حرية ـ (23/9/2024)
لم تتحقّق أماني آخر زعماء الاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، بجعل منطقة القطب الشّمالي “قطباً للسّلام”، فقد تحرّكت دبّابات الناتو وأجرت إنزالاً كبيراً على الحدود مع النرويج، في أكبر مناورة عسكرية يجريها الحلف منذ تأسيسه، كما انتشرت القواعد العسكرية الرّوسية والأميركية بشكل لافت في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية، وهو ما ينذر بانتقال الصّراع إلى أقصى شمال أوروبا.
على مدى العقد الماضي، قامت روسيا بتوسيع وتعزيز جيشها في القطب الشمالي من خلال مجموعة من القواعد العسكرية والمطارات والمنشآت العسكرية والرادارات، فضلاً عن أنظمة الأسلحة الدفاعية والهجومية، وذلك استعداداً لمعركة تراها “باتت قريبة جداً”. ووفقاً للمجلس الأطلسي للدراسات، فقد بات لموسكو 7 قواعد عسكرية قائمة في القطب المتجمد، فيما تسعى واشنطن للحاق بها وتثبيت وجودها هناك.
وفي يوليو الماضي، أصدرت وزارة الدفاع الأميركية “البنتاجون” نسخة محدثة من استراتيجيتها للقطب الشمالي، إذ حددت خططاً لتدريبات عسكرية مشتركة مع حلفائها لإظهار الاستعداد القتالي والقدرات العملياتية. وسلطت الاستراتيجية أيضاً، الضوء على نوايا للعمل مع الشركاء والصناعات المحلية والقبائل الأصلية في ألاسكا لـ”تعزيز الردع المتكامل وزيادة الأمن المشترك” في المنطقة.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، إن موسكو مستعدة للدفاع عن مصالحها في القطب الشمالي، حتى من خلال الوسائل العسكرية، مع زيادة الناتو تدريباته العسكرية في المنطقة.
وأضاف لافروف في مقابلة أجراها مع وكالة “ريا نوفوستي”، الجمعة، “إننا نرى كيف يصعد الناتو من التدريبات المتعلقة بالأزمات المحتملة في القطب الشمالي. وبلدنا مستعد تماماً للدفاع عن مصالحه في الجبهات العسكرية والسياسية والعسكرية التقنية”.
ووفقا لاستراتيجية البنتاجون، تعتزم الولايات المتحدة وحلفاؤها تقديم أكثر من 250 طائرة مقاتلة حديثة متعددة المهام، يمكن نشرها للقيام بعمليات في القطب الشمالي بحلول 2030.
وعلى غرار القطب الشمالي، يمثل القطب الجنوبي هدفاً أساسياً للنزاعات الجيوسياسية وسبباً للصراعات المحتملة في المستقبل القريب، باعتباره منطقة ذات أهمية استراتيجية أخرى، إذ تحتوي على 70% من احتياطي العالم من المياه العذبة، ويؤثر ذوبانها بشكل مباشر على مستوى سطح البحر.
الناتو وروسيا
تمتدّ الدّائرة القطبية الشمالية لمسافة 10 آلاف ميل تقريباً (16 ألف كيلومتر). يعيش داخلها أربعة ملايين شخص فقط. وعلى طول أكثر من 6 آلاف كيلومتر من ساحل القطب الشمالي، قامت روسيا بتحديث وتوسيع المنشآت العسكرية القائمة وبناء العديد من المرافق الجديدة، بحسب موقع “هايت نورت نيوز”.
وتتركز القواعد العسكرية الروسية على نحو خاص، على طول الروافد الغربية للممر الشمالي الشرقي، بما في ذلك بحر بارنتس، وبحر كارا، بالقرب من مقر الأسطول الشمالي الروسي في سيفيرومورسك في شبه جزيرة كولا.
تشرح ريبيكا بينكوس، مديرة المعهد القطبي في مركز ويلسون، أن معظم الأصول النووية الاستراتيجية لروسيا، تتركز في شبه جزيرة كولا في القطب الشمالي، مضيفة أن القطب الشمالي الغربي، بما في ذلك بحر بارنتس، بمثابة ممر يتمكن من خلاله أكبر أسطول روسي من الوصول إلى محيطات العالم”، وفق “هايت نورت نيوز”.
منذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت منطقة القطب الشمالي، خالية إلى حد كبير من الصراعات الجيوسياسية. وفي عام 1996، شكلت الدول الثمانية التي تقع في منطقة القطب الشمالي (روسيا وكندا والسويد وفنلندا والنرويج والدنمارك والولايات المتحدة وأيسلندا) مجلس القطب الشمالي، إذ وافقت على معايير “حماية البيئة والاحترام المتبادل واستغلال التكنولوجيا لاستخراج الموارد الطبعية المشتركة في المنطقة”.
ومع صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة في عام 2000، زاد اهتمام موسكو بالمنطقة القطبية الشمالية لتصبح من أولويات السياسية الخارجية لروسيا. وأصبح اهتمام الكرملين بالمنطقة واضحاً بعد وقت قصير من خروج روسيا من الاضطرابات التي كانت تعاني منها في تسعينيات القبرن الماضي، واستأنفت تدريجياً موقفها النشط على المسرح العالمي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وفق معهد “كارنيجي للسلام الدولي”.
وتاريخياً، مثل القطب الشمالي امتداداً جغرافياً طبيعياً لدولة روسيا بحكم حدودها الشاسعة التي تلامس القطب المتجمد، فيما أدى توسع الناتو إلى إثارة مخاوف الكرملين، خاصة مع انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف العسكري الغربي.
وفي حديثه مع “الشرق” يؤكد الخبير في المنطقة الإسكندنافية، رسلان إرزيكيفيسيوس، أن “جهود روسيا لإعادة تأهيل منطقة القطب الشمالي أصبحت واضحة للغاية، ويُقدّر حلف شمال الأطلسي هذه الحقيقة، وقد عزّز العضوان الجديدان، فنلندا والسويد، موقعهما هناك لمواجهة الأطماع الروسية”.
وأوضح إرزيكيفيسيوس، أن فنلندا والسويد انضمتا إلى حلف الناتو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022. وكانت السويد محايدة طوال نحو 200 عام قبل ذلك. كما أن النرويج والدنمارك هما العضوان المؤسسان لحلف شمال الأطلسي، ومن ثم لا يمكن الاستهانة بكل هذا”، مضيفاً أن “دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) انضمت قبل 20 عاماً؛ لأنها كانت تخشى التوسع الروسي، وبالنظر إلى ما تفعله روسيا في أوكرانيا الآن، فقد كان قراراً صحيحاً”.
“بصمة دبلوماسية أميركية”
وفي العام الماضي، أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن الولايات المتحدة ستفتتح محطة في مدينة “ترومسو” في أقصى شمال النرويج، مشدداً على ضرورة وجود “بصمة دبلوماسية أميركية” فوق الدائرة القطبية الشمالية. ويوضح الدكتور نيل ملفين، مدير الأمن الدولي في المعهد الملكي للخدمات المتحدة RUSI: “لقد نسفت الحرب في أوكرانيا هذه الفكرة، وتحول التركيز الكامل الآن إلى بناء جبهة أوروبية ضد روسيا”، وفق معهد “كارنيجي”.
وفي حديثه مع “الشرق” يشير جيوم جوبان، المؤرخ الفرنسي والمتخصص في النزاعات، إلى أن القطب الشمالي كان دوماً محطة للنزاعات، لكن “يسهل التحكم فيها”، ففي نهاية المطاف “هو مجرد ماء، سواء كان متجمداً أم لا”، مضيفاً أن “المعاهدات الدولية المتعلقة بالمناطق الاقتصادية الخالصة EEZ دقيقة تماماً فيما يتعلق بحقوق كل دولة”.
تقع منطقة القطب الشمالي بمحاذاة 8 دول؛ كندا والدنمارك (بما في ذلك جرينلاند) وفنلندا وأيسلندا والنرويج وروسيا والسويد والولايات المتحدة (ألاسكا). وقد شكلت هذه الدول الثماني مجلس القطب الشمالي لمعالجة القضايا المهمة للمنطقة وتعزيز التعاون.
وشكّل القطب الشمالي منذ فترة طويلة ساحة محتملة للحرب، وخاصة الحرب النووية. وتفتخر الغواصات الأميركية والروسية المتمركزة هناك بصواريخ باليستية عابرة للقارات، وتعمل كرادع نووي استراتيجي. بالنسبة لموسكو، تشكل شبه جزيرة كولا في أقصى شمال غرب روسيا بوابة للسفن من أسطولها الضخم من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية بشكل رئيسي. ومن خلال ما يسمى بفجوة GIUK، وهي الفجوة بين جرينلاند وأيسلندا والمملكة المتحدة، يمكن للغواصات الروسية الوصول إلى المحيط الأطلسي، وفق مجلة Spiked.
