حرية ـ (7/9/2024)
في مسعى لتغيير ثقافة العمل المجهدة، تسعى الحكومة اليابانية إلى تشجيع الشركات والقوى العاملة على اعتماد نظام الأسبوع المكون من أربعة أيام عمل. وتأتي هذه الخطوة في وقت تشتهر اليابان بثقافة الاجتهاد بالعمل، حتى إن هناك مصطلحاً في اللغة اليابانية يعني الوفاة بسبب الإفراط في العمل.
وكانت الحكومة اليابانية أعلنت تأييدها لفكرة تقليص أسبوع العمل بعد أن دعمت الجهات التشريعية الفكرة في 2021. غير أن الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة والعمل والرفاهية تشير إلى بطء في جهود تبنّي هذا التوجه، إذ إن ثمانية في المئة فقط من الشركات اليابانية تسمح لموظفيها بالحصول على ثلاثة أيام إجازة أسبوعياً أو أكثر، بينما تكتفي سبعة في المئة من الشركات بمنح موظفيها الحد الأدنى الإلزامي وهو يوم واحد فقط.
وتسلط هذه الأرقام الضوء على التحدي الكبير الذي تواجهه الحكومة في سعيها إلى تغيير ثقافة العمل المتجذرة في المجتمع الياباني الذي كثيراً ما اشتهر بساعات العمل الطويلة والتفاني في العمل.
ولتشجيع مزيد من المنشآت، لا سيما الصغيرة والمتوسطة، على تبني هذا النظام، أطلقت الحكومة حملة “إصلاح منظومة العمل” التي تركز على الترويج لساعات عمل أقصر وترتيبات عمل مرنة، إلى جانب تحديد سقف لساعات العمل الإضافي وتوفير إجازات سنوية مدفوعة الأجر. وتقدم وزارة العمل كذلك استشارات مجانية ومنحاً، وتسلط الضوء على قصص نجاح شركات طبقت هذا النظام، كحافز إضافي.
وأوضحت الوزارة في بيان على موقعها الرسمي أن حملة “ابتكار أساليب العمل” تهدف إلى “بناء مجتمع يتمتع فيه العاملون بحرية اختيار أسلوب العمل الأنسب لظروفهم الشخصية وتحقيق توازن إيجابي بين النمو الاقتصادي وعدالة التوزيع، مما يمنح كل فرد في القوى العاملة نظرة أكثر إشراقاً إلى المستقبل”.
وأفادت الإدارة المعنية في الوزارة والمسؤولة عن الإشراف على تقديم خدمات الدعم الجديدة لقطاع الأعمال بأن ثلاث شركات فقط تقدمت حتى الآن بطلب المشورة في شأن آليات تنفيذ التغييرات واللوائح ذات الصلة والدعم المالي المتاح للشركات المشاركة، مما يسلط الضوء على التحديات الجسيمة التي تواجهها هذه المبادرة الحكومية.
وحتى في الشركات الإلكترونية العملاقة مثل “باناسونيك” Panasonic القابضة، تواجه المبادرة تحديات، فصرح يوهي موري المشرف على تنفيذ المبادرة في أحد فروع “باناسونيك” بأن الشركة أتاحت لـ63 ألف موظف إمكان العمل أربعة أيام في الأسبوع، واختار 150 موظفاً فقط الاستفادة من هذا النظام.
وأعلنت الحكومة اليابانية دعمها الرسمي لتحقيق التوازن بين العمل والحياة ويأتي هذا التغيير في بلد كثيراً ما ارتبط نجاحه وتعافيه الاقتصادي المذهل بعد الحرب العالمية الثانية بثقافة “الموت من الإرهاق في العمل”.
ويواجه الأفراد ضغوطاً هائلة للامتثال للأعراف السائدة، ويتجلى ذلك بوضوح حتى في أبسط الأمور، كاختيار مواعيد الإجازات. فعلى سبيل المثال يميل الموظفون اليابانيون إلى تنسيق إجازاتهم مع زملائهم، وتتركز الإجازات عادةً في فترتين رئيستين: عطلة “بون” الصيفية التقليدية وإجازة رأس السنة الجديدة حتى لا يتهمهم زملاؤهم في العمل بالتقصير في أداء الواجبات الوظيفية أو اللامبالاة.
