حرية ـ (5/10/2024)
في عصر احتمالات الترفيه والمتع المفتوحة، يتخبط معظمنا في دوامة من الصراع الداخلي ومقاومة الخيارات ذات الاتجاه المفرط في المبالغة إلى حدّ ضياع الوقت والجهد، وذلك الصراع نادراً ما ينجح لمصلحتنا، وغالباً ما يتحوّل إلى سلوك إدماني يقوده سيل من تكرار ممارسةِ واحدة من العادات معدومة المكاسب على المدى الطويل.
وفي خضم هذا النمط من الحياة المترنح بين النجاح أحياناً والفشل غالباً، تطالعنا نصائح ضبط النفس والالتزام والتوقف عن المتع اللحظية لمصلحة طريق السعادة الموعودة، ذلك غير المعلومة نهايته وربما بدايته أيضاً لدى الغالبية.
السعادة لا تعني غياب العمل بل غياب المشاعر السلبية مثل الذنب والندم والاستياء والإحباط والقلق والخوف والملل
والحقيقة أن موضوع السعادة شائك جداً ومعقّد بعض الشيء، ففي حين أن المطلب الأساس وواحداً من أهم الأسئلة التي تؤرق البشر ينطلق من كيف نحقق حياة جيدة ونصبح سعداء؟ إلا أن ضبط النفس نادراً ما يكون على رأس أولويات الناس عندما يفكرون في تحقيق هذا المستوى من الحياة.
فما حقيقة الربط بين الانضباط الذاتي والنجاح المؤدي إلى السعادة؟ وهل أولئك الذين يملكون سمة ضبط النفس هم أكثر سعادة في الحياة؟
الالتزام والسعادة
يبدو للوهلة الأولى أن الانضباط والسعادة مفهومان متناقضان تماماً، ففي حين تلبس السعادة ثوب المتعة والراحة والابتعاد عن العمل، يظهر الانضباط على هيئة جهد بدني ونفسي والتزام بضوابط صارمة، كما تترسخ في أذهان غالبيتنا صورة يبدو فيها وكأن أولئك الذين يتمتعون بقدر كبير من الانضباط الذاتي محرومون من المتعة وتعساء، وأن الأشخاص المنضبطين إلى حدّ كبير هم أكثر تركيزاً على المهام وميلاً إلى إنجازها وأكثر بعداً من التصرف وفق نزواتهم ورغباتهم الوقتية، والذهاب خلف خيارات الترفيه والتمتع بالمباهج، وبالتالي بالنسبة لمعظم الناس، لا يمكن للانضباط الذاتي أن يكون مصدراً للسعادة بأي شكل كان.
الفهم الشائع لضبط النفس
ويبدو، بناء على ذلك، وكأن وجود استعداد عالٍ لضبط النفس قد يمنع الناس من تجربة السعادة على أكمل وجه في الحياة، وإن هذا الفهم المتزمت لضبط النفس باعتباره امتناعاً مجهداً عن الإشباع الفوري والاستمتاع بالحياة منتشر على نطاق واسع. ويشير إلى أن الاستنزاف العقلي الذي يأتي مع مقاومة الإغراءات من شأنه أن يثير مشاعر سلبية، وأن الحياة الملتزمة المليئة بالانضباط تمنع تجربة السعادة، وهنا يرتكز مفهوم السعادة باعتبارها متعة لحظية وليست نجاحاً نتيجة إنجاز المرء أهدافه الشخصية.
أشخاص لا يستمعون كل يوم بالسكريات لكنهم يمتلكون جسماً رشيقاً وصحياً
ولكن الحقيقية أن ضبط النفس لا يعني دائماً إنكار النفس وحاجاتها ورغباتها، بل يعني الاستثمار في اللحظة الحالية للحصول على مكافأة كبيرة لوقت لاحق، وفي حين أن الاضطرار إلى التخلي عن متعة فورية من أجل هدف بعيد المدى قد لا يكون تجربة عاطفية ممتعة.