قواعد عسكرية ومطارات
وعلى مدى العقد الماضي، قامت روسيا بتوسيع وتحديث 7 قواعد عسكرية ومطارات موجودة في جميع أنحاء القطب الشمالي، بما في ذلك روجاشيفو في نوفايا زيمليا (أقصى شمال روسيا)، كما قامت أيضاً ببناء 3 قواعد على الأقل في مواقع جديدة أو بالقرب من منشآت الحرب الباردة المتهالكة، بحسب موقع “هايت نورت نيوز”.
تتبع القواعد الثلاث تصميماً مشابهاً، يُشار إليه عادةً باسم Arctic Trefoil ويتكون من غرفة معيشة مركزية ومبنى إداري على شكل مثلث. وتقع القواعد في الجزء الغربي والوسطى والشرقي من القطب الشمالي الروسي، وتم افتتاحها بين عامي 2015 و2017.
تقع قاعدة ناجورسكوي الجوية على ألكسندرا لاند، وهي جزء من أرض فرانز جوزيف، على بعد حوالي 350 كيلومتراً شرق سفالبارد. وتقع قاعدة تيمب الجوية على طول وسط مياه القطب الشمالي الروسية في جزيرة كوتيلني، وهي جزء من جزر سيبيريا الجديدة.
وفي الشرق الأقصى، تقع قاعدة أوشاكوفسكوي الأصغر قليلاً في جزيرة رانجيل. وجهزت روسيا عدداً من القواعد بصواريخ أرض جو من طراز S-300 و س-400.
وفي 9 فبراير 2023، قال الأدميرال قائد البحرية الأميركية، داريل كودل، في ندوة رعاها المعهد القطبي التابع لمركز ويلسون ومركز الاستراتيجية البحرية CMS: “لدى روسيا الآن ست قواعد، و14 مطاراً، و16 ميناء للمياه العميقة، و14 كاسحة جليد”.
كما يتألف الأسطول الشمالي الروسي المتمركز بالقرب من القطب المتجمد من نحو 12 غواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية بالإضافة إلى سفن سطحية، بما في ذلك طرادات قتالية صاروخية ثقيلة تعمل بالطاقة النووية. وفي السنوات الأخيرة، أعادت روسيا أيضاً احتلال قواعد قديمة في القطب الشمالي تعود إلى حقبة الحرب الباردة لتعزيز وجودها.
دور صيني جديد
كما أن دور الصين في الدائرة القطبية الشمالية، يزيد التوترات. وتدعم الاستثمارات والتقنيات الصينية عمليات استخراج الوقود الأحفوري الروسي ونقله في القطب الشمالي. وعلى الرغم من أن الصين ليس لديها أي مطالبات برية أو بحرية في القطب الشمالي، فقد أعلنت نفسها “دولة قريبة من القطب الشمالي” في عام 2018، مستشهدة بتأثير التغيرات في بيئة القطب الشمالي على بيئة الصين.
ويشير الخبير في النزاعات رسلان إرزيكيفيسيوس في تصريحات لـ”الشرق”، إلى أن الاهتمام الصيني بمنطقة القطب الشمالي، ازداد بشكل لافت، ليس فقط بسبب مواردها الطبيعية، ولكن بسبب رغبة بكين في فتح طريق جديدة للشحن تمر عبر المياه القطبية الشمالية، وتؤدي إلى المحيط الأطلسي.
ويعد القطب الشمالي أيضاً، موقعاً للنزاعات غير النووية المحتملة بين روسيا وأعضاء الناتو. يقع لواء الكرملين رقم 200 للبنادق الآلية على بعد بضعة كيلومترات فقط من حدود روسيا القصيرة مع النرويج وحدودها الأطول بكثير مع فنلندا. وتتمركز قوات مشاة البحرية الروسية الأخرى أيضاً في المنطقة، بما في ذلك القوات الخاصة. وقد تكبدت كلتا الوحدتين خسائر فادحة في أوكرانيا، لكن موقعهما وإحياءهما المستقبلي المحتمل لا يزالان يثيران قلق النرويج، وفق مجلة Spiked.
ويشير جوبان إلى أن “كندا والنرويج منخرطتان في المعاهدات الدولية وهما دولتان مسالمتان، ولا مصلحة لهما في جر الولايات المتحدة إلى منطق المواجهة بشأن احتمالات تراجع الكتلة الجليدية، سواء للملاحة أو للنفط”، مشدداً على أن “أوروبا خارج المنافسة إلى حد ما فيما يتعلق بهذه القضية، إذ إن النرويج ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي”.
