حرية ـ (11/9/2024)
أحمد عبد الحكيم
العالم على شفير المواجهة مع أي صدام محتمل بين الناتو وروسيا. تأزم الملفات وتعقدها بين قطبي الاقتصاد الأكبر تنذر بانفجار الأوضاع. الأزرة النووية جاهزة في حالة الأخطار الوجودية. موازنات الدفاع والتسليح لدى الغرب تصعد لمستويات غير مسبوقة بسبب التهديدات المقبلة من موسكو وبكين. الحرب الأوكرانية ستكون الشرارة التي ستعيد العالم إلى ويلات الحروب العالمية. حرب غزة واحتمالات توسيع الصراع والصدام المباشر بين إيران وإسرائيل قد تكون بدايات لحرب عالمية ثالثة. رؤساء دول وحكومات وقادة فكر وسياسيون يحذرون من السقوط في فخ “نهاية العالم” بسبب تعمق الخلاف بين الدول الكبرى.
على مدار أكثر من عقدين من الزمن أنذرت في أكثر من مناسبة الانعطافات الخطرة ومحطات الصدام المتعددة في مسيرات العلاقات بين الدول الكبرى أو حتى الفواعل الإقليمية البارزة، بمواجهات تفتح معها احتمالات عودة العالم إلى مشاهد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعلى رغم أنه ومع كل مرة، استطاع المنخرطون في تلك الأزمات تجنب الانجراف نحو “الهاوية” أو الوصول إلى ما يعرف بسيناريو “يوم القيامة”، إذ الصدام النووي واستخدام الأسلحة الاستراتيجية جددا أشكال وحدة الصراعات التي خيمت على العالم في الأعوام الخمسة الأخيرة من تكرار الحديث عن مخاوف اندلاع “حرب عالمية ثالثة”، لا سيما أمام حدة تعارض المصالح وعودة ما يعرف بـ”حروب الوكالة” بين الأطراف الفاعلة في النظام الدولي.
من ينظر إلى خريطة بؤر التوتر الساخنة حول العالم في الوقت الراهن لا يألو جهداً في رؤية الاحتدام غير المسبوق وتعارض المصالح واتساع الصراعات بين الأطراف الفاعلة، إذ الحرب الروسية – الأوكرانية التي دخلت عامها الثالث من دون حل في الأفق، مع أحلام روسية باستعادة أمجاد إمبراطورتيها، ثم جاءت الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة لتخلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط وتوسع من احتمالات التصعيد المباشر بين طهران ووكلائها بالمنطقة من ناحية وتل أبيب وحلفائها الغربيين من ناحية آخر، وذلك في وقت تستمر فيه التوترات في بحر الصين الجنوبي، مع تحين بكين للحظة المناسبة لـ”استعادة تايوان” التي ترى فيها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، فضلاً عن انتشار بؤر توتر ساخنة أخرى وصراعات حدودية في كل من القارة السمراء وآسيا وشبه الجزيرة الكورية.
لماذا يتردد الحديث عن “حرب عالمية ثالثة” تضاهي في سخونتها ما شهده العالم في الربع الأول من القرن الماضي وخلال حقبة الأربعينيات بين الحين والآخر، ومتى بدأ النقاش يتسع حول هذا الاحتمال، وهل العالم فعلاً بات يعيش على وقعها مع اعتبار البعض أنها بدأت بالفعل منذ أعوام، أم إن الدول لا تزال قادرة على حساب “الخطوط الحمراء” بين أقطابها وكلفة تجاوزها.. أسئلة كثيرة تحاول “اندبندنت عربية” الإجابة عنها في ذلك التقرير، بحثاً عن توصيف دقيق لشكل المرحلة الراهنة من عمر النظام الدولي، عبر التقليب في كتابات وأفكار أبرز المؤرخين والساسة حول العالم في الأعوام الأخيرة، لا سيما مع إقرار كثر أن سخونة التوترات العالمية وصلت إلى درجة التحذير من صراع غير مسبوق بين القوى العظمى، حيث آلاف الرؤوس النووية والنزعة إلى العنف والتوسع والسيطرة واستخدام القوة.