وتشير النتائج إلى أن الأشخاص الذين لديهم مستويات عالية من سمة ضبط النفس يواجهون عموماً حالات أقلّ من الرغبات الإشكالية، وبالتالي هم أقل عرضة للضيق العاطفي الناتج من مثل هذه الموازنات أو المقايضات، وأكثر نجاحاً في إدارة الغايات المتناقضة من خلال تفضيل الهدف ذي النتيجة الأعلى فعالية، وأقل اندفاعاً بالحاجة إلى الإشباع الفوري أو المتعة، فقد دربوا عقولهم على ربط المتعة بالرحلة كاملة.
كما أن السعادة لا تعني غياب العمل، بل غياب المشاعر السلبية مثل الذنب والندم والاستياء والإحباط والقلق والخوف والملل، وأن غياب العمل قد يمنحنا راحة معها إشباع موقت، ولكن غياب الانضباط الذاتي وقضاء الوقت في الإشباعات الموقتة سيخلق مشاعر سلبية مع الوقت.
سمة تطورية
ووفقاً لويلهلم هوفمان الأستاذ المساعد في العلوم السلوكية، فإن ضبط النفس هو واحد من بين الأصول الأكثر قيمة التي يمتلكها الإنسان، كما يعرّف فريقه البحثي في جامعة “شيكاغو” ضبط النفس بأنه القدرة على تجاوز أو تغيير الاستجابات الداخلية للإنسان والامتناع عن التصرف وفقاً للدوافع، وبالتالي كبح السلوكيات غير المرغوبة وتعزيز السلوكيات المرغوبة لدعم السعي لتحقيق الأهداف طويلة المدى.
وعلى المستوى السلوكي، تعد سمة ضبط النفس TSC طبعاً أساسياً يشكل جوهر الشخصية أثناء تطورها، وقد أظهرت الأبحاث باستمرار أن ارتفاع هذه السمة يرتبط بنتائج أكثر إيجابية في الحياة مثل الإنجازات الأكاديمية الأعلى، والصحة الأفضل، والمزيد من النجاح في العلاقات الشخصية والتعامل مع الآخرين، وعلى هذا النحو تمت الإشادة بضبط النفس باعتباره سمة تطورية لضمان التكيف والبقاء.
وكشفت الدراسات والأبحاث الحديثة عن ارتباط سمة ضبط النفس بحصيلة إيجابية واسعة ومتنوعة في الحياة، فأصحابها يتمتعون بصحة أفضل وعلاقات ومال ووظائف أفضل، كما أنهم أقل عرضة لمشكلات الإفراط في الأكل والإنفاق والتدخين وإدمان الكحول أو المخدرات والتسويف والوقوع ضحايا المشتتات.
وفي حين أن ضبط النفس ليس أفضل طريق للإشباع الفوري، إلا أنه قد يجلب شيئاً أفضل وهو الرضا على المدى الطويل، على سبيل المثال، يبدو أن الأشخاص الذين يتمتعون بقدر كبير من ضبط النفس من غير المرجح أن يحصلوا على الكثير من المتع الوقتية، لكنهم قد يستفيدون من الرضا الناتج من قدرتهم على تحقيق أهداف طويلة الأجل بشكل أفضل، وهم لن يستمتعوا كل يوم بالأكل الغني بالسكريات، لكنهم يصبحون بجسم رشيق وصحي ومتوازن أكثر، بالتالي يحصلون على الرضا، ومن هنا كلما زادت قدرة الأشخاص على ضبط النفس، زادت درجة رضاهم عن حياتهم.
وفي حين أظهرت الأبحاث التأثيرات المفيدة طويلة المدى لسمة ضبط النفس على مجالات مختلفة من الحياة. فماذا عن علاقتها بالسعادة؟
تجنب الخسائر أم السعي وراء المكاسب
وبحسب الباحثين، يظهر تأثير سمة ضبط النفس على السعادة من خلال نظرية التركيز التنظيمي، والتركيز التنظيمي هو الطريقة التي يستخدمها الناس لصياغة خططهم وتوجيهها أثناء سعيهم وراء تحقيق أهدافهم، فهي تدرس العلاقة بين دوافع الشخص والطريقة التي يتبعها لتحقيق هدفه، وتفترض وجود اتجاهين منفصلين ومستقلين للتنظيم الذاتي، إما بالتركيز على التقدم والترقية (المحفزات والمكافآت)، أو على التجنب والوقاية (المعيقات والأخطار)، إذ في حين ينظر نظام التقدم إلى تحقيق الأهداف بوصفه وسيلة لإشباع الحاجة إلى الطموح أو الإنجاز، يُنظر إلى الهدف في نظام الوقاية باعتباره مسؤولية أو واجباً.
