حرية ـ (16/9/2024)
راغدة درغام
لنتعمق، ولو قليلاً، في ناحية السياسة الخارجية الأميركية كما يتصورها المرشحان للرئاسة، الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب ونائبة الرئيس الديموقراطي كامالا هاريس، وكما قد تؤثر، ولو قليلاً، في العملية الانتخابية والسباق إلى البيت الأبيض.
السؤال الذي يفرض نفسه أولاً هو عن مدى اعتماد هاريس سياسات إدارة جو بايدن، أو ابتعادها عنها، نحو الملفات الساخنة، وليس في إطار الاستراتيجية الكبرى حيث لا حاجة بها إلى إبراز هوية كامالا هاريس.
أثناء المناظرة بينها وبين ترامب، حرصَت هاريس، منذ أن بادرت الى مصافحة ترامب معرِّفةً عن نفسها بالاسم، على التكرار بعزم أنها ليست جو بايدن “وبالتأكيد ليست دونالد ترامب”. حرصت على طمأنة الناخب الأميركي إلى أنها امرأة بشخصية مستقلة وليست ملحقاً، حتى وإن كانت نائبةً لرئيس ما زال في السلطة. خلعت قميص النائب الذي جعلها تبدو امرأة ركيكة متقوقعة لا محل لها من الإعراب في صنع السياسة الخارجية أو الداخلية سوى بمهمات محدودة. لبست بين ليلة وضحاها بدلة القيادة بقفزة مدهشة بمساعدة فريق أعاد اختراعها، لكنها كانت جاهزة، ليس فقط لإعادة اختراع نفسها بل أيضاً للانتقام من تغييبها وتقليصها.
دونالد ترامب زعم، بلا أدلة، أن جو بايدن يكرهها، بل “لا يطيقها”. البعض في إدارة بايدن لا يخفي أنه أصيب بالإحباط إزاء ترددها وعدم قدرتها على الاستيعاب، لا سيّما عندما تعلّق الأمر بالسياسات الكبرى ومنها السياسة الخارجية. فماذا ستفعل كامالا هاريس أثناء الحملة الانتخابية للإبحار بين سياسات بايدن وسياسة هاريس كي تتجنب أن تكون ضحية لأخطائه وتستفيد في الوقت ذاته من إنجازاته؟
الرئيس الأسبق باراك أوباما وزوجته ميشيل يعتبران نفسيهما “كوبل” قيادة الحزب الديموقراطي وينظران إلى كامالا هاريس على أنها وريث الأوبامية، بل وريثة باراك وميشيل اللذين يصنعانها ويستعدان لرسم سياساتها وطاقم إدارتها. لا مؤشر حتى الآن إلى أن كامالا هاريس تريد الاستقلالية عنهما كما تريد الانفصال عن جو بايدن، وليس واضحاً إن كانت تود دخول البيت الأبيض بفريق غير فريق بايدن حتى ولو كان جزءاً من فريق أوباما.
لماذا الأمر مهم؟ لأن كامالا هاريس تُحسن الأداء بعد تدريب فريق لها، لكنها لم تثبت حتى الآن أنها قادرة على التفكير بلا فريق. هذا ليس جديداً على رؤساء أميركيين، لكن الفارق هو أن المرشحة هاريس تركب موجة احتضانٍ لها أتت كمفاجأة بعدما اقتنع بايدن بعد مناظرته الكارثية مع ترامب بأن عليه التنحي عن الترشّح للرئاسة.
هاريس كانت دائماً في ذهن بايدن نائبةً دائمةً ولم تكن قائدةً تحلّ مكانه. هاريس هي المفاجأة، ليس فقط لبايدن الغاضب من انقلاب حزبه عليه بقيادة أوباما، بل هي المفاجأة لترامب الذي لربما يلعن تلك المناظرة الكارثية لأنها قلبت الطاولة على ثقته بأنه سيخلع بايدن من البيت الأبيض. الأسوأ للرجلين، بايدن وترامب، هو وقوع كثير من الأميركيين في الغرام مع هاريس، بمساهمة جديّة من الإعلام الأميركي الذي يكره بمعظمه ترامب وكان محبطاً بترشيح بايدن.
المفاجأة أتت أيضاً بردود الفعل الدولية على ترشيح هاريس التي تميّزت ببعض الترحيب بها رغم التحفظ عليها، قيادات وشعوباً. فجأة لم يعد الانتباه منصباً على دونالد ترامب بل بدأ يتحوّل إلى كامالا هاريس، ليس فقط لأنها مادة جديدة على ساحة الانتخابات الأميركية، بل لأنها خامة غير اعتيادية، بدءاً بضحكتها الطبيعية العفوية حتى وإن كانت مزعجة للبعض، انتهاءً بقدرتها على التأقلم مع التطورات السريعة التي أتت بها مرشحة للحزب الديموقراطي تقارع ترامب جيداً في مناظرة.
العالم أخذ علماً بأن هاريس مرشحة جدّية للرئاسة الأميركية، وبدأ يتهيأ لذلك الاحتمال. القيادات العالمية عادت إلى طاولات رسم السياسة لتتعرّف إلى أميركا بقيادة هاريس فيما كانت قبل شهرين قد رسمت سياساتها على أساس أن ترامب هو الرئيس العائد إلى البيت الأبيض.
فلندقّق، ولو قليلاً، في الرسائل التي تركتها المناظرة بين المرشّحَين كما في الملفات الساخنة التي يتولى معالجتها فريق إدارة بايدن، ولنركّز على ملف أوكرانيا وملف غزة ضمن ملفات أخرى.
الرئيس السابق كان واضحاً في أن هدفه هو “إنهاء” الحروب وليس إدارتها ولا إدارة الأزمات. اتهم بايدن – هاريس بالضعف البنيوي بما سمح باندلاع حرب أوكرانيا وحرب غزة.
عندما سُئِل إن كان يدعم ضمان انتصار أوكرانيا في الحرب التي شنتها عليها روسيا، كان جوابه بمنتهى الوضوح وخلاصته أنه يختلف جذرياً مع إدارة بايدن ومع المرشحة للرئاسة نيابة عن الحزب الديموقراطي.
فهما ملتزمان استمرار الدعم لأوكرانيا بالسلاح والمال حتى إحراز انتصارها على روسيا. كلاهما يريد أن يكون رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي مفتاح هزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتقليصه.
كامالا هاريس أوضحت أن أولويتها هي تقزيم بوتين عبر تمكين زيلينسكي مهما كانت الكلفة على الولايات المتحدة. أوضحت أنها ملتزمة سياسة بايدن القائمة على توطيد صفوف حلف شمال الأطلسي (ناتو) بأيّ كلفة والمضي إلى توسيع تلك العضوية. خلاصة موقفها هي دعم استمرار الحرب حتى النصر.
دونالد ترامب أوضح أنه لا يريد تغطية نفقات حروبٍ تخدم أوروبا أكثر من أميركا، ولا يريد لأميركا أن تتحمّل نفقات استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا. أوضح أنه لا يريد معادلة الانتصار والهزيمة ولا يرى أنها في مصلحة أميركا. يريد إنهاء الحرب بصفقة يقول إنه جاهز لها وهي جاهزة له، ويزعم أنه قادر على تحقيق ذلك بمساهمة كل من بوتين وزيلينسكي بعيداً عن معادلة الربح والخسارة.
توجه ترامب إلى الناخب الأميركي ليقول له إنه لا يريد لأميركا أن تدفع فاتورة الآخرين على حسابه بإنفاق المليارات التي هو الأجدر بها في زمن التضخم وانهيار الاقتصاد. هكذا ضرب على وترٍ مهم للأميركيين الذين لا يريدون الإنفاق على نشر الديموقراطية في العالم أو على محاربة الدكتاتورية على حساب اقتصادهم.