لماذا الحروب “خيار” بشري؟
لم تكن شرارة الحرب التي اندلعت في الأراضي الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022، وباتت “أخطر أزمة جيوسياسية تهدد الاتحاد الأوروبي” منذ الحرب العالمية الثانية أو حرب القطاع في غزة المندلعة منذ أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وسقوط المنطقة في إحدى “أصعب وأعقد” أزماتها منذ عقود، إذ الحديث عن اتساع المواجهة في كلامها وانخراط أطراف غربية وإقليمية، هي الأحداث الأولى في القرن الـ21 التي يتصاعد معها الحديث عن سيناريوهات “الحرب العالمية الثالثة”، أو حتى ما يعرف في القواميس السياسية والعسكرية بسيناريو “يوم القيامة”.
فبعد انتهاء الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي حيث سقوط الاتحاد السوفياتي وتحول العالم نحو الهيمنة الأميركية، اعتبر كثيرون من الكتاب والمؤرخين أن تكون تلك المرحلة خاتمة الصراع بين الأقطاب الكبرى، لا سيما أمام إدراك عديدين أن العالم لم يعد يحتمل تكرار رؤية المشاهد الدموية التي حدثت في الحربين العالميتين حيث خسائر بشرية بعشرات الملايين فضلاً عن التبعات المادية والاقتصادية المدمرة، صاحب ذلك تعقد حسابات الأطراف الفاعلة والإدراك المتبادل لـ”الخطوط الحمراء”، وتطور مفاهيم وأدوات الردع، مع ميل البعض إلى “الاعتمادية الاقتصادية”، كانت كلها كفيلة لتجنيب العالم “الوقوع في الهاوية” حتى الوقت الراهن.
إلا أنه وخلال الأعوام الأخيرة، أحيا استمرار الصراعات وتضارب المصالح بين الدول الكبرى، واحتدام المنافسة في ميادين ومجالات جديدة، إضافة لتصعيد التوترات في البؤر الساخنة حول العالم خلال العقدين الأخيرين، المخاوف في كل مرة من احتمالات نشوب “حرب عالمية ثالثة” لا سيما مع انخراط أطراف كثيراً ما لوحت باستخدام الأسلحة النووية في حال تعرض مصالحها لـ”تهديدات وجودية”، مما طرح أسئلة مستمرة عن أسباب استمرار الصراعات وتطورها وتصاعدها بصورة متواصلة.
في أبسط الإجابات حول ذلك التساؤل، يقول بعض علماء العلوم الإنسانية والاجتماعية، إن “الصراع يظل إحدى أهم العلامات المميزة للطبيعة البشرية”، نظراً إلى الفجوة المتسعة بين محدودية الموارد واتساع الطلب عليها وسعي بعض البلدان المستمرة لفرض الهيمنة والسيطرة على دول أخرى، وهو الأمر الذي تجلى في الحروب الإقليمية العدة التي اندلعت طوال العقدين الأخيرين وما انفكت تهدد السلم والأمن العالميين من شرق الكرة الأرضية إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.
جنود روس خلال نقلهم إلى ساحات القتال في الحرب العالمية الثانية
وبحثاً عن أسباب لجوء العالم للحرب، كتب المؤرخ البريطاني الشهير ريتشارد أوفري في يونيو (حزيران) الماضي بصحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية، يقول إن “محاولتنا التنبؤ باندلاع حرب مستقبلية يدفع لطرح سؤال آخر هو: لماذا نشن الحروب في الأساس؟”، ليجيب بأن الحرب ظلت سمة مميزة للتاريخ البشري المعروف بأكمله تقريباً، كما أن العنف الحربي سبق إنشاء الدول الأولى، ويظل السؤال الأساسي بحسب المؤرخ، هو حول تحديد السبب وراء تطوير البشر للنزعة القتالية إلى جانب قدرتهم على التعاون الاجتماعي.