وبشأن المناورات التي يجريها “الناتو” في أقصى شمال أوروبا، أوضح المؤرخ الفرنسي أن هذه المناورات مجرّد تصريف لمواقف أوروبية “ضيقة”، مضيفاً أن أوروبا لا يمكنها الاستثمار في القطب الشمالي؛ لأن التنقيب عن النفط في البحر مكلف للغاية، فيما تسيطر روسيا على ثلثي ساحل المحيط المتجمد الشمالي، وتدافع عن حقوقها الطبيعية هناك.
واعتبر أن روسيا احترمت الاتفاقيات الدولية لعقود من الزمن. وفي البحر الأسود، استعادت شبه جزيرة القرم، الروسية تاريخياً والتي يسكنها الروس بنسبة 95%. وبشأن أهداف موسكو التوسعية، يؤكد جوبان أنها “مجرد دعاية أميركية”.
استراتيجية أميركية جديدة
تقع منطقة القطب الشمالي الأميركية بشكل رئيسي في ألاسكا، التي يبلغ طول ساحلها أكثر من 34 ألف ميل. ولا تمتلك الولايات المتحدة سوى قاعدة واحدة في القطب الشمالي، وهي قاعدة ثول الجوية في جرينلاند.
في 16 مارس 2021، نشر الجيش الأميركي استراتيجيته الجديدة في القطب الشمالي. وتنص الوثيقة، التي تحمل عنوان استعادة الهيمنة في القطب الشمالي، على أن الجيش يجب أن “ينظم نفسه لتحقيق النصر في القطب الشمالي”، وأن المنطقة تمثل “ساحة للمنافسة، وخط الهجوم في الصراع، ومنطقة حيوية تحتوي على العديد من الموارد الطبيعية، ومنطقة حيوية”.
وتدرس واشنطن طرح استراتيجية جديدة خاصة بالقطب الشمالي خلال الأسابيع المقبلة، إذ وافقت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأسبوع الماضي، على ترشيح مايكل سفراجا، الخبير الجغرافي، كسفير متجول للولايات المتحدة في المنطقة القطبية الشمالية، وفق موقع “ميليتاري تايمز”.
وسفراجا، الذي سيكون أول من يشغل هذا المنصب الذي تم إنشاؤه حديثاً، سيتم تكليفه بتعزيز المصالح الأميركية في المنطقة في وقت تسعى فيه روسيا والصين أيضاً إلى بناء قدرات عسكرية في القطب الشمالي.
والأسبوع الماضي، قال قائد قيادة قوات الأسطول الأميركي، الأدميرال، داريل كودل، إن “الولايات المتحدة لن تتنازل عن القطب الشمالي” لموسكو أو بكين. وأضاف أن “الحدود الشاسعة” للقطب الشمالي “تحظى باهتمام كبير مني”، وفق ما نقله موقع البحرية الأميركية.
نزاع دولي على الموارد الطبيعية
وأضاف الأدميرال في اجتماع للجمعية الأميركية للمهندسين البحريين، أن “ذلك يعني زيادة الوجود البحري الأميركي، وإنشاء بنية تحتية للعمليات المستدامة على المستوى الإقليمي وتعزيز التعاون مع الحلفاء في القطب الشمالي. وأشار إلى أن 6 من الأعضاء الثمانية في مجلس القطب الشمالي هم من حلفاء الناتو”.
وشدد على أن “حوض القطب الشمالي مليء بالمنافسة” التي تتجاوز السيطرة على خطوط الاتصالات البحرية”. وتمتلك المنطقة 13% من احتياطيات النفط غير المكتشفة في العالم، و30% من الغاز الطبيعي غير المكتشف، وفقًا لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية لعام 2012.
ويعني ارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي، أن هناك المزيد من الفرص لاستخراج المعادن مثل البلاديوم والكوبالت والنيكل المطلوبة في صناعات التكنولوجيا المتقدمة. وقدر كودل وجود معادن بقيمة تريليون دولار في المنطقة. وأضاف أن ذلك جذب الاهتمام الدولي، وخاصة من بكين و”خلق المزيد من النشاط البشري في المنطقة”.
وقال كودل، إن الصين، التي تعلن نفسها “دولة قريبة من القطب الشمالي”، تقوم ببناء ثلاث كاسحات جليد لتسهيل استخدامها لطريق بحر الشمال للشحن التجاري، ولكن أيضاً لتوسيع علاقاتها الاقتصادية مع روسيا في مجالي الطاقة والتعدين. وأشار إلى أن الولايات المتحدة لديها كاسحتا جليد بنيتا في سبعينيات القرن الماضي.
