حرية ـ (25/9/2024)
شهدت فترة حكم خامس ملوك السعودية الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود ظروفاً إقليمية ودولية تنبهت الرياض إلى خطرها ومنها صعود نظام الخميني في إيران، ومحاولته تصدير الثورة الإيرانية والتدخل في الشأن السعودي من خلال عرقلة مناسك الحج. وكانت الحرب الإيرانية – العراقية (1980-1988) على مدى ثمانية أعوام، نتيجة حتمية للتهور الإيراني الجديد. وانتقلت عدوى التهور إلى العراق الذي غزا الكويت في الثاني من أغسطس (آب) عام 1990، وشكّل تهديداً مباشراً للسعودية، وعلى رغم إنهاء احتلال الكويت، فإن استفزازات صدام حسين لم تتوقف.
وتكشف وثائق بريطانية تنشرها “اندبندنت عربية” للمرة الأولى على مدى ثلاث حلقات تحركات الملك فهد للتصدي إلى الأخطار الإقليمية، وجهوده لتوحيد مواقف دول مجلس التعاون الخليجي، ومراسلات بلاده مع بريطانيا في عهد رئيس وزرائها جون ميجور الذي شغل المنصب في الـ28 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 وحتى الثاني من مايو (أيار) 1997، وهي الفترة التي شهدت فيها المنطقة العربية والعالم الإسلامي عدداً من الأحداث الخطرة التي تتطلب تنسيقاً إقليمياً ودولياً.
العاهل السعودي الراحل الملك فهد يطالب الحكومتين الأميركية والبريطانية بضرورة التنسيق والتشاور مع بلاده حول القضايا ذات الاهتمام المشترك وهي إيران والعراق والبوسنة (اندبندنت عربية)
مطالب سعودية لبريطانيا وأميركا
تظهر وثيقة بتاريخ الثامن من سبتمبر (أيلول) 1993 عدم رضا الملك فهد على الجهود الأميركية والبريطانية تجاه ثلاث قضايا وهي إيران والعراق والبوسنة، ففي لقائه مع وزيري الخارجية والدفاع البريطانيين، أكد العاهل السعودي أهمية أن تعود الحكومتان البريطانية والأميركية إليه عبر وزير خارجيته الأمير سعود الفيصل، وتدخل في محادثات أكثر شمولاً مع الرياض للتشاور حول القضايا الإقليمية والأمنية.
وطلب وزير الخارجية البريطاني بعد عودته من السعودية النصيحة في شأن أفضل طريقة للتواصل، والاستجابة لهذه المطالب، وتساءل عما إذا كان هناك مجال للحوار على مستوى كبار المسؤولين إلى جانب لا الحوار والرسائل المتبادلة على مستوى وزراء الخارجية”.
الملك فهد مع وزير خارجيته الأمير سعود الفيصل
وتستعرض البرقية السرية المرسلة في الـ12 من يناير (كانون الثاني) 1993 من قبل السفير البريطاني لدى الرياض آلان مونرو إلى مرجعيته في لندن تفاصيل اجتماع وزير الدولة لشؤون المشتريات والصناعة الدفاعية في بريطانيا جوناثان أيتكين مع الملك فهد لمناقشة الأخطار والتهديدات العسكرية الصادرة عن العراق وإيران لدول مجلس التعاون الخليجي.
وذكر السفير البريطاني أن اجتماع الوزير مع الملك فهد ركز على العراق وإيران، وكان العاهل السعودي منشغلاً على وجه التحديد بالقدرة العراقية المتبقية على استخدام صواريخ “سكود” والأسلحة الكيماوية والبيولوجية ويطلب تقييماً عاجلاً”. وفي ضوء التجارب السابقة وتهور صدام حسين، بدت السعودية مستعدة لدعم أي عمل يراه التحالف ضرورياً لردع صدام، وأرادت أن تكون أية ضربة ضده فعالة بحيث تعوق أي رد انتقامي.
وكتب السفير مونرو، “التقيت أنا والسيد أيتكين الملك فهد الليلة الماضية في رحلة عمل في قصر اليمامة، أراد الملك أيضاً مناقشة التهديد المتجدد من قبل العراق وبرنامج إيران العسكري. ولم يكن هناك سوى الأمير بندر وكاتب الملاحظات”.
ورُتب للاجتماع في اللحظات الأخيرة مما أدى إلى تأخير لقاء مخطط له مع وزير الدفاع الجزائري. وافتتح الملك حديثه مع المسؤولين البريطانيين بالإشارة إلى انتشار بؤر التوتر، وبخاصة في البوسنة والصومال، ثم انتقل بسرعة إلى العراق، الذي كان مرة أخرى في مقدمة اهتماماته، إذ يدرك الملك أن صدام لا يزال متمرداً وسمع أنه يقوم الآن بنقل الصواريخ إلى المناطق المحظورة في الجنوب والشمال.
الملك فهد مع صدام حسين
وتشير الوثيقة إلى أن صدام منع المفتشين من الطيران وشن هجوماً لاستعادة الأسلحة في مدينة أم قصر جنوب العراق بلا مبالاة بمراقبي الأمم المتحدة، وهي تصرفات وُصفت بـ “المجنونة”، إذ لا يزال صدام حسين يشكل تهديداً للخليج.
صدام ضعيف داخلياً
وقال الوزير أيتكين للعاهل السعودي إن صدام حسين ربما يشعر بأنه أكثر ضعفاً في الداخل لذا فهو ملزم باتخاذ موقف. وأكد أن بريطانيا مستعدة للعمل مع شركاء التحالف حسب الضرورة، معرباً عن امتنانه نيابة عن رئيس الوزراء لموافقة الملك على مشاركة وحدات سلاح الجو الملكي البريطاني عبر السعودية في أية عملية انتقامية. وأشاد بالموقف الحازم للسعودية في وقت يتأزم الوضع أكثر فأكثر مع صدام.
وكتب مونرو، “قال الملك إننا نعمل جميعاً لتحقيق الهدف نفسه. ومع ذلك، كان قلقاً في شأن قدرة صدام على الرد بصواريخ سكود. بدا أن المواجهة الجديدة وشيكة، ربما باعتبارها عملاً أخيراً من التحدي في مواجهة ضربة التحالف، قد يستهدف العراق بصواريخه المتبقية السعودية والكويت. أراد أن يعلمنا أن الحكومة السعودية أخذت هذا الاحتمال في الاعتبار عند منح التحالف دعمها. ولكن لتجنب مثل هذه الضربة المضادة، لا بد من توجيه ضربة قوية وواسعة النطاق. وكان الملك قلقاً من أنه قد يضع رؤوساً حربية كيماوية على صواريخه. ولا ينبغي استبعاد أي شيء مع هذا الرجل، الذي لم يفهم سوى القوة. لقد حان الوقت لإنهاء مشكلة صدام حسين”.
الملك فهد اعتبر أن ضبط النفس الذي مورس تجاه صدام كان خطأ فادحاً
وأثار الملك احتمال شن هجوم مضاد وسأل عن مرافق تصنيع الأسلحة التي لا يزال العراق يمتلكها، وأشار إلى أن الوضع كان سيختلف لو أسقطه التحالف في نهاية حرب الخليج. وكان مثل هذا الإجراء ليعتبر مشروعاً، فبعد رفض التحالف الخروج من الكويت، كان بوسعه أن يعامل الصراع على أنه صراع مفتوح للجميع. ولكن الملك رأى الآن أن ضبط النفس الذي مارسناه كان خطأ فادحاً. وكان من الصعب أن نتنبأ بالخطوات التالية، وكان ينبغي لنا أن نتوقع الأسوأ.
وعندما سأل الملك فهد المسؤولين البريطانيين عما إذا كانت دوريات التحالف قد استؤنفت، أجاب السفير بأن الدوريات كانت طبيعية في منطقة حظر الطيران ذلك اليوم، بما في ذلك طائرات سلاح الجو الملكي، إلا أنهما كانا في حيرة من أمرهما عندما سألهما عن تقارير العثور على صواريخ “سام” جديدة في المنطقة الجنوبية وربما الشمالية أيضاً في العراق، وأجابا بحذر بأن هناك أسباباً للاشتباه في نيته نشر (صواريخ) في مواقع جديدة ولكن هناك حاجة إلى مزيد من التحقق في ظروف أفضل.
وأكد المسؤولان البريطانيان أن العراق لا يزال يحتفظ ببعض قدراته في مجال صواريخ سكود، لكن برامجه النووية والكيماوية قد تم تقليصها إلى حد ما من خلال برنامج التفتيش الذي كان من الضروري استئنافه.
واقترح العاهل السعودي أن تجدد بريطانيا تحذير الرئيس بوش عام 1990 من العواقب الوخيمة لاستخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، في حين تعهد أيتكين بتقديم تقييم عاجل إلى الملك لاحتمالات قدرة العراق على الرد في غضون فترة قصيرة باستخدام صواريخ بعيدة المدى ورؤوس حربية كيماوية من الأسلحة المتبقية
الرئيس بوش الأب
مزاعم الجندي العراقي
وتتحدث البرقية السرية (رقم 13) المرسلة في السابع من يناير 1993 من السفارة البريطانية لدى الرياض إلى مرجعيتها في لندن عن الجندي العراقي، عن ضياء عباس مهدي الذي كان يحمل درجة عريف بالجيش العراقي ويزعم أنه يملك معلومات خطرة حول تحركات قوات الحرس الجمهوري وعن مخزونات أسلحة الدمار الشامل وامتلاك العراق خمسة رؤوس نووية وصواريخ سكود جاهزة لمهاجمة السعودية.
وجاء في البرقية ما نصه:
“جندي عراقي أسره السعوديون أو انشق عن الجيش العراقي يقدم تقريراً عن حشد عسكري كبير في منطقة خط العرض 32 بما في ذلك صواريخ أرض-أرض كما يزعم أنه يمتلك معلومات عن مخزونات أسلحة الدمار الشامل في بغداد. السعوديون يطلبون تعليقاتنا. وقد تكون هذه التقارير وراء مزاعم سعودية عن نشاط للجيش وقاذفات صواريخ سكود في انتقام محتمل لعمل التحالف.
وطلب وكيل وزارة الخارجية العراقية السيد مدني في مقابلتنا اليوم لتسليمنا تقريراً من مصادر استخباراتية عسكرية سعودية في أعقاب استجواب عريف في الجيش العراقي (ضياء عباس مهدي) تم القبض عليه في السعودية في الـ23 من ديسمبر 1993 قرب مركز الدبوسة الحدودي السعودي (عرعر).
وادعى الجندي أنه قد تم إرساله تحت طائلة الإعدام لجمع معلومات عن موارد عسكرية سعودية. وبعد القبض عليه، قال إنه لا يريد العودة إلى العراق وعرض معلومات في مقابل اللجوء.
وادعى مهدي أنه من الكتيبة (52) التي تخدم في النقطة 49 (مقابل الدبوسة). وكان مصدر معلوماته صديق والده. وهو المقدم في الحرس الرئاسي علي حسين التكريتي. واستشهد مهدي بهذا الصديق، وادعى أن 20 ألفاً من أفراد الحرس الجمهوري سيصلون إلى منطقة تسمى النخيب التي حددناها على أنها تقع على خط العرض 32 وشمال عرعر في الـ30 من ديسمبر.
وعلم مهدي من المصدر نفسه أنه في مطار صدام حسين في بغداد، في منطقة تسمى أبو غريب، كان هناك حظيرة تحت الأرض كانت مخبأة فيها خمسة رؤوس نووية وأجهزة جرثومية أخرى. “لقد أخبره التكريتي أن أحد الأسلحة الذرية في الأقل تصنيع بريطاني. وقد تم نقل هذه الأسلحة ذات الدمار الشامل بصورة متكررة لتجنب فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة. وعندما لم تكن في الحظيرة، كانت تُخفى أحياناً قرب مزرعة صدام حسين في الراشدية”.
معلومات الجندي تبدو “مفبركة”
نقلت بريطانيا للعاهل السعودي اعتقادها بأن التقرير الصادر عن الجندي العراقي المنشق عن صواريخ سكود وتجمعات الجيش شمال خط العرض 32 مباشرة لا أساس لها من الصحة، ويبدو وكأنها مفبركة”. وكتب السفير البريطاني في نهاية تقريره:
“تبدو العناصر في هذه القصة غير معقولة. وسواء كان مهدي في مهمة استطلاعية أو يتسكع بنية الانشقاق، فإن تقريره كان من الممكن أن يُحسب لإثبات مصداقيته. قد تكون بعض التفاصيل قابلة للتحقق، على سبيل المثال، التحرك المزعوم لوحدات الحرس الجمهوري في الـ30 من ديسمبر إلى النخيب. وقد قدم مدني إحاطة مماثلة للأميركيين. ومن الواضح أن السعوديين منزعجون من رواية مهدي، التي قد تكون وراء الاستفسارات التي وجهها مكتب (وزير الدفاع السعودي آنذاك) الأمير سلطان إلينا في الخامس من يناير حول تقارير عن تحركات للجيش العراقي، إلى جانب قاذفات صواريخ سكود. ويخبرني ويلش أن الأميركيين قدموا للسعوديين اليوم أدلة تؤكد تعزيز القوات البرية.
وسيكون من المفيد إجراء تقييم لمدى موثوقية هذه التقارير. وآمل أن نتمكن من تهدئة مخاوف السعوديين. وإذا تمكنا من الحصول على نظرة أولية قبل أن يلتقي السيد (مايكل) هيسلتاين (وزير التجارة والصناعة آنذاك) الأمير سعود هنا في الـ10 من يناير، فسيكون ذلك موضع تقدير. مونرو”.