حرية ـ (18/9/2024)
عندما كانت سارة ميزوغوتشي في سن المراهقة، كان طولها 164 سنتيمترا، أما وزنها فكان أقلّ من المعدل الطبيعي.
تقول سارة: “كنت أفكر في الطعام طوال الوقت وكنت دائما جوعانة. المرة الوحيدة التي أكلت فيها الكعك كانت في يوم عيد ميلادي، وقد استمر ذلك لثلاث إلى أربع سنوات”.
سارة الآن في عامها الـ 29، وهناك كثيرات من أمثالها في اليابان، حيث تفضّل معظم النساء الصغيرات أن يكون وزنُهنّ أقلّ من المعدل الطبيعي، رغم ما يكتنف ذلك من مشاكل صحية خطيرة.
وكشف مسحٌ أجرته وزارة الصحة اليابانية في عام 2019 أن 20.7 في المئة أو واحدة من بين كل خمس نساء ممن تتراوح أعمارهن بين 20 إلى 29 عاما، يقلّ وزنها عن المعدل الطبيعي الصحّي، حيث يقلّ مؤشر كتلة الجسم عن 18.5.
وتوصي منظمة الصحة العالمية بأن يحافظ الناس على بقاء مؤشر كتلة أجسامهم ما بين 18.5 و25.
ومن بين كل الدول مرتفعة الدخل في العالم، تعتبر اليابان الدولة الوحيدة التي يسود فيها تفضيل النساء للبقاء على وزن يقلّ عن المعدل الطبيعي.
ولا يوجد تشابه مع هذا الوضع السائد في اليابان إلا في الدول الأكثر فقراً في العالم، مثل تيمور الشرقية، بوروندي، إريتريا والنيجر، وفقاً لدراسة أجريت في عام 2024 لبحث التوجهات الأكثر انتشارا حول العالم، لا سيما على صعيد السمنة والنحافة، وقد نُشرت هذه الدراسة في دورية ذا لانسيت الطبية.
وبالعودة إلى حقبة التسعينيات من القرن الماضي، كان شغف اليابانيات بالنحافة أقل مما هو اليوم، ولم تكن اليابان في ذلك الحين استثناء لدى المقارنة بغيرها من الدول (فيما يتعلق بهذا التوجّه) كما هي الآن.
وكشفت دراسات عديدة عن تنامي التوجّه صوب النحافة بين النساء اليابانيات من صغار السن.
وقبل بضع سنوات، شاع مصطلح “وزن سندريلا” بين النساء صغيرات السن في اليابان. ويشير المصطلح إلى حالة يقلّ فيها مؤشر كتلة الجسم بمقدار ضئيل عن المعدّل الطبيعي والوزن الصحي.
وعليه، فإن “وزن سندريلا” هذا غير صحي، ومع ذلك فهو منشود من جانب الكثير من النساء اليابانيات.
وعبر الإنترنت، أثير جدل كبير حول هذا التوجّه، وانتقد كثيرون “وزن سندريلا”، باعتباره هدفا غير واقعي وغير صحي، من وجهة نظرهم.
معيار ثقافي
توموهيرو ياسودا، باحث بجامعة سيري كريستوفر اليابانية، قام بدراسة التوجُّه صوب النحافة من قِبل النساء صغيرات السن في اليابان.
وأظهرت الدراسة أنه حتى هؤلاء اللاتي اعترفن أنهن بحاجة إلى اكتساب وزن، فإن إجمالي وزنهن – بعد أن نضيف إليه هذا الوزن الذي يرغبن في اكتسابه – يظلّ دون المعدل الطبيعي والصحي.
وكانت النساء اللاتي شاركن في الدراسة التي أجراها توموهيرو نحيفات، وكُنّ بحاجة إلى اكتساب نحو 10.3 كيلوغرامات من أجل الوصول إلى الوزن المثالي (حيث مؤشر كتلة الجسم عند 22)، لكن هؤلاء النسوة قُلن إنهن بحاجة إلى اكتساب حوالي 400 غراما فقط.
وقال توموهيرو لبي بي سي: “في اليابان يشيع بين النساء الصغيرات تفضيل النحافة الشديدة على نحو قد يعصف بمستوى الخصوبة لديهن، ويعرّض المواليد إلى نقص الوزن، كما يعرّض النساء إلى ضمور اللحم [وهو نوع من الفقد العضلي عادة ما يواكب التقدم في السن و/أو العجز عن الحركة]”.