ولا تزال ساعات العمل الطويلة متجذرة في سوق العمل. فبينما يمنح 85 في المئة من أرباب العمل موظفيهم يومي عطلة أسبوعياً، وتوجد قيود قانونية على ساعات العمل الإضافي التي يتم التفاوض عليها مع النقابات العمالية، إلا أن بعض الموظفين اليابانيين يواصلون العمل لساعات إضافية من دون الإبلاغ عنها أو الحصول على تعويض مادي.
وكشف تقرير حكومي ياباني حديث عن تسجيل 54 حالة وفاة سنوياً في الأقل بسبب “كاروشي”، وهو مصطلح ياباني يعني “الموت من الإرهاق في العمل” وغالباً ما تكون ناجمة عن أزمات قلبية.
ويؤكد بعض المسؤولين ضرورة تغيير العقلية السائدة تجاه العمل في اليابان مع انخفاض معدل المواليد بصورة كبيرة الذي يعزى نسبياً إلى ثقافة العمل المكثفة، وتتوقع البيانات الحكومية تراجعاً حاداً في عدد السكان في سن العمل بنسبة تصل إلى 40 في المئة، ليبلغ ما بين 40 و45 مليون شخص بحلول عام 2065، مقارنة بنحو 74 مليوناً في الوقت الحالي.
ويعتبر أنصار نظام العمل بأربعة أيام إجازة في الأسبوع أنه حافز مهم للأشخاص الذين لديهم أطفال أو يرعون كبار السن، أو حتى للمتقاعدين الذين يسعون إلى دخل إضافي أو مرونة أكبر في حياتهم. فهو يتيح لهم البقاء في سوق العمل لفترة أطول من دون التضحية بمسؤولياتهم الأخرى.
لكن منتقدي مبادرة الحكومة يرون أن الموظفين الذين يعملون أربعة أيام في الأسبوع قد ينتهي بهم الأمر إلى العمل بالقدر نفسه من الجهد، أو حتى أكثر، ولكن بأجر أقل.
وهناك دلائل على أن التغيير حقيقي، إذ أظهر استطلاع “غالوب” السنوي الأخير الذي يقيس مستوى اندماج الموظفين في أعمالهم، أن اليابان تعاني أزمة حقيقية في مشاركة القوى العاملة. فقد صرح ستة في المئة فقط من المشاركين اليابانيين بأنهم يشعرون بالمشاركة الفاعلة في أعمالهم، وهي نسبة متدنية بصورة كبيرة مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 23 في المئة.
ويشير استطلاع “غالوب” إلى أن نسبة ضئيلة من العمال اليابانيين يشعرون بالانتماء والحماسة لوظائفهم، في حين يقضي معظمهم ساعات طويلة في العمل من دون شغف أو طاقة.
عامل في مصنع “نيسان موتور” يقوم بفحص محرك على خط التجميع في مصنع الشركة في يوكوهاما، قرب طوكيو
وتؤكد كاناكو أوغينو، رئيسة مجموعة “أن أس” NS، أهمية المرونة في ساعات العمل، بخاصة في قطاع الخدمات الذي يهيمن عليه العنصر النسائي. وتقدم شركتها التي تدير مواقع للكاريوكي والفنادق، 30 نمطاً مختلفاً من جداول العمل، بما في ذلك العمل أربعة أيام في الأسبوع، إضافة إلى الاستمتاع بفترات راحة طويلة أثناء العمل.
وحرصت كاناكو أوغينو على ضمان عدم شعور أي من موظفيها بالإجحاف لاختيارهم جدول عمل مرن يناسب حاجاتهم. ولتحقيق ذلك، تقوم أوغينو بسؤال كل موظف من موظفيها البالغ عددهم 4000 مرتين سنوياً عن الطريقة التي يفضلون العمل بها.
وتأتي هذه المبادرة في مجتمع ياباني غالباً ما يُنظر فيه إلى المطالبة بالحاجات الفردية على أنها تصرف أناني، فيُتوقع من الأفراد التضحية من أجل مصلحة المجموعة ككل.
وقالت أوغينو بابتسامة: “في اليابان، يُنظر إلى الموظف الذي يعمل لساعات طويلة ويقدم ساعات عمل إضافية مجانية على أنه بطل، ورمز للتفاني والإخلاص. لكن الحقيقة المرة هي أن هذه الحياة لا تحمل في طياتها أي حلم أو مستقبل.”