هاريس اتهمت ترامب بأنه يسترضي الاضطهاد ويعقد الصفقات مع الدكتاتوريين مثل بوتين، بحسب قولها. اعتبرت أن الإنفاق على حرب أوكرانيا ضد روسيا أمر مصيري للمصالح الأميركية، ليس فقط في قيادة الناتو بل أيضاً في وقف روسيا عن التوسّع في أوروبا إذا انتصرت في أوكرانيا. تعمّدت أن تذكر بولندا حيث تسكن جالية كبيرة من الأميركيين – البولنديين في ولاية بنسلفانيا المهمة لأنها ولاية قادرة على تغيير الموازين بقلة من أصوات المترددين. فهي من أهم الولايات المتأرجحة.
إذاً، الفارق كبير جداً بين سياسة المرشحين، ليس فقط إزاء حرب أوكرانيا، بل إزاء المعركة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. الفارق أن هاريس متمسكة بالاستمرار في دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، بينما ترامب يريد صفقة تنهي الحرب وهو لا يوافق على الاستمرار في دعم أوكرانيا بالسلاح والمال والسياسة والمحاور.
في ما يتعلق بإسرائيل وحرب غزة، الفارق أيضاً لافت لأن هاريس وفريق بايدن يؤمنان بالعمل نحو “وقف النار” كمحطة أساسية في التطرق إلى حرب غزة. أما ترامب فإنه يؤمن بأن “إنهاء” الحرب هو السياسة الضرورية. هذا فارق أساسي لأن “وقف النار” يدخل في سياسة الاحتواء والتدريجية والتفاهمات، فيما “الإنهاء” يعني الحسم الآني إما عسكرياً أو عبر إجراءات ضمن صفقة تُفرَض بلا تقطير أو تنازلات. ترامب لا يقدّم تفاصيل ما في ذهنه سوى تلميحه إلى أنه يدعم تمكين إسرائيل ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من “استكمال مهمته” كما قال، أي استخدام كل ما لديه للقضاء على “حماس” وقياداتها.
فريق ترامب وفريق بايدن – هاريس يريدان تلك الصفقة الكبرى بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية. الفارق أن ترامب يؤمن بأن لديه الوسائل للوصول إلى الصفقة الكبرى بإحياء الاتفاقيات الإبراهيمية عبر صهره جاريد كوشنر بقفزٍ على حرب غزة وتداعياتها. أما فريق بايدن – هاريس فإنه يرى أن وقف النار بين إسرائيل و”حماس” في غزة هو أهم المفاتيح إلى تلك الصفقة الكبرى ريثما يتم شق الطريق إلى حل الدولتين الذي تشترطه السعودية وغيرها من الدول العربية كجزء أساسي من الموافقة على الصفقة الكبرى.
أبرز ما يميّز سياسة ترامب عن سياسة بايدن – هاريس في موضوع الشرق الأوسط هو إيران، وليس إسرائيل. مع إسرائيل، يتعهد كل من المعسكرين بالدعم القاطع لها تحت عنوان “حق الدفاع عن النفس” ويعتبران “حماس” منظمة إرهابية. ترامب يرفض التعامل مع “حماس” تحت أي ظرف كان. بايدن – هاريس تبنّى تفويض شركاء عرب، مصر وقطر، التفاوض مع “حماس”. ترامب يريد القضاء على “حماس” ولن يضغط على إسرائيل للقبول بأي بديل من ذلك. المعسكر الديموقراطي يعتقد أن لا مجال للقضاء على “حماس”، وبالتالي الأفضل لإسرائيل أن تتوصل إلى ترتيبات تحيّد “حماس” وتكبلها وتسلبها القيادة.
أما نحو إيران، فإن الفارق شاسع بين سياسة الطرفين، إذ إن ترامب لن يتعاطى مع إيران ولن يفاوضها سوى إذا نفّذت شروطه، وهو يعتمد مبدأ إفلاس إيران كي لا تتمكن من الاستمرار في تمويل “حماس” و”حزب الله” والحوثي في اليمن والحشد الشعبي في العراق. هكذا، في رأيه، يمكن إركاع إيران وأذرعها ودفعها إلى إيقاف برنامجها النووي وتخريبها الإقليمي.