وتشير التقديرات إلى أن المنطقة تحتوي على خُمس احتياطيات النفط والغاز غير المكتشفة في العالم، والعناصر الأرضية النادرة مثل الذهب والنيكل والزنك. وفي حين أن معظم هذه المناطق موجودة داخل الحدود البرية غير المتنازع عليها إلى حد كبير لدول القطب الشمالي، فإن المياه الدولية الصالحة للملاحة بشكل متزايد هي التي تمثل نقطة الاشتعال الأكثر احتمالاً، وفق مجلة Spiked.
ويحق للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، الحصول على الموارد التي تقع ضمن مسافة 370 كيلومتراً من شواطئها، لكن معظم موارد الغاز الطبيعي في القطب الشمالي تقع خارج هذه الحدود القانونية.
وتخلق هذه المسافة تدافعاً للسيطرة على هذه الموارد، الأمر الذي يتجاوز تأثير المنظمات الدولية، مما يؤدي إلى مزيد من الصراع. وعلى هذا النحو، بدأت حتى الدول البعيدة عن القطب الشمالي في التدخل في شؤونه، مثل الصين، التي تكمن مصالحها في الموارد التي يمتلكها القطب الشمالي، وليس الأرض نفسها.
ووفقاً للبروفيسور كلاوس دودز، الخبير في الجغرافيا السياسية ودراسات الجليد في رويال هولواي ومؤلف كتاب Border Wars، فإن أرخبيل سفالبارد النرويجي يمكن أن يشكل مجالاً آخر للصراع. وبموجب معاهدة تم توقيعها في عام 1920، تتمتع مجموعة من الدول، بما في ذلك الصين وروسيا، بحقوق المشاركة في الأنشطة التجارية عبر سفالبارد. وتجري موسكو عمليات استخراج الفحم في جزيرة سبيتسبيرجين (وتصر على الإشارة إلى سفالبارد بالاسم نفسه، للتأكيد على مطالبتها التاريخية بالأرض).
جزيرة سفالبارد
تمثل سفالبارد، المستوطنة المأهولة في أقصى شمال أوروبا، والتي تقع على بعد 700 ميل (نحو 1126 كيلومتراً) فقط إلى الجنوب من القطب الشمالي، أحد مظاهر التعاون بين الدول المطلة على القطب المتجمد.
وتعتبر سفالبارد، حيث يفوق عدد الدببة القطبية عدد البشر، منطقة منزوعة السلاح وبدون تأشيرة من قبل 42 دولة.
يُعرف أرخبيل سفالبارد النرويجي، الواقع في أعماق الدائرة القطبية الشمالية، بأنه المستوطنة البشرية الدائمة في أقصى شمال العالم. يقول العلماء إن تغير المناخ يحدث في القطب الشمالي بشكل أسرع من أي مكان آخر على هذا الكوكب، وهذه التغييرات ليست مجرد مصدر قلق للأرض – بل إنها حولت القطب الشمالي أيضاً إلى نقطة اشتعال عسكرية محتملة، وبؤرة جديدة للتوتر بين موسكو والولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، وفق موسوعة “بريتانيكا”.
يقول دودز، وهو خبير في الجغرافيا السياسية ودراسات الجليد: “القلق هو أننا نعلم أن لدينا بؤر التوتر المحتملة مثل سفالبارد، والتي قد تتصاعد بسرعة كبيرة، بعد أن تسببت في إثارة وتوتر في الماضي، وقد يكون العدوان أي شيء بداية من الهجمات على الكابلات تحت الماء إلى هجوم مباشر على البنية التحتية للنفط والغاز.
ويضيف: “سيكون القطب الشمالي الأوروبي النرويجي هو المكان الذي من المرجح أن يحدث فيه هذا الأمر”. وقال: “ستكون هذه أيضاً الفرصة النهائية لروسيا لاختبار عزيمة حلف شمال الأطلسي”.
كما تظهر مخاوف أخرى من حقيقة أن روسيا تدير قواعد عسكرية في القطب الشمالي أكثر بثلث ما تديره الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مجتمعين، مما يشير إلى ميزة استراتيجية في المنطقة. ويقول الخبراء إن البصمة العسكرية للغرب في القطب الشمالي تتأخر بنحو 10 سنوات عن البصمة الروسية.
والنرويج، وهي عضو رئيسي في حلف شمال الأطلسي، من بين الدول التي تراقب هذه التطورات عن كثب، بسبب قربها من المنشآت العسكرية الروسية، وفق مجلة Spiked.