ويعمل التركيز التنظيمي على تحديد ما الذي يدفعنا إلى تحقيق أهدافنا، وهل نعمل وفقاً للنهج التحفيزي الذي يركز على المكاسب والإنجازات ويرتجي النمو والتقدم والإنجاز، أم بالنهج التحفيزي الذي يركّز على السلامة والأمان، ويتحرك عادة بدافع تجنب الخسارة والأخطاء.
وتشير النتائج إلى أن الأشخاص الذين لديهم سمة ضبط النفس TSC أعلى هم أكثر سعادة ربما لأنهم أكثر تركيزاً على التقدم للحصول على مكاسب إيجابية، وبالتالي تقوية المزيد من السلوكيات الموجهة نحو الهدف الأساسي، وعادة ما لا يهتم أولئك الذين يفكرون بهذه الطريقة بالخسائر، بدلاً من ذلك، يميلون إلى تحديد طرق مبتكرة لتحقيق تقدم نحو أهدافهم مدفوعين بالطموحات، وهم بذلك أقل تركيزاً على الوقاية والخوف والخسائر والأخطاء، وبالتالي تقليل السلوكيات الموجهة نحو التجنب، بالتركيز على الانشغال الكامل والمسؤوليات والواجبات.
بيئة مسبقة الإعداد
واللافت أن الأفراد الذين لديهم سمة ضبط النفس أعلى هم ليسوا أكثر سعادة فحسب، بل إنهم لا يحتاجون إلى الانضباط الذاتي كثيراً كما يُظَنّ، والسرّ يكمن في عدم محاولة مقاومة الرغبات لأن نهج المقاومة هذا في حال نجح مرة، فإنه سيفشل حتماً في المرة التالية، وبالتالي سيجعل الشخص أقلّ إرادة وأكثر عرضة للفشل مع الوقت، إذاً ليس المطلوب مواجهة الرغبات والتخلي عنها، بل عدم تعريض النفس للإغراء أصلاً عن طريق القيام بمجموعة أعمال مسبقة تتضمن إبعاد عوامل التشتيت والإغراءات من حولنا، أي أن الانضباط في العمق هو نهج تجنبي استباقي، والملتزم بالهدف يهيئ بيئته ليصبح التوقف عن العادة غير المرغوبة أسهل بكثير، وبذلك هو يخلق بيئة جديدة فيها نوع من الرقابة والتقييم والتنظيم الذاتي المستمر وفقاً للمعايير الخاصة به.
ويبدو كما لو أن أولئك الذين يمتلكون قدراً كبيراً من ضبط النفس يتمتعون عموماً بروح معنوية أعلى أثناء ممارستهم حياتهم اليومية، وفي الأمد البعيد، يكونون أكثر سعادة بحياتهم، وهم ببساطة يميلون، بدلاً من حرمان أنفسهم باستمرار، إلى تجنب خلق مواقف تتعارض فيها أهدافهم، وبذلك هم أيضاً أقل تعرضاً للاختيار بين المتعة قصيرة الأمد والألم طويل الأمد، وبالتالي تنتابهم مشاعر سلبية بنسبة أقل.
أصحاب سمة ضبط النفس لا يضيّعون الوقت في خوض معارك داخلية حول ما إذا كان بإمكانهم فعل أمر ما أم لا، أي أنهم يتجنبون الرغبات الإشكالية والصراعات، ويترفعون على مثل هذ النوع من الإغراءات، كأن يختبروا مونولوجاً من نوع ما إذا كان بإمكانهم أخذ قطعة ثانية من البسكويت أم لا، هم حرفياً يستخدمون ضبط النفس لتنظيم حياتهم وتجنّب الانغماس في المواقف الإشكالية والصراعات الداخلية والمشتتات والعادات السيئة، وهذا بدوره، يمكن أن يساعد في تجنب اتخاذ قرارات متهورة يمكن أن تسبب مجموعة من المشاعر السلبية كالندم والتوتر والاستياء، ويبدو وكأن هذا ما يجعلهم أكثر سعادة.