ويوضح أوفري، في تحليله المعنون “فات الأوان لوقفها”، أن “العلوم الإنسانية ظلت طوال جزء كبير من القرنين الـ20 والـ21 تحاول تحديد سبب تلك النزعة، فيرى علماء الأحياء التطورية وعلماء النفس مثلاً أن الحرب كانت وسيلة الإنسان البدائي لضمان البقاء وحماية الأقارب والتعامل مع الأزمات البيئية”، ثم يضيف “لا شك بين علماء الأحياء، في أن العنف لم يكن موجوداً في جيناتنا، وحتى إن شُنت حروب في الماضي، فالحروب القديمة كانت مختلفة كلياً عما هي عليه اليوم”.
ووفق أوفري فإن “الحربين العالميتين (الأولى والثانية) بدأتا بانقضاض قوة كبرى على قوة أقل أهمية (ضرب النمسا لصربيا في عام 1914، وغزو ألمانيا لبولندا في عام 1939) ثم انجرت قوى أخرى إلى هذه الدوامة، وقد يحدث هذا مع حالة الصين وتايوان، وحدث بالفعل قبل عامين مع أوكرانيا”، منبهاً إلى أن حقيقة كون السلام قد يبدو خياراً عقلانياً لمعظم البشر لم تتمكن أبداً من خنق الرغبة في القتال عندما يبدو ذلك “ضرورياً أو مربحاً أو إلزامياً”. ويتابع “بدأ الناس إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، يرون أن الحرب أصبحت من الماضي، لكن لو كان الأمر كذلك لكان من الممكن أن نعيش الآن في عالم خال من الأسلحة والخوف”.
رؤية أخرى يشير إليها المؤرخ الأميركي نيال فيرغسون، وفق ما نقلت عنه وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، يفسر بها استمرار التوترات المتصاعدة في الوقت الراهن التي قد تكون “نذير حرب أوسع بكثير في أسوأ الاحتمالات”، وهي حرص الدول على امتلاك “مصادر القوة العسكرية”، قائلاً، “عبر التاريخ، كان المصدر الرئيس للقوة هو التفوق التكنولوجي في مجال التسلح، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والاتصالات”، ويتابع مسيرة تطور تلك المصادر للقوة، “كان الفحم والحديد والقدرة التصنيعية على الإنتاج الضخم للمدفعية والقذائف، فضلاً عن السفن البخارية، هي المدخلات الرئيسة في الحرب العالمية الأولى، ثم في عام 1939، كان النفط والصلب والألمنيوم والقدرة التصنيعية لإنتاج المدفعية والسفن والغواصات والطائرات والدبابات بكميات كبيرة هي المدخلات الرئيسة، ثم بعد عام 1945، كانت كل ما سبق، إضافة إلى القدرة العلمية والتقنية لإنتاج الأسلحة النووية”. مستكملاً “تكمن اليوم المدخلات الحيوية لصناعة جيش متطور في القدرة على إنتاج كميات كبيرة من أشباه الموصلات والأقمار الاصطناعية وأنظمة الحرب الخوارزمية التي تعتمد عليها”.
وبحسب فيرغسون، ولأن الحروب التي اندلعت في الفترة ما بين عامي 1991-2019 كانت صغيرة الحجم (مثلما حدث في البوسنة، وأفغانستان، والعراق)، فقد نسينا أن الحرب هي المحرك المفضل في التاريخ للتضخم، والتخلف عن سداد الديون وحتى المجاعات.
من جانبه، عزا أليستر هيث، في صحيفة “ديلي تليغراف” البريطانية، استمرار احتمال اندلاع حرب عالمية بين القوى الكبرى، إلى “حجم الأسلحة الجديدة المكتشفة وإخفاق الغرب في فهم أعدائه يزيدان من خطر نشوب صراع مروع”، معتبراً أن “البشر ظلوا محظوظين حتى الآن، فعلى رغم أنهم هم من اخترع الأسلحة النووية قبل أكثر من سبعة عقود، فإنهم لم يستخدموها في قتل بعضهم بعضاً منذ إلقاء الولايات المتحدة قنبلة نووية على مدينة ناغازاكي اليابانية”. وتابع، “يعبث البشر بالهندسة الوراثية، وبالسفر إلى الفضاء، ويستغلون الذكاء الاصطناعي وبعض الكائنات المسببة للأمراض الفتاكة، لكنهم لم يستخدموا حتى الآن أياً من تلك التقنيات في حرب جماعية”. وأشار إلى أن “الثقة بالنفس المنتشرة في العالم الحالي تزيد إلى حد الغرور والغطرسة احتمالات اندلاع صراع دولي خطر، أسوأها وقوع حرب عالمية أخرى، أكبر بكثير مما ندرك، وهي احتمالات تتفاقم يوماً بعد يوم”.