فريق بايدن الذي ستستمر هاريس في سياساته – على الأرجح – ينطلق من استرضاء إيران وإقناعها عبر صفقات على نسق تلك التي أبرمها معها الرئيس الأسبق باراك أوباما. هكذا يمكن احتواء إيران وأذرعها، بحسب تفكير هذا المعسكر، بالإرضاء وليس بالإركاع، بالدبلوماسية وليس بالإفلاس أو العسكرة.
بعكس مواقف إدارة بايدن – هاريس نحو روسيا العدوّة القاطعة للغرب التي تجب مواجهتها عسكرياً، بحسب رأيها، فإن إيران ليست العدوّ الدائم بل هي نوع من الشريك الضروري لإنجاز احتوائها لأن مواجهتها عسكرياً مرفوضة قطعاً، شاءت إسرائيل ذلك أو استدرجت أميركا إلى الحرب مع إيران. وعليه، ترى الإدارة الديموقراطية أن لا مناص من إرضاء إيران واسترضائها والنزول عند شروطها. إيران ترحب بذلك وهي “تصوّت” سيبرانياً لمصلحة هاريس عبر استهداف حملة ترامب.
مغامرة كبيرة يخوضها الفريق الديموقراطي الذي يقوده وزير الخارجية أنطوني بلينكن ومدير الاستخبارات المركزية وليام بيرنز بمشاركة فعّالة من مسؤولين رفيعين هما بريت ماكغورك وآموس هوكشتاين. تارة يعلنون الاقتراب من ساعة الصفر والاحتفاء بإنجاز وقف النار، وتارة يربطون بين غزة وجنوب لبنان، ثم يصرون على تفكيك ذلك الارتباط الذي يصر عليه “حزب الله” وإيران كتكتيك في مساندة “حماس” وهم يدركون أنه لا يخدم سوى في تقديم لبنان ضحية للإسناد. وتارة يرضخون للربط بين غزة ولبنان لأن “حزب الله” يصر على ذلك.
خلاصة تفكير فريق بايدن بقيادة آموس هوكشتاين نحو لبنان هي التالي: استخدام الوقت للتحضير لفك الارتباط بين لبنان وغزة مع الأمل والعمل على إقناع إسرائيل بألا تفعّل الجبهة الشمالية، ذلك لأن إشعال الجبهة مع لبنان يعني مشروع حرب إقليمية، وثانياً، إقناع إسرائيل بألا تحوّل الضفة الغربية إلى غزة لأنه ليس في مصلحتها ولا في المصلحة الأميركية لأن تلك السياسة ستنسف مشروع الصفقة الكبرى مع السعودية وغيرها، علماً أن تلك الصفقة هي التي تضمن لإسرائيل الأمن لا العكس.
المشكلة أن هناك لغطاً بين الآمال والأفعال لدى الإدارة التي تتولى السلطة من الآن وحتى شهر كانون الثاني (يناير) بغض النظر إن فازت هاريس أو فاز ترامب.
وعلى سبيل المثال، يثق فريق بايدن – هاريس بأنه سيقنع إسرائيل بأن غزو لبنان لن يحل المشكلة وهو واثق بأنها لن تنفذ تهديداتها بغزو لبنان. يؤمن بأن في وسعه إبرام صفقة في الجنوب مع إيران و”حزب الله” ينطوي جزء منها على إعادة بناء الجنوب اللبناني المدمر بأموال غربية – أميركية وأوروبية.
آمال هذه أم تطمينات أم هي فعلاً جزء من الصفقات التي تُبحَث في الخفاء مع إيران و”حزب الله”، مع “حماس” وإسرائيل؟ لن نعرف سوى إذا خرج زعيم “حماس” يحيى السنوار ورفاقه من الأنفاق بضمانات أمنية من إسرائيل. عندئذ لن تكون إيران وحدها التي تصوّت ضد ترامب، بل تكون إسرائيل قد اضطرت للتصويت مع هاريس، علماً أن حربها على غزة ما زالت تتطلب تدفق الأسلحة والأموال من البيت الأبيض الذي يقطنه جو بايدن وليس دونالد ترامب.