من صعوبة التنقل سواء عبر البحر أو في الجو. بالنسبة إلى اليخوت، يمكن أن تؤدي هذه الظروف الجوية المتطرفة إلى ارتفاعات غير متوقعة في الأمواج مما يزيد من خطر الغرق أو التضرر. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤثر ارتفاع مستويات البحار على المناطق الساحلية فتزيد أخطار التصادم مع العوائق غير المرئية. أما في حالة الطائرات، فإن الاضطرابات الجوية الشديدة وتطرف أحوال الطقس السيئة يؤديان إلى تقلبات أكبر أثناء الطيران.
درهم وقاية
صحيح أن إجراءات السلامة تكلف أكثر بكثير من بضعة دراهم، لكنها تعتبر أساسية لضمان الأمان في الطيران والبحرية، وهناك جوانب رئيسة تشكل أساساً لتقليل الأخطار وحماية الأرواح.
تعتبر لوائح السلامة الدولية إطاراً مهماً لتنظيم سلامة الطيران والبحرية. على سبيل المثال، في مجال الطيران تُنظم “المنظمة الدولية للطيران المدني” معايير السلامة والتشغيل للطائرات من خلال مجموعة من القوانين واللوائح التي تشمل صيانة الطائرات ومتطلبات التدريب وإجراءات الطوارئ. في المقابل، تشرف “المنظمة البحرية الدولية” على معايير السلامة البحرية التي تشمل تصميم وبناء السفن ومعدات السلامة والإجراءات التشغيلية.
تشهد الطائرات الخاصة معدلات حوادث أعلى من التجارية رغم التقنيات الحديثة
كما تلعب التكنولوجيا دوراً حيوياً في تعزيز السلامة. في الطيران، تضم أنظمة الملاحة المتقدمة مثل GPS وأنظمة إدارة الطيران FMS التي توفر معلومات دقيقة عن المسار والملاحة مما يقلل من فرص الأخطاء البشرية. إضافة إلى ذلك، تقدم أجهزة الإنذار المبكر مثل أنظمة الكشف عن الطقس وأجهزة الطوارئ إمكانيات للتنبؤ بالأخطار والتعامل معها بفعالية. في مجال اليخوت، تستخدم تقنيات مثل أجهزة الرادار وأنظمة تتبع الموجات لتجنب التصادم مع العوائق وضمان المراقبة الفعالة للظروف المحيطة.
كما يعد التدريب المستمر للطيارين وقادة اليخوت أمراً أساسياً للحفاظ على أعلى مستويات السلامة. يجب على الطيارين الخضوع لتدريبات دورية تشمل التحديثات التقنية وتدريب الطوارئ لضمان قدرتهم على التعامل مع الحالات الطارئة بفعالية. كذلك، يجب على قادة اليخوت أن يتلقوا تدريباً منتظماً مماثلاً لضمان قدرتهم على إدارة المواقف الصعبة والحفاظ على أمان الركاب.
كلفة باهظة
تمتد تأثيرات حوادث اليخوت الفاخرة والطائرات الخاصة إلى جوانب عدة تتعلق بالخسائر المادية والبشرية وتأثيرات السمعة.
تترك الخسائر البشرية أثراً عميقاً على الأصدقاء والعائلات. على سبيل المثال، تحطمت طائرة خاصة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022 قبالة سواحل كوستاريكا، وكانت تقل ستة أشخاص، بمن فيهم رجل الأعمال الألماني الشهير راينر شالر. أدت الحادثة إلى وفاة شالر وأفراد من عائلته، مما أحدث صدمة كبيرة وأثراً عاطفياً مدمراً على الأسرة ومحيطها.
كذلك تعتبر الخسائر المادية من أبرز النتائج السلبية لهذه الحوادث التي تكلف مبالغ ضخمة، سواء من حيث قيمة المركبات المتضررة أو الكلف المرتبطة بعمليات الإنقاذ والتحقيق. على سبيل المثال، في بداية شهر أغسطس (آب)، تعرض يخت بقيمة مليون دولار لحادثة غرق بالقرب من مايوركا في إسبانيا. وعلى رغم أن الحادثة لم تكن مأساوية، إذ تم إنقاذ خمسة أشخاص بينهم طفل، فإن الكلفة المرتبطة بإصلاحات اليخت والعمليات اللوجستية للإنقاذ كانت باهظة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن التأمين يلعب دوراً حيوياً في التخفيف من الخسائر المترتبة على هذه الحوادث لكنه يكلف شركات التأمين أموالاً طائلة.
المال والمكانة والموارد لا يمكن أن تضمن السلامة في مواجهة القدر
في عام 2018، تعرض يخت فاخر يدعى “ماي لايون هارت” لحريق كبير في البحر الأبيض المتوسط، مما ألحق أضراراً جسيمة باليخت تطلبت إصلاحات واسعة. قدمت شركة التأمين التي كانت تغطي اليخت تعويضاً بنحو 30 مليون دولار لتغطية كلفة الأضرار والإصلاحات، بما في ذلك تعويضات النفقات الناتجة من الحريق. لم يشمل التعويض إصلاحات اليخت فقط ولكن أيضاً النفقات المرتبطة بالعمليات اللوجستية وإنقاذ الركاب.
في حادثة طائرة رجل الأعمال الألماني شالر، قدمت شركة تأمين تعويضاً قدره 45 مليون دولار شمل الأضرار المادية للطائرة وكلف عمليات البحث وانتشال الجثث والتحقيق.
أما التأثير على السمعة فيمكن أن يكون مدمراً لأصحاب اليخوت والطائرات وطواقمها ومصنعيها. في حادثة الطائرة التي كانت تقل لاعب كرة القدم الأرجنتيني سالا، واجه ديفيد هندرسون، الذي نظم الرحلة وكان من المفترض أن يكون هو الطيار، اتهامات تتعلق بتعريض سلامة الطائرة للخطر. أدين هندرسون في أكتوبر عام 2021، بعد محاكمة في محكمة كارديف كراون وحكم عليه بالسجن لمدة 18 شهراً. لا تؤثر هذه القضايا فقط على السمعة الشخصية، بل تمتد أيضاً لتشمل الشركات المصنعة للمركبات والمسؤولة عن صيانتها والمنظمة لرحلاتها والمحددة لمساراتها.
فبمجرد وقوع حادثة يخت رجل الأعمال البريطاني لينش أخيراً، سارعت الشركة التي صنعت المركب قبل عامين إلى الدفاع عن نفسها وتوجيه أصابع الاتهام إلى الطاقم، مؤكدة أن الحادثة نجمت عن خطأ بشري، وذلك لتفادي تأثير الكارثة على مبيعاتها والإضرار بالطلب على منتجاتها.
وهكذا يتضح أن الفخامة والثراء لا يمكن أن يوفرا حماية كاملة من الأخطار، فمهما كانت قيمة المركبات أو التقنيات المتطورة التي نمتلكها، فإن الحوادث يمكن أن تضرب فجأة وبقوة. حادثة غرق يخت لينش وغيرها من الحوادث المأساوية تؤكد أن المال والمكانة والموارد لا يمكن أن تضمن السلامة في مواجهة القدر.