ووفق هيث فإن “التشاؤم من احتمالات اندلاع حرب عالمية راهنة، هو جزء من لعبة أرقام”، معتبراً أن “الخطأ الأحمق الفادح” المتمثل في انتشار التقنيات المتطورة بما فيها السلاح النووي، يكمن في قدرة مزيد من الدول على إلحاق ضرر جسيم بأعدائها، وأن الجغرافيا السياسية أصبحت أكثر تعقيداً من أي وقت مضى مع انتهاء الهيمنة الأميركية على العالم، مما زاد من احتمال حدوث سوء فهم فادح أو نزاع محلي في أفريقيا أو أميركا الجنوبية أو آسيا يخرج عن السيطرة”.
وإلى جانب النزعة البشرية القتالية والقدرات التسليحية غير المسبوقة فضلاً عن احتمالات “الخطأ الأحمق”، يبرز مايكل كوفمان الباحث البارز في مؤسسة “سي أن أي” ومؤسسة “كينان” التابعة لمركز “ويلسون” الأميركي، وجود أسباب أخرى تدفع العالم نحو التصارع والحرب، قائلاً وفق ما نقلت عنه هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، “كانت الحرب الباردة عبارة عن سباق بين قطبين سياسيين يتنافسان على تشكيل السياسة الدولية، وكان كلا النظامين يتمتع بمزايا اقتصادية وعسكرية”. أضاف “جعلت أيديولوجيتهم الشمولية تلك المنافسة حتمية، وكان لا بد من اقتسام السلطة”.
وبحسب كوفمان، “في الوقت الراهن لم تعد المنافسة نتيجة لتوازن القوى، أو الأيديولوجية الشمولية في حد ذاتها، بل قرارات واعية اتخذها القادة، واستراتيجيات اتبعوها، وسلسلة من الخلافات المحددة في السياسة الدولية”.
يشار إلى أنه وفق ما توثقه كتب التاريخ والأرشيفات، وقعت خلال القرون الماضية صراعات كثيرة بين الإمبراطوريات والقوى الاستعمارية، وخلال النصف الأول من القرن الماضي عاش العالم كابوس حربين عالميتين، أزهقتا معاً أرواح 100 مليون إنسان في الأقل.
ففي الحرب العالمية الأولى التي استمرت أربعة أعوام (1914-1918)، وانتهت بانتصار دول الحلفاء: بريطانيا، وفرنسا، وروسيا (دول الوفاق الثلاثي)، وانضمت لها لاحقاً الولايات المتحدة، واليابان، وإيطاليا، شكل فيها اغتيال الصرب ولي عهد المملكة النمسوية المجرية بالعاصمة سراييفو عام 1914، لحظة فارقة في تاريخ البشرية، وكانت نتيجتها قتل نحو 10 ملايين جندي، و7 ملايين مدني، وتسببت كذلك في انتشار الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بأكثر من 70 مليون إنسان، ومع نهاية الحرب في عام 1918، سقطت أربع إمبراطورية عظمى في ألمانيا، وروسيا، والنمسا، وتركيا (دول المركز).
أما الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) فبدأت كصراع إقليمي في آسيا، حينما غزت اليابان إقليم منشوريا الصيني، تلا ذلك صراع آخر منفصل في أوروبا، انطلق بغزو ألمانيا بولندا، ثم انخرطت الولايات المتحدة في القتال بعد تعرض أسطولها في قاعدة بيرل هاربر بالمحيط الهادئ لهجوم ياباني. وانتهت الحرب بانتصار دول الحلفاء (أميركيا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي والصين) وهزيمة دول المحور (ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية وإيطاليا الفاشية) عام 1945. وعلى رغم طبيعة الصراع الطويلة والمدمرة التي أودت بما يقارب 60 مليون عسكري ومدني فإن أبرز النتائج التي نتجت منها، إعادة بناء النظام العالمي الجديد، وتأسيس الأمم المتحدة، وتحول العالم من حالة تعددية الأقطاب إلى ثنائية القطبين: الأول القطب الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، والثاني القطب الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي.