وتمتلك الولايات المتحدة حالياً قاعدة جوية واحدة، وهي قاعدة ثول الجوية، الواقعة في شمال جرينلاند. وفي عام 2017، استثمرت الولايات المتحدة 40 مليون دولار أميركي في تحسين قاعدة ثول الجوية؛ بعد تصعيد الوجود العسكري الروسي في المنطقة. يعد موقع القاعدة الجوية فريداً من الناحية الاستراتيجية، إذ أنها تقع تقريباً في منتصف الطريق بالضبط بين واشنطن العاصمة وموسكو.
طريق الحرير القطبي
منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، زاد اهتمام بكين بالقطب الشمالي. وفي عام 2013، تم قبول الصين كأحد المراقبين الدائمين لمجلس القطب الشمالي. لكن نقطة التحول الحقيقية كانت في عام 2018 عندما نشرت الصين كتاباً أبيض بشأن سياستها وأهدافها بشأن القطب الشمالي.
وفي الوثيقة، عرّفت بكين نفسها بأنها “دولة قريبة من القطب الشمالي” وحددت طموحها لإطلاق طريق الحرير القطبي.
تمتلك الصين القليل من موارد الطاقة المحلية، حيث يعتمد معظم استهلاكها للطاقة على الواردات الأجنبية من الشرق الأوسط والولايات المتحدة وروسيا، مما يدفع طموحها للاستفادة من الغاز الطبيعي في القطب الشمالي لتأمين استقلال الطاقة. ومع ذلك، فإن طموحات الصين في القطب الشمالي تتجاوز مجرد الطاقة، وفق معهد “كارنيجي للسلام الدولي”.
تبعد الصين حوالي 900 ميل (1448 كيلومتراً) عن الدائرة القطبية الشمالية عند أقرب نقطة لها.
وتصف الصين، القطب الشمالي بأنه واحد من “الحدود الاستراتيجية الجديدة” في العالم. كما وصف رئيس معهد الأبحاث القطبية في الصين، القطب الشمالي والجنوبي، بأنهما “كنوز الموارد الأكثر تنافسية”، مقترحاً أن تكون حصة الصين من هذه الموارد، مساوية لحصتها من سكان العالم.
وتتعامل النصوص العسكرية الصينية مع القطب الشمالي، كمنطقة للمنافسة العسكرية المستقبلية. كما تشير إلى أن “لعبة القوى العظمى” سـ”تركز بشكل متزايد على الصراع على المساحات العامة العالمية والسيطرة عليها” مثل القطب الشمالي والقطب الجنوبي، وتجادل الصين بأنه “لا يمكنها استبعاد إمكانية استخدام القوة” في هذا “التدافع القادم”.
ومارست بكين ضغوطاً شديدة، لتصبح مراقباً في مجلس القطب الشمالي، وأصبح لها حضور قوي في العديد من منتديات المسار الثاني الإقليمية الأخرى، وأطلقت جهودها الدبلوماسية، بما في ذلك منتدى القطب الشمالي الصيني الروسي ومركز أبحاث القطب الشمالي الصيني الشمالي، من أجل تعميق العلاقات مع الحكومات والجهات الفاعلة دون الوطنية.
وازدادت مكانة الصين العسكرية في القطب الشمالي، وتوفر جهودها العلمية مزايا استراتيجية أيضاً. إذ أرسلت الصين سفناً بحرية إلى القطب الشمالي في مناسبتين، بما في ذلك إلى ألاسكا، ثم إلى الدنمارك والسويد وفنلندا في زيارات ودية. كما قامت ببناء أول كاسحة جليد محلية الصنع، ولديها خطط لبناء المزيد من كاسحات الجليد التقليدية الثقيلة، كما تفكر في الاستثمار في كاسحات الجليد التي تعمل بالطاقة النووية أيضاً، وفق معهد “كارنجي”.
القارة القطبية الجنوبية
وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وعشر دول أخرى في عام 1959، على نظام معاهدة “أنتاركتيكا” لإدارة المصالح والأنشطة المتضاربة هناك.
وأدى تأسيس لجنة الحفاظ على الموارد البحرية الحية في “أنتاركتيكا” (القارة القطبية الجنوبية) في وقت لاحق إلى إنشاء مؤسسات ملموسة لإبقاء القطب الجنوبي خالياً من النزاعات الجيوسياسية.
ومع ازدياد حدة وتنوع المنافسة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بدأت روسيا والصين، في تجاهل هذه الضمانات لتشديد قبضتهما على هذه المنطقة.
كما قامت بريطانيا وفرنسا والنرويج وأستراليا ونيوزيلندا وتشيلي والأرجنتين برسم مجال نفوذها على خريطة القارة القطبية الجنوبية، وتقسيم القطب المتجمد بمطالبات إقليمية.
وقعت 48 دولة على معاهدة أنتاركتيكا، لكن 28 دولة فقط من تلك الدول تتمتع بحقوق استشارية، إذ انضمت الصين إلى المعاهدة في عام 1983.
وتقدم معاهدة أنتاركتيكا، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1961، سبل التعاون بين الدول، وتحظر النشاط العسكري، وكذلك التنقيب عن المعادن. وقد صادقت 50 دولة، بما في ذلك روسيا والصين والولايات المتحدة، على المعاهدة والاتفاقيات المرتبطة بها.
ورغم ذلك، قادت البحرية الروسية، بعثات أوقيانوجرافية إلى المحيط الجنوبي، مثل بعثة الأدميرال فلاديميرسكي، ما يثير مخاوف من أن هذه الرحلات تتجاوز أغراض البحث العلمي، وقد تكون لأغراض استخبارات ومراقبة بحرية محتملة، وفق موقع Defense one.
وتستخدم شركات الدفاع الروسية القارة القطبية الجنوبية لإجراء عدد متزايد من الاختبارات الجوية للطائرات بدون طيار العسكرية. ويشعر الخبراء بالقلق من أن الكرملين يرى المنطقة كمساحة للمنافسة الجيوسياسية والجيو اقتصادية والجيو علمية.
وتحتفظ روسيا بالفعل بخطة عمل في القطب الجنوبي لعام 2030، والتي تسلط الضوء على الأغراض العسكرية والاستخباراتية مثل تتبع الصواريخ وزيادة قدراتها في القيادة والسيطرة العالمية.
نشاط روسي “أكثر وضوحاً”
كما أن النشاط العسكري الروسي في القطب الجنوبي، أكثر وضوحاً من النشاط العسكري الصيني، حيث تجري البحرية الروسية أبحاثاً هيدروغرافية في المنطقة، والتي يمكن استخدامها لملاحة الغواصات. وتقوم المحطات الروسية في المنطقة أيضاً بإجراء أبحاث فضائية لصالح شركة روسكوزموس الروسية المملوكة للدولة، وفق مركز الأبحاث الاستراتيجية والدولية.
وتمتلك روسيا ما مجموعه 10 محطات بحثية في القطب الجنوبي، نصفها مفتوح على مدار العام. ومع ذلك، فإن المحطات الحالية في حالة وظروف سيئة. في عام 2020، تم تهالك ما يقدر بنحو 90 في المائة من البنية التحتية لمحطة فوستوك الداخلية، في حين واجهت محاولات تجديد المحطة بوحدات جديدة تأخيرات واسعة النطاق، وفقاً للمركز.
وعملت روسيا والصين مؤخراً على عرقلة التوصل إلى اتفاق دولي لإنشاء مناطق محمية جديدة في القطب الجنوبي، الأمر الذي كشف عن نواياهما لاستخدام المنطقة لدوافع خفية. وفي فبراير من العام الماضي، أعلنت الصين عن خطط لبناء منشآت أرضية جديدة لدعم عمليات الأقمار الصناعية.
ولدى الصين، أربع محطات موزعة في غرب وجنوب وأقصى شرق القارة الجنوبية المتجمدة. ووفقاً لصور الأقمار الاصطناعية الجديدة التي نشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS، العام الماضي، فإن بكين على أعتاب بناء محطة خامسة جديدة.
وأكملت الصين الشهر الماضي، بناء قاعدة جديدة ضخمة في منطقة نفوذ تطالب بها أستراليا في القطب الجنوبي. ورداً على المخاوف بشأن احتمال قيام الصين بجمع معلومات استخباراتية عن أستراليا ونيوزيلندا من خلال المحطة، قالت وزارة الخارجية الصينية إن القاعدة تم بناؤها وتشغيلها “بما يتوافق تماماً مع القواعد والإجراءات الدولية”.
وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية، وانج ون بين، خلال مؤتمر صحافي في فبراير الماضي: “ستساهم المحطة في الفهم العلمي للقارة القطبية الجنوبية، وتوفر منصة للاستكشاف العلمي المشترك والتنسيق بين الصين والدول الأخرى، وتساعد في تعزيز السلام والتنمية المستدامة في المنطقة”.
وعلى الرغم من تأكيد بكين على أن المحطة تلتزم بقواعد معاهدة أنتاركتيكا، التي تحظر الاستخدام العسكري للقارة القطبية الجنوبية، إلا أن بعض الخبراء يقولون إن نمط الصين في بناء محطاتها البحثية عبر القارة القطبية الجنوبية، يثير تساؤلات مشروعة بشأن وجودها الكبير في القارة.
وقال دونالد روثويل، أستاذ القانون الدولي في الجامعة الوطنية الأسترالية، لإذاعة “صوت أميركا” إن “نمط الصين في بناء قواعد الأبحاث في أنتاركتيكا، يثير تساؤلات بشأن ما إذا كانت ملتزمة بمبادئ معاهدة أنتاركتيكا وما إذا كانت تخطط لتأكيد مطالبتها المحتملة بالقارة القطبية الجنوبية”.
وقال روثويل، إنه منذ أن أعربت الصين عن طموحها في أن تصبح قوة قطبية عظمى، فإن توسع الصين السريع في القواعد البحثية في القارة القطبية الجنوبية يتماشى مع هذا الهدف.
وقال: “على مدى العقد الماضي، سعت الصين إلى أن يُنظر إليها على أنها دولة فاعلة جدية في الشؤون القطبية”.
وأضاف روثويل، أن الصين تكتسب “مصداقية كدولة جادة في أنتاركتيكا من خلال برنامجها للبحث العلمي ومشاركتها في نظام معاهدة أنتاركتيكا”.
وفي اليوم الذي أعلنت فيه الصين، افتتاح محطة تشينلينج، قال الرئيس الصيني شي جين بينج، إن استكمال بناء قاعدة الأبحاث “سيوفر ضمانة قوية للعلماء في الصين وحول العالم لمواصلة استكشاف أسرار الطبيعة”.
كما دعا إلى “فهم وحماية واستغلال المناطق القطبية بشكل أفضل لتقديم مساهمات جديدة وأكبر لصالح البشرية وبناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية”.
وفي تقرير صدر عام 2022 عن التطورات العسكرية والأمنية في الصين، قالت وزارة الدفاع الأميركية، إن “استراتيجية الصين في القارة القطبية الجنوبية تتضمن استخدام التقنيات والمرافق والأبحاث العلمية ذات الاستخدام المزدوج، والتي من المحتمل أن تهدف، على الأقل جزئياً، إلى تحسين قدرات جيش التحرير الشعبي الصيني”.
وأشار التقرير أيضاً، إلى أن منشآت الصين في القارة يمكن أن تكون محطات مرجعية لشبكة الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية “بيدو” ذات الاستخدام المزدوج، والتي تعد بديل بكين لنظام تحديد المواقع العالمي GPS، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة.
وسعت بكين إلى تطوير طرق شحن جديدة في القطب الشمالي وتوسيع أبحاثها في القارة القطبية الجنوبية، لكن الحكومات الغربية تشعر بالقلق من أن وجودها المتزايد في المناطق القطبية يمكن أن يوفر لجيش التحرير الشعبي قدرات مراقبة أفضل، وفق صحيفة “الجارديان” البريطانية.
ومن المتوقع أن تشتمل المحطة الجديدة، الواقعة على جزيرة إنيكسبريسيبل بالقرب من بحر روس، على مرصد مع محطة أرضية فضائية، ومن المفترض أن تساعد الصين على “سد فجوة كبيرة” في قدرتها على الوصول إلى القارة، حسبما ذكر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
وتظهر صور الأقمار الصناعية التي تم التقاطها في يناير الماضي، لتحديد مرافق الدعم الجديدة والمباني المؤقتة ومهبط طائرات مروحية ومبنى رئيسي في المحطة التي تبلغ مساحتها 5 آلاف متر مربع.
وفي هذا الصدد، تؤكد أون جيانج الخبيرة في الشأن الصيني، أن بكين لا تؤثر على إدارة القارة القطبية الجنوبية مثل أستراليا أو بريطانيا. و”هذا ما اعترف به العلماء داخل وخارج جمهورية الصين”، مضيفة أن “الصين تحاول زيادة بنشاط نفوذها، فهي تخشى أن يتم تهميشها من قبل الآخرين”.
وأضافت في تقرير نشره المعهد الأسترالي للشؤون الدولية والصين، أن بكين عبرت عن قلقها بشأن تزايد مطالبات الدول الإقليمية، وبشكل حصري
المنطقة الاقتصادية والجرف القاري في مياه القطب الجنوبي، مشددة على أن هذه المطالبات ينظر إليها بعض العلماء الصينيين على أنها مفرطة ومحاولات لتغيير الوضع الراهن، وعسكرة القارة القطبية الجنوبية، من خلال الإشارة إلى استخدامها للمعدات اللوجيستية العسكرية، على الرغم من أن هذا مسموح به بموجب معاهدة أنتاركتيكا.