حرية ـ (23/9/2024)
راغدة درغام
هل نحن أمام تحوّل نوعي في جبهة الإسناد اللبنانية التي يصر على استمرارها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، حتى وهو يقرّ بأن قاعدته الأمنية والعسكرية تلقّت “ضربة كبيرة وقاسية وغير مسبوقة” نتيجة “تفوّق” إسرائيل على “المستوى التكنولوجي” بدعم من أميركا وحلف الناتو، كما قال؟ أم أننا في لحظة “لو كنت أعلم” التي أقرّ بها حسن نصر الله عام 2006 في مواجهته مع إسرائيل معترفاً بأنه أخطأ الحسابات ولم يقرأ المشهد على حقيقته؟
في البداية، إن ما قامت به إسرائيل هذا الأسبوع بتفجير الآلاف من أجهزة “البيجر” والاتصالات اللاسلكية لدى عناصر “حزب الله” يدخل في خانة جرائم حرب و”إعلان حرب” كما قال نصر الله وكما توافق عليه آراء دولية نافذة. هذا الاستخدام السابقة للذكاء الاصطناعي، وفي إطار الهجمات السيبرانية، أثار حفيظة عالمية لأنه ينذر بنقلة مخيفة في عالم السيببرانية ولأنه تعمّد تفجير أجساد عناصر عسكرية ومدنية في بيئة “حزب الله” العسكرية والمدنية وحولها ولاقى إدانة واسعة.
خطاب حسن نصر الله يوم الخميس الذي تلى يومَي الثلثاء والأربعاء 17 و18 أيلول (سبتمبر) الكارثيين له ولبنيته ولبيئته كان خطاب الشكر لما وصفه بأنه كان “ملحمة إنسانية وطنية كبرى لم نشهدها منذ زمن طويل”، في إشارة إلى تعاطف اللبنانيين وتضامنهم مع الضحايا والمصابين. ثم أسرع إلى وضع لبنان واللبنانيين أجمع – من دون استشارتهم – تحت خدمة إسناد غزة، معتبراً أن الجبهة اللبنانية “من أهم أوراق التفاوض التي تملكها المقاومة الفلسطينية”. هكذا ربط الشكر بمصادرة قرار اللبنانيين.
بل أكثر. وجّه نصر الله دعوة إلى إسرائيل للعودة إلى احتلال أراضٍ لبنانية من أجل استنزافها. قال: “نتمنى أن يدخلوا أرضنا اللبنانية” بهدف إقامة “حزام أمني” تهدد به إسرائيل. قال “أهلاً وسهلاً” لأنه يعتبر ذلك التهديد “فرصة تاريخية… بل نتمناها”، لأن هذا الحزام سيتحول إلى “فخ وكمين وهاوية وجهنم… إذا جئتم إلى أراضينا”. ثم حذّر نصر الله “التافهين” من مسؤولين وإعلاميين يعارضونه الرأي متحدثاً مجدداً عن ذلك “النصر الإلهي التاريخي الكبير”.
الجديد هو تعهّد حسن نصر الله بمنع إسرائيل من تحقيق هدفها الأساسي، أي إعادة سكان شمال إسرائيل إلى الشمال بشكل آمن، إذ قال: “لن تستطيعوا إعادة سكان المستوطنين المحتلين إلى الشمال”، معتبراً أن هذا هو الإنجاز الكبير لجبهة الإسناد اللبنانية كما هو “التحدي الكبير”.
ولكن، أسرع نصر الله إلى التلميح بأن هناك سبيلاً للتراجع عن تعهده، إذ قال إن “السبيل الوحيد هو وقف العدوان والحرب على قطاع غزة، وطبعاً على الضفة الغربية”. ثم عاد إلى التعهد بأن “لا حرب شاملة تستطيع إعادة السكان”.