لماذا تكرار الحديث عن حرب عالمية ثالثة؟
لم يكن الحديث حول احتمال اندلاع “حرب عالمية ثالثة” وليداً لتلك الأزمات والصراعات الحديثة التي شهدها القرن الـ21، وارتفعت حدتها في الأعوام الأخيرة في عدد من المناطق الساخنة حول العالم، إذ وعلى رغم من إدراك العالم هول تكرار المشاهد الدموية للحربين العالميتين الأولى والثانية فإنه ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 لم تنقطع التحذيرات من اندلاع حرب عالمية ثالثة، وبقيت المخاوف من احتمال حدوثها قائماً طوال العقود الثمانية الماضية.
وبحسب رصد لـ”اندبندنت عربية”، جاءت أبرز المحطات التي تصاعد معها الحديث عن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة خلال أعوام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، لا سيما أثناء الحرب الكورية، التي كانت أولى الحروب ذات البعد الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وإحدى نتائج الحرب الباردة بين القطبين الشيوعي والرأسمالي، إذ اندلعت منتصف عام 1950 بين جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (الشمالية) مدعومة من روسيا، وجمهورية كوريا (الجنوبية) بحماية أميركا. وفتكت بـ5 ملايين إنسان، وانتهت بهدنة بين الطرفين عام 1953، ثم تكرر الأمر ذاته مع أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، حين كان العالم على شفير أول مواجهة نووية بين القطبين الكبيرين.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تجدد الحديث عنها في حرب فيتنام (1955 – 1975) التي كانت إحدى أهم الحروب في القرن الـ20 إبان الحرب الباردة، إذ دارت رحاها بين الولايات المتحدة والشيوعيين الفيتناميين. خلفت ملايين القتلى والجرحى واللاجئين، وكبدت واشنطن خسائر فادحة بشرياً وعسكرياً واقتصادياً، إضافة لذلك عاد شبح الحرب العالمية الثالثة ليخيم على العالم عندما غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان في عام 1980، ثم لاحقاً في محطات الصراع التي شهدها القرن الـ21 والتي بدأت مع إعلان واشنطن “الحرب على الإرهاب” في عام 2001 في أعقاب تفجيرات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، ثم غزوها أفغانستان والعراق، وبعدها الحرب الروسية- الجورجية في 2008.
تسع دول حول العالم تمتلك أكثر من 12 ألف رأس نووي
وخلال الأعوام الخمسة الأخيرة، جاءت موجة جديدة من الصراعات الكبرى والمعارك، على غرار الحرب بين أذربيجان وأرمينيا سنة 2020 حول ناغورنو قره باغ، والقتال في منطقة تيغراي شمال إثيوبيا، والصراع الناجم عن استيلاء جيش ميانمار على السلطة عام 2021، والهجوم الروسي على أوكرانيا عام 2022، ثم حربي السودان وغزة في عام 2023، فضلاً عن استمرار التوترات في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان، وفي شبه الجزيرة الكورية، حتى وصل الأمر بحسب توصيف مجلة “نيوزويك” الأميركية، أن العالم بات مشتعلاً بالصراعات ومليئاً بالأسلحة، حيث توجد “حروب لا مركزية بجبهات قتال غير متصلة تمتد عبر قارات العالم، وتخاض بطرق هجينة بالمرتزقة والتجسس والمسيرات والصواريخ الباليستية وحملات التضليل والتدخل السياسي والحرب السيبرانية”، معتبرة أن “استراتيجية هذه الحرب تطمس الخطوط الفاصلة بين الحرب والسلام والمقاتلين والمدنيين، وتضفي ضباباً على ضبابها”.