ويمكن أن يتسبب سوء التغذية في هشاشة العظام، الأنيميا وعدم انتظام الدورة الشهرية، فيما يؤدي عدم تناول ما يكفي من البروتين إلى نقص الكتلة العضلية.
وقال توموهيرو إن عددا من تلميذاته في كلية التمريض بجامعة سيري كريستوفر قُلن له إنهن يرغبن في خسارة الوزن تشبّهاً بالنجمات المفضلات لديهن.
ونوّه توموهيرو في هذا الصدد إلى تأثير وسائل الإعلام اليابانية والإعجاب القديم بالولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما يتجلى بوضوح في عالم الموضة وغيرها من مظاهر الثقافة اليابانية.
رحلة سارة لكي تصبح صانعة محتوى في مجال الأغذية
سارة ميزوغوتشي، هي الآن صانعة محتوى عبر الإنترنت في مجال الأغذية، وتعيش في العاصمة اليابانية طوكيو.
وقالت سارة إنها عندما كانت لا تزال طفلة كان أبوها وأُمّها يشجعانها لكي تكون رشيقة، “أُمّي لم تكن تريد لي أن أكون سمينة”.
وتشير سارة إلى أن والديها في أثناء تناول وجبات الطعام كانا ينصحانها بأكل اللحوم والخضروات بدلا من الأرز الذي يحتوي على الكثير من الكربوهيدرات والقليل من العناصر المغذية، وقد ظلت هذه العادة تلازم سارة على مدى سنوات عديدة.
عُلبة الطعام التي كانت تأخذها معها إلى المدرسة لم تكن تحتوي على غير الخضروات واللحوم. وفي ذلك تقول سارة: “لم أكن أرغب في تناول الأرز على الإطلاق”.
وبينما كانت في المرحلة العمرية بين الـ 12 والـ 15، كانت سارة ترغب في أن تكون عارضة أزياء، ومن ثمّ كانت حريصة جدا فيما يتعلق بكمية السعرات الحرارية التي تتناولها.
تقول سارة: “في المدرسة، كنت أتنافس مع فتاة أخرى. وذات يوم، جلبت هذه الفتاة بعض السلطات والفول الأخضر وشيئا من اللحم لوجبة الغداء، وأتذكّر أني قلت لها ‘طعامك مليء بالسعرات الحرارية’”.
وفي المدرسة الثانوية، عندما بدأت في دراسة علم البيولوجيا، أدركت سارة أنها بحاجة إلى تناول المزيد من الطعام.
تقول سارة: “درست حقائق عن جسم الإنسان وكانت تلك لحظة تنويرية. نعم! نحن جميعا في حاجة إلى عناصر مغذية”.
وفي عام 2011، واجهت اليابان كارثة نووية بعد أن اكتسح تسونامي شمال شرقي اليابان إثر زلزال أرضي.
وتتذكر سارة: “عبر التليفزيون، قال خبير إنه إذا كان المرء يتمتع بصحة جيدة فإن فرصة تأثُّره بالإشعاع النووي تكون أقلّ. وبفضل كلام هذا الخبير وما تلقيتُ من دروس في علم البيولوجيا، أصبحت أتناول المزيد من الطعام وبالتالي اكتسبت المزيد من الوزن، حتى أصبح وزني حوالي 45 كيلوغراما”.
بعد ذلك، انتقلت سارة إلى المملكة المتحدة، حيث اكتشفت أنّ الناس لا يدققون في مسألة السعرات الحرارية، فاكتسبت ثلاثة كيلوغرامات أخرى.
وعن هذه المرحلة تقول سارة: “لقد عشت حياة جامعية سعيدة حتى عُدت إلى اليابان في الأجازة، ليلفت مَن حولي – بمَن فيهم أُمي- نظري إلى أنني أصبحت سمينة. فكان عليّ أن أخسر عددا من الكيلوغرامات، لكن ذلك لم يستمر طويلا”.
ولقد عادت سارة إلى تناول الأرز قبل أربعة أعوام عندما كان عمرها 25 عاما.
تقول سارة: “أنا في غاية السعادة وتمام الصحة؛ لقد زاد وزني سبعة كيلوغرامات، وأنا الآن في المعدل الطبيعي والصحي، وأصبح لدي عضلات كما أنني أمارس قسطاً من التمارين البدنية”.
تحدّي معايير الجمال اليابانية
وفي اليابان أيضا، هناك شخصيات شرعت في تحدّي معايير الجمال السائدة في البلاد فيما يتعلق بالنحافة.
دولمي أوباتا، تبلغ من العمر 25 عاما، نصفها ياباني والنصف الآخر سريلانكي، بينما هي تعيش في كاناغاوا جنوبي العاصمة طوكيو.
بشرة دولمي ذات اللون الداكن، وبِنيتها الضخمة، وشعرها ذو الملمس المختلف – كل هذا جعل منها هدفاً للتنمّر في سنوات المدرسة.
ففي المدرسة الابتدائية، كان الأولاد يسمّونها البنت السوداء، ولم يكن الأطفال الأصغر منها سِناً يقبلون منها اللُعب.
وتتذكر دولمي تلك الأيام قائلة: “كانوا يظنون أن يداي متسختين لأنهما داكنتي اللون”.
ولما ناهزت سن البلوغ في حوالي عامها الـ13، بدأت دولمي تلاحظ الفروق بشكل أكثر وضوحا بينها وبين أترابها، فكانت هي أكثر امتلاءً وذات كُتل عضلية أكبر، لكن ذلك لم يضايقها.
وفي عام 2021، وبعد البحث عن عارضات أزياء من فئة الوزن الزائد، قررت دولمي دخول سباق ملكة جمال اليابان. ولقد نافست دولمي حتى الأدوار النهائية.
وفي ذلك تقول: “في أثناء السباق، لم أكن أرغب في خسارة شيء من وزني؛ إنما كان هدفي هو تعميم فكرة النظر بإيجابية للجسم، ولنفسي كعارضة أزياء من فئة الوزن الزائد. لقد أردتُ تغيير معايير الجمال في اليابان”.
وتضيف دولمي: “على الرغم من أني مررت في طفولتي بتجارب كادت تفقدني الثقة في نفسي، لكنني الآن فخورة وواثقة من نفسي، ربما ليس بدرجة 100 في المئة، لكنني على ما يرام”.
مجابهة ثقافة النحافة
عكفت حكومات يابانية متعاقبة على محاولة مجابهة مشكلة النحافة الزائدة لدى النساء، وذلك عبر اتخاذ عدد من التدابير، بينها تقديم إرشادات تغذوية للتلاميذ.
وفي مارس/آذار 2000، أصدرت الحكومة المبادئ التوجيهية الغذائية لليابانيين، واقترح أحد تلك المبادئ أنه ينبغي على الناس أن يحاولوا الحفاظ على أوزان مناسبة مع ممارسة ما يكفي من التمارين الرياضية، فضلاً عن تناول وجبات غذائية متوازنة، وألا يحاولوا خسارة أكثر من اللازم من أوزانهم.
وفي عام 2022، دشنت الحكومة مبادرة دعتْ بدورها إلى معالجة مشكلات تغذوية بينها النحافة الزائدة والتي تشيع بين النساء صغيرات السن.
وعملت سلطات محلية، خارج العاصمة طوكيو، على تقويض فكرة أنّ النحافة تضفي جاذبية على المرأة، منوّهة في هذا الصدد إلى المخاطر الصحية التي تكتنف النحافة الزائدة.
وفي ظل هذه الثقافة، تمثّل ياسوكو وكالة بلووم كرييتيف للعارضات من فئة الوزن الزائد في اليابان.
وتعتقد ياسوكو أنه لا يزال هناك تحيّز ضد النساء ذوات الوزن الزائد في اليابان، وأن هذه الفئة من النساء تعرّضت تاريخيا للتهميش لمصلحة النساء الرشيقات.
تقول ياسوكو إن كثيرات من النساء السمينات مررن بخبرات سلبية بسبب شكل أجسامهن سواء كان ذلك في البيت من جانب أفراد في الأسرة، أو في المدرسة من جانب الزملاء.
وتضيف ياسوكو أن النساء السمينات في اليابان كثيرا ما كُن يشعرن بأن المجتمع لا يعيرهن انتباهاً، لا سيما عندما لا يجدن مقاسات مناسبة لأجسامهن.
وإذا كانت المقاسات الآسيوية للملابس عادة ما تكون أصغر من نظيرتها في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فإن مقاسات الملابس في اليابان أصغر بكثير من نظائرها حول العالم، على نحو جعل بعض مواقع التسوق تقترح على الغربيين الذين يرغبون في شراء ملابس من اليابان أن يطلبوا أربعة أضعاف المقاس الذي يلبسونه في المعتاد.