هذا التلبّك رافقته نبرة دفاعية كانت واضحة في تعمّد نصر الله التأكيد أن هدف ضرب البنية للحزب والمقاومة الممتدة من الجنوب إلى جبيل وكسروان باء بالفشل، “وهذه البنية لم تتزلزل ولم تهتز”. ثم حرص على تحدّي من يشير إلى تململ داخل بيئة “حزب الله”، معتبراً أن مَن يعتقد ذلك هو “أحمق” وعلى “درجة عالية من الغباء” ولا يفهم “العمق” لهذه البيئة. بغض النظر، كان واضحاً أن نصر الله قلق من التشكيك بدعم بيئته القاطع له، وكان يطمئن إلى أن بنيته “متينة ومتماسكة”.
الأمين العام لـ”حزب الله” لملم جراحه وتوعّد بالانتقام لاحقاً. فالقرار ليس فقط قراره بل هو بالدرجة الأولى في طهران. القيادات منقسمة على نفسها في إيران بين الحرس الثوري الذي يريد الإسراع في تلقين إسرائيل درساً حتى وإن أدى ذلك إلى توسيع رقعة الحرب لتصبح إقليمية تدخل إيران طرفاً مباشراً فيها، وبين الرئاسة الإيرانية التي تفضل الصبر الاستراتيجي كي لا تؤثر الحرب الموسعة على فرص الديموقراطيين في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
إيران تريد بقاء الديموقراطيين في البيت الأبيض لأن الوعد بمكافآت رفع العقوبات مهم نظراً إلى الأوضاع الاقتصادية السيئة في إيران وتأثير ذلك على الوضع الداخلي. وهي لا تريد عودة الجمهوري دونالد ترامب لأنه سيخنقها اقتصادياً وسينفذ تعهده دفعها إلى الإفلاس.
أما رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو فإنه يراهن على عودة ترامب للحزم مع إيران، وهو يخشى الصفقات الإرضائية بين الحزب الديموقراطي وإيران، كما يخشى استعداد قيادات دولٍ أوروبية للخضوع أمام طهران في امتلاك القدرات النووية.
نتنياهو متهم بتعطيل صفقة وقف النار بينه وبين زعيم “حماس” يحيى السنوار التي تحاول أن تبرمها إدارة الرئيس جو بايدن بجهد من مصر وقطر لأسباب ذات علاقة بترجيح كفة ترامب على المرشحة الديموقراطية للرئاسة كامالا هاريس. لكن تهمة التعطيل موجهة بالقدر نفسه إلى السنوار الذي وضع مصيره ومصير حركة “حماس” فوق الشعب الفلسطيني ومعاناته الفظيعة نتيجة الهمجية الإسرائيلية في الانتقام من عمليات 7 تشرين الأول (أكتوبر) قبل 11 شهراً.
لافت ذلك الاستطلاع للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بين 3 و7 أيلول الذي قام به المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، إذ كشف تراجعاً كبيراً في شعبية “حماس” بين الفلسطينيين وغضباً فلسطينياً من هجوم 7 تشرين الأول الذي قامت به الحركة وتسبب بدمار شامل للقطاع ومقتل أكثر من 41 ألف فلسطيني وتشريد الملايين وتوقف الدراسة عن مئات الآلاف من التلاميذ في المدارس والجامعات، فضلاً عن إصابات وعاهات لعشرات الآلاف.
نتائج الاستطلاع تشير إلى انخفاض في قطاع غزة في تفضيل استمرار سيطرة “حماس” بعد انتهاء الحرب، وارتفاع في تفضيل سيطرة السلطة الفلسطينية. هذه نتائج مهمة تكشف مدى فشل قيادة حركة “حماس” بعمليات 7 تشرين الأول، ومدى توفيرها الذرائع لإسرائيل لتنفيذ خطة التهجير القسري، ووضع اليد على قطاع غزة، وتحضير الأرضية في الضفة الغربية لإبعاد قسري إلى الأردن من أجل تنفيذ الخطة الإسرائيلية الكبرى وهي تحويل الأردن إلى الوطن البديل للفلسطينيين.
“لو كنت أعلم”، يجب أن يكون موّال يحيى السنوار الذي ما زال يتعالى على الاعتراف بالمآسي التي أتى بها على الشعب الفلسطيني ويرفض التسويات التي لا مناص له سوى القبول بها، أو مواجهة عواقب فوات الأوان.
“لو كنت أعلم” لا بد أن تجول الآن في ذهن حسن نصر الله الذي لو كان يعلم أن حرب غزة ستتطور إلى ما هي عليه وستدوم لهذه الفترة الطويلة لتبقى مفتوحة الأفق، لعلّه دقق جيداً في كلفة “الإسناد” عليه وعلى بنيته وعلى بيئته.
واقع الأمر أن “حزب الله” تورّط وورّط لبنان في حرب لا فائدة منها، بل إنه يورط اللبنانيين بتحويلهم إلى ورقة تفاوضية لدى المقاومة الفلسطينية. هذه جريمة بحق لبنان واللبنانيين يجب أن تتراجع عنها قيادة “حزب الله”.
التطورات الميدانية بين “حزب الله” وإسرائيل ستضمن خراب لبنان كما خسارة كبيرة للحزب، لأن هذه حرب جديدة نوعياً وتكتيكياً وسيبرانياً وتكنولوجياً. نعم، حسن نصر الله على حق عند قوله إن الغرب يدعم إسرائيل في المجال التكنولوجي والسيبراني. فليت السيد حسن نصر الله يتوقف عن المكابرة ويرحم بيئته وشعب لبنان، ويتوقف عن الادعاء أن الإسناد أفاد الشعب الفلسطيني ولم يؤذِ الشعب اللبناني في العمق.
هناك حاجة اليوم لتتوقف إيران عن اللعب بالنار لأنها مستمرة في دعم الحوثيين ضد الملاحة الدولية ومستمرة في توريط لبنان وكأنه ترسانة من ملك أبيها. فإذا أرادت حقاً أن تحارب إسرائيل من أجل فلسطين، فلتتفضل وتحاربها بالمباشر بدلاً من استخدام شعوب لبنان واليمن وسوريا والعراق.
لتتجرأ إيران على حرب إقليمية الآن، إذا كانت جديّة بمواجهة مباشرة مع إسرائيل. لكنها لن تفعل. ولو فعلت لدخلت هي أيضاً في نادي “لو كنت أعلم”. ذلك أن الإمكانيات الضرورية لكل من إيران و”حزب الله” والقوى الأخرى التابعة للحرس الثوري باتت معطوبة، لا سيما نتيجة العقوبات على إيران والضربات الإسرائيلية النوعية التي قوّضت قدرات “حزب الله”. فلا داعي لاستنزاف جبهة الإسناد اللبنانية. وكفى استنزافاً لبلد اسمه لبنان.
الكل خاسر، بما في ذلك إسرائيل، وهذه الفترة هي مرحلة تستحق جديّة أميركية وأوروبية وعربية في الفرض على حكومة نتنياهو الكف عن التعالي والمغامرة والتحصّن بالدعم الأميركي القاطع. هذا الفرض ضروري أن تقوم به إدارة بايدن عملياً وبحزم قبل توريط لبنان في حرب يدرك فريق بايدن – هاريس أنها ستفلت من أيديها.
أيضاً على الدول العربية مثل مصر وقطر أن تفرض على “حماس” التوقف عن استنزاف الفلسطينيين في هذه الحرب الخاسرة. كما أن لدى دول عربية فاعلة مثل السعودية ورقة ثمينة لدى أيّ إدارة أميركية وفي وجه إسرائيل وهي الإصرار على أن قيام دولة فلسطينية هو المجال الوحيد للتطبيع والعيش بسلام. هكذا أكدت القيادة السعودية ومعها أيضاً القيادة الإماراتية التي طبّعت مع إسرائيل بموجب الاتفاقيات الإبراهيمية.
“لو كنت أعلم” مقولة تأتي بعد فوات الأوان. ليتها تكون محرّكاً للتفكير الجدّي قبل فوات الأوان.