وعليه، وطوال محطات الصراع والتوتر الكبرى في كل بؤرة ساخنة حول العالم يكون أحد أطرافها القوى الإقليمية أو الدولية الكبرى أو تلك التي من ضمن عالم مالكي الأسلحة النووية والاستراتيجية يعود الحديث عن احتمالات نشوب “الحرب العالمية الثالثة”، مما يكثر معها رسم السيناريوهات والاحتمالات وفرص أخطار السقوط في الهاوية، مما استدعى البعض استحضار مقولة الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت في عام 1937 حيث أعوام قليلة قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية حين وصف المشهد العالمي بأنه يسوده “وباء الفوضى العالمية المنتشر”، إذ الاندفاع للهيمنة والسيطرة بالإكراه وتصاعد استخدام العنف واللجوء إليه.
وفي مقارنة الظروف الدولية والجيوسياسية والظروف الراهنة للنظام الدولي التي يشهدها العالم في الوقت الراهن، وما كان عليه قبل اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، يجادل ستيفن ويرثيم كبير الباحثين في السياسة الخارجية الأميركية بمؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي” والمحاضر بكلية الحقوق في جامعة ييل، بأن “احتمالات اندلاع صراع كوني جديد يبدأ مع نسيان مآسي الحربين العالميتين السابقتين”، وأضاف أن “الإدارة الأميركية الحالية تدرك الكلفة الباهظة لحرب عالمية ثالثة، التي ستكون أسوأ بكثير من الحروب السابقة”.
ووفق ويرثيم بحسب ما كتب في تحليل بصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، فإن “أحد أسباب تجنب اندلاع حرب عالمية ثالثة هو الخوف من هذه الحرب حتى مع الهيمنة العسكرية لأميركا على العالم”، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن “الذاكرة ليست ثابتة أبداً. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أعيدت صياغة الحرب العالمية الثانية على أنها انتصار أخلاقي ولم تعد حكاية تحذيرية، وإن الدرس المزدوج المستفاد من الحروب العالمية، وهو دعوة أميركا لقيادة العالم مع عدم المبالغة، حصر في نصيحة أحادية التفكير للحفاظ على القوة الأميركية وتوسيعها”. واعتبر أن “الولايات المتحدة دخلت حقبة جديدة من التنافس الشديد بين القوى العظمى، الذي يمكن أن يتصاعد إلى حرب تقليدية أو نووية واسعة النطاق. ولذلك حان الوقت للتفكير في العواقب”.
إلى ذلك وعلى وقع احتدام التوتر بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة، والباحثين عما يعرف بـ”إعادة صياغة النظام الدولي” كما في حالة كل من روسيا والصين، مما يعزز من فرص الصدام بينهما طوال الوقت، كتب جوزيف إبستاين في مجلة “نيوزويك” الأميركية، يقول، إن “العالم يعيش غمار حرب عالمية ثالثة بالفعل”، موضحاً “ربما تكون واشنطن في حالة إنكار، إلا أن روسيا والصين وإيران تخوض حرباً علنية مع الولايات المتحدة”، وذلك على وقع الحرب الروسية – الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية في غزة.
ووفق إبستاين، فعلى رغم أن “ثمة خلافات بين الصين وروسيا وإيران حول مسائل كثيرة، فإنها جميعاً دول لديها نفس هدف وهو تخليص مناطقهم من النفوذ الأميركي، واستحداث نظام حكم عالمي متعدد الأقطاب”، مضيفاً أن “بكين وموسكو وطهران يدركون أن القوة السياسية والعسكرية الأميركية هي القوة الوحيدة التي تحول بينهم وبين فرض إرادتهم على جيرانهم”.
سيناريوهات الحرب المحتملة؟
في جدالهم ونقاشهم حول السيناريوهات المتوقعة في شأن الانزلاق نحو الحرب العالمية الثالثة أو حتى أطرافها المتخيلون في ضوء شكل وطبيعة النظام الدولي الراهن وحجم اتساع بؤر التوتر وتعقدها، يرجح كثير من المؤرخين والباحثين والساسة والكتاب، أن تكون الشرارة الأولى تحول الحروب بالوكالة القائمة والمنتشرة في الوقت الراهن إلى صدامات مباشرة بين القوى النووية أو حدوث “خطأ في التقدير” في الصراعات القائمة.
ووفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن تسع دول حول العالم تمتلك أكثر من 12 ألف رأس نووي، وهي روسيا والولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا وباكستان والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية، بينما تستضيف ست دول أخرى بعض هذه الرؤوس التي تعد أقوى بمرات عدة من تلك التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي باليابان عام 1945.
وفي كتاب حديث بعنوان “الحرب النووية: سيناريو”، رسمت الصحافية الأميركية آني جاكوبسن، بناءً على وثائق ومقابلات، صورة تخيلية للشكل الذي سيكون عليه الصراع النووي المحتمل، خلصت فيه إلى أنه “خلال 72 دقيقة ستتمكن ثلاث دول مسلحة نووياً من قتل مليارات البشر، بينما سيبقى الباقون يتضورون جوعاً على أرض مسمومة، إذ لم تعد الشمس تشرق ولا الغذاء ينمو”.
هتلر وموسوليني خلال الحرب العالمية الثانية في ألمانيا عام 1940
وعليه يرسم المؤرخ البريطاني ريتشارد أوفري، ثلاثة سيناريوهات قريبة قد تشعل الحرب العالمية الثالثة، التي تضمن “احتمال إعلان إيران أنها أنتجت قنبلة نووية وحيث احتمالات حشد الجيش الأميركي قواته على حدودها لدخولها فتصطف روسيا والصين وكوريا الشمالية إلى جانبها، والثاني دفع الإحباط الصين لغزو تايوان فتقوم الولايات المتحدة بتفعيل خطط الطوارئ لإنقاذ تايوان وقد تتطور الأمور لحرب شاملة، وثمة احتمال أن يتعرض، ومن دون سابق إنذار، نظام الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية في الغرب للهجوم. وقد يؤدي ذلك لإلحاق أضرار جسيمة بشبكاته الإلكترونية التجارية والعسكرية ولا أحد يعترف بأنه أطلق الصواريخ، ولكن في خضم الفوضى التي قد تعقب ذلك، سرعان ما يتم توجيه اللوم إلى الدول المناهضة للغرب، ويكون في هذه الحالة من الصعب شن أعمال انتقامية مع انهيار الاتصالات”.
وفق أوفري، “ففي ظل عدم اليقين في شأن ما يجب فعله، قد تصدر أوامر بالتعبئة العسكرية في جميع أنحاء العالم الغربي، وربما طالبت روسيا والصين بوقف تلك التعبئة، لكن، وكما حدث في عام 1914، فمن الصعب إيقاف العجلات، بمجرد أن تتحرك، وهنا قد تتفاقم الأزمة، فتكون حرب الفضاء الأولى تحصيل حاصل”. قبل أن يستدرك قائلاً، “هذه السيناريوهات الثلاثة ممكنة، ولكن يجب أن أوضح أن أياً منها ليس محتملاً، فالتنبؤ أو التخيل على الأصح، من الممكن أن يؤدي إلى إنتاج أوهام خطرة تعمل على تعزيز القلق في شأن أمن المستقبل”، بل قد يكون التشخيص الأكثر منطقية خطأ في حد ذاته، خصوصاً أن تطوير الأسلحة النووية أدى لتغيير كبير في شروط أي صراع عالمي مستقبلي”، وفقاً لأوفري.
وعلى رغم أن التاريخ قد يساعدنا على التفكير في صورة الحروب المستقبلية، كما يقول المؤرخ، فإنه يوضح أننا نادراً ما نتعلم من دروس التاريخ. ومع ذلك فإن السؤال حول الكيفية التي قد تندلع بها حرب عالمية ثالثة يطاردنا اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مضيفاً أن “مجرد تخميننا في شأن هذه الحرب هو دليل على توقعاتنا بأن الحرب من نوع ما تظل حقيقة في عالم يتسم بعدم الأمان المتعدد الأسباب”، معتبراً أن الصراعات في أوكرانيا وغزة وميانمار والسودان هي تذكير بهذا الواقع المستديم، كما تشير التهديدات المنتظمة من جانب روسيا في شأن استخدام الأسلحة النووية إلى أن خيالاتنا قد لا تكون بعيدة كل البعد من الواقع.