حرية ـ (6/10/2024)
أنتوني بلينكن
تجري حالياً منافسة شرسة لرسم معالم عصر جديد على الساحة الدولية. في الواقع، تسعى مجموعة صغيرة من الدول، وعلى رأسها روسيا، بالشراكة مع إيران وكوريا الشمالية، وكذلك الصين، على تغيير المبادئ الأساسية للنظام الدولي. على رغم اختلاف نظم حكمها وأيديولوجياتها ومصالحها وقدراتها، فإن هذه القوى التعديلية [التي تسعى إلى تغيير النظام العالمي القائم] تريد جميعها ترسيخ الحكم الاستبدادي في الداخل وفرض مجالات النفوذ في الخارج، وترغب جميعها في حل النزاعات الإقليمية بالإكراه أو القوة. وهي تعمل على استغلال اعتماد الدول الأخرى على الاقتصاد والطاقة كأداة ضغط. وتسعى إلى تقويض أسس القوة الأميركية المتمثلة في تفوق الولايات المتحدة العسكري والتكنولوجي، وعملتها المهيمنة، وشبكة تحالفاتها وشراكاتها التي لا مثيل لها. وعلى رغم أن هذه البلدان لا تشكل محوراً واحداً متكاملاً، وأن الإدارة الأميركية أوضحت أنها لا تسعى إلى مواجهة بين الكتل، فإن الخيارات التي تتخذها هذه القوى التعديلية تعني أننا في حاجة إلى التصرف بحزم في سبيل منع حدوث ذلك.
عندما تولى الرئيس جو بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس منصبيهما، كانت هذه القوى التعديلية تتحدى بالفعل المصالح الأميركية بقوة وعدوانية. وكانت هذه الدول تعتقد أن الولايات المتحدة في حالة انحدار لا رجعة فيها في الداخل ومعزولة عن أصدقائها في الخارج. لقد رأت شعباً أميركياً فقد ثقته في الحكومة، وديمقراطية أميركية تعاني من انقسامات وشلل، وسياسة خارجية أميركية تقوض التحالفات والمؤسسات الدولية والمعايير التي بنتها واشنطن ودافعت عنها.
إن استراتيجية إدارة بايدن وضعت الولايات المتحدة في موقف جيوسياسي أقوى بكثير اليوم مقارنة بما كانت عليه قبل أربع سنوات. لكن عملنا لم يكتمل بعد. يجب على الولايات المتحدة أن تحافظ على ثباتها عبر الإدارات المتعاقبة لكي تبدد افتراضات القوى التعديلية. يجب أن تكون مستعدة لمواجهة تعاون أعمق بين الدول التعديلية في محاولة للتعويض عن نقاط ضعفها. وعليها أن تلتزم بتعهداتها وتحافظ على ثقة أصدقائها. كذلك، يتعيّن عليها أن تستمر في كسب ثقة الشعب الأميركي في قوة القيادة الأميركية المنضبطة وهدفها وقيمتها على الساحة العالمية.
العودة إلى المشهد
تستند كفاءة الولايات المتحدة الاستراتيجية إلى حد كبير إلى قدرتها التنافسية الاقتصادية. ولهذا السبب لعب الرئيس بايدن ونائبة الرئيس هاريس دوراً فعالاً في إقناع الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس بتمرير تشريعات تتيح القيام باستثمارات غير مسبوقة لتحديث البنية التحتية، وتعزيز الصناعات والتقنيات، وإعادة تنشيط قاعدة التصنيع، وتعزيز المشاريع البحثية، وقيادة التحول العالمي في مجال الطاقة.
لقد شكلت هذه الاستثمارات المحلية الركيزة الأولى في استراتيجية إدارة بايدن، وساعدت العمال والشركات الأميركية على تحفيز أقوى اقتصاد أميركي منذ تسعينيات القرن العشرين. فالناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الثلاث الأكبر التي تليها مجتمعةً. وقد انخفضت معدلات التضخم إلى واحدة من أدنى المستويات بين الاقتصادات المتقدمة في العالم. وظل معدل البطالة عند 4 في المئة أو أقل لأطول مدة منذ أكثر عن 50 عاماً. ووصلت ثروة الأسر إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق. وعلى رغم أن عدداً كبيراً من الأميركيين ما زالوا يجدون صعوبة في تلبية حاجاتهم الخاصة، وأن الأسعار لا تزال مرتفعة جداً بالنسبة إلى عديد من الأسر، فقد أدى التