حرية ـ (28/9/2024)
من المؤكد أن الإبداع لا يورث، لكن ربما كان من المفيد أن نشير إلى أن الكاتبة نوارة نجم هي ابنة الشاعر أحمد فؤاد نجم والكاتبة صافي ناز كاظم التي أهدت الكاتبة روايتها “لقد تم حظرك: فانتازيا بوليسية” (دار الشروق) إليها. وصدر لها قبل هذه الرواية كتابان هما “عش على الريح” (2009) وهو مجموعة مقالات في الثقافة والشأن العام، و”الفاجومي وأنا” (2023) عن علاقتها بوالدها. تدور الرواية حول تيمة رئيسة هي قهر المرأة مجتمعياً في ظل سيادة الثقافة الذكورية. وتتضح هذه التيمة من خلال استعراض حيوات مجموعة كبيرة من النساء اللائي تم قهرهن بصور متنوعة، مما يدفعنا إلى إدراج هذه الرواية ضمن ما يسمى “الأدب النسوي” الذي ينتصر لقضايا المرأة وحقوقها المسلوبة. وإن كانت نوارة بوعيها التقدمي تدرك أن الرجل أيضاً ضحية تقاليد مجتمعية مكبلة لاختياراته الحرة. لهذا، ربما كان من الأنسب وصف هذه الرواية بأنها “فانتازيا اجتماعية” أكثر من أنها “فانتازيا بوليسية”. وأعني بالفانتازيا الاجتماعية استعراض الرواية لكثير من الحكايات التي تخرج عما هو طبيعي واقعي أو منطقي الذي يجعل من حياة المرأة، عموماً، ضرباً من الجحيم.
قصص متتابعة
الرواية الجديدة (دار الشروق)
لا شك في أن محاولة الكاتبة مقاربة حيوات الأخريات قد ألجأها إلى توظيف شكل القصص القصيرة المتتابعة، ومن هنا تم تقسيم الرواية إلى مقاطع، يحمل كل مقطع عنواناً خاصاً به ومن ذلك “قبل المعركة”، والعنوان دال على أنه تمهيد لما سيقع بعده من معارك متنوعة، و”هشام في شبكة العنكبوت”، ومن هنا يظهر توظيفها لشبكة التواصل الاجتماعي التي أصبحت فخاً منصوباً للمرأة يتم ابتزازها من خلاله. ولأننا أمام عدد كبير من النماذج النسائية، لجأت الكاتبة إلى تجميعها داخل مبنى مباحث “الإنترنت”. وتعتبر “سحر” الراوية الأساسية داخل السرد، من دون أن تقع نوارة نجم في وضعية الراوي الخارجي العليم، بل تركت كل شخصية تحكي مأساتها، مما يقرب السرد من الرواية “متعددة الأصوات”، وهكذا يبدو السرد تحريراً للذات الأنثوية في مقابل قهرها واقعياً. و”سحر”، كما يبدو من تصويرها، تنتمي إلى الطبقة الوسطى، كما يمكن أن نستنتج من مطلع الرواية، “الجو حار، وعلى رغم أن سحر قد أدارت التكييف إلى أعلى درجة في سيارتها الحمراء الصغيرة التي تشبه الخنفساء، فإن الهواء يخرج عطناً كهواء مجفف الشعر من فتحات التهوئة ويصدم وجهها الذي يتفصَّد عرقاً” كما أنها تجيد الإنجليزية على نحو ما يبدو من تضمينها لبعض عباراتها داخل المتن الروائي.
ويأتي المقطع الثالث بعنوان “سحر تتأمل سيدة الأرقام”، والمقصود بـ”سيدة الأرقام”، هنا “ناهد” التي تؤمن بالسحر وتذهب إلى أحد المشايخ لعلاجها وتحصينها مما تفعله، كما تعتقد، ابنة عمتها “رقية” ضدها. فـ”ناهد” تعتقد، مثلاً، أن نحولها الواضح يرجع إلى أنها “لا تسمن بسبب السحر”، وأن ابنة عمتها “كانت ترش على أعتاب بيتها ماءً مسحوراً”. كما تعتقد بأن إلقاء ماء مغلي في عين الحمام يجعل المرأة “ملبوسة” ومتصالحة مع الجني الذي يعاملها، في هذه الحالة، معاملة المرأة والرجل. إن كل ما سبق يعكس حساً بالمفارقة بين التقدم العلمي المتمثل في تقنية ” الإنترنت” واستمرارية الاعتقاد بفاعلية السحر. وعلى تعدد الشخصيات، فإن البنية الزمنية قصيرة ولهذا استعانت الكاتبة بتقنية الاسترجاع لمعرفة خلفيات هذه النماذج السردية.
مآسي الابتزاز
الكاتبة نوارة نجم
تتمثل مأساة “سحر” في مطاردة “هشام” لها وابتزازها من خلال الصور والتسجيلات الصوتية والمصورة وصور المحادثات. يقول “هشام” كأنه يخاطب “سحر” أو يتحدث عنها “لماذا؟ ألم تعشقني؟ ألم تخبرني أنني كل ما لها في هذه الدنيا؟ ألم تدّعِ أنني عوضها عن ذلك السافل الذي تزوجها في صفقة؟ من قال إن مباحث الإنترنت يمكنها العثور علي؟ وإذا ما عثرت عليَّ، فما الذي تستطيع أن تفعله بي؟ سأخبر الجميع. سيعلم أبوك وأمك وطليقك وذلك المحامي التافه الذي وقع في حبك من طرف واحد أنك لي وأنك كنت دوماً لي”. و”هشام” هذا يعاني عقدة الذنب نتيجة صمته عن قهر “فتحي” ولده لوالدته، ووقوع أخته “إيمان” في خداع شاب غرَّر بها ونال من جسدها ثم فضحها ولم يتزوجها. وظلت هذه الأخت تحاول إرضاء والدها من دون جدوى، إلى أن مات وهو غاضب عليها، فارتدت النقاب ظناً منها أن ذلك يرضي والدها المتوفى. ومن المهم أن نلاحظ أن عبء وعار هذه الغواية وقع على عاتق “إيمان” فقط، أما الجاني فقد كان حراً لا يعبأ بشيء.
بل إن الأمر يصل إلى قتل الضحية حفاظاً على شرف أهلها وهو ما حدث فجأة في الشارع المجاور لمبنى مباحث الإنترنت حين سمع الجميع أصوات آلات تنبيه وأصوات صراخ آتٍ من الطريق. ولأننا أمام ثقافة مجتمعية يرتبط فيها الشرف بجسد المرأة، فقد بارك الجميع فعل هذا القاتل. والغريب أن بعض الأبناء الذكور قد يتعرضون للابتزاز، هكذا أفضت إحدى السيدات إلى “سحر” حين قالت إن ابنها هو من يتعرض للابتزاز الإلكتروني، وإنها هنا من أجله. والرواية، خصوصاً في المقطع الذي يحمل عنوان “المهندسة ليلى: حيث لا ينفع الندم” تستعرض التدين الشكلي المتطرف الذي يقوم على تكفير المجتمع ووصفه بالجاهلية. فلمجرد مشاهدة أسرة “عبدالرحمن” زوج “ليلى” لإحدى المسرحيات تقول إن بهم “جاهلية، عسى الله أن يهديهم، ولكن برهم واجب عليَّ”، وعندما تحدثها أختها “منى” عن فرويد، فإنها تستهجن حديثها وتصف عالم النفس الشهير بأنه كافر.
هذا في وقت يعايرها “عبدالرحمن” بأهلها “المارقين عن صحيح الدين”، و”أختها المتبرجة”، بل لا يتردد في وصفها بالجاهلة وأنها ارتدت النقاب نفاقاً، مثلما لم يتردد في منعها من العمل مهندسة لأنه لا يرضى بالاختلاط. وعندما يوقظها من النوم للمعاشرة وتعبر له عن تعبها، يحذرها من لعنات الملائكة لأنها امتنعت عن منحه حقه الشرعي. ومن هنا يتم توظيف هذه الرؤية الدينية من أجل قهر المرأة. وعندما تغضب “ليلى” وتترك البيت تجد أباها يرغمها على طاعته ويطلب منها العودة إلى بيت الزوجية. وفي مقطع “ممدوح يتبع أنفه”، لاحظ اللغة الساخرة، نعلم أن “سحر” تعرضت للضرب من طليقها حتى تورّم وجهها بعد أن ركض وراءها في الشارع، “وكلما تدخل المارة لمنعه صاح بأنها زوجته”، وكأن ذلك حق لا ينبغي لأحد أن يسلبه منه.
تقنيات سردية
تعتمد الساردة الرئيسة كثيراً على الوصف الحسي للشخصيات فتصف إحداها بـ”النحيلة السوداء”، وأخرى بـ”البدينة البيضاء” وثالثة بأنها “سمراء، كثة الحواجب، شفتاها رفيعتان، وجهها مستطيل”. وكذلك وصف الأماكن، سواء مبنى المباحث، أو الأماكن العامة مثل ميدان العباسية الذي تصفه بقولها إنه “مزدحم بالمارة أكثر من ازدحامه بالسيارات”، وتفعيل الخيال من خلال الاسترجاع “في هذه الشرفة، ومنذ أكثر من ستين عاماً كانت تجلس سيدة جميلة، ترتدي روباً جميلاً بلون النبيذ”، خالقة بذلك تاريخاً لكل بناية وكل طابق وكل نافذة وشرفة. وهناك ما يمكن أن نسميه “المحاكاة الصوتية” حين يتم تصوير فعل التقيؤ هكذا “عوء عوء. هكذا دوماً سحر تحرجها هجمة التقيؤ في وجه الأشخاص الذين يحفزون خيالاتها ووسواسها القهري برائحة أو رذاذ”. كما نجد توظيفاً للكوابيس، وهو أمر متوقع في ظل مآسي الشخصيات النسائية. فبعد زواج “رقية” من “عصام” الثري بدأت الكوابيس تداهم “ناهد”، فكانت “ترى كلباً أسود ضخماً يهم بالهجوم عليها. قبل انتهاء الكابوس كان وجه الكلب يستحيل إلى وجه أمها”، بعدما زاد عنف هذه الأم تجاهها. واللافت أن هذه الرواية تمتاز بمراعاتها للفروق الأسلوبية لهذه الشخصيات التي تعرض لها. وأخيراً نلاحظ أن السارد يتخذ دائماً وضعية السارد التقريبي الذي يستحضر المتلقي ويستهدف التأثير فيه، مثلاً حين تقول “سحر”، “إنها تحدثنا وهي تراقب الأحداث من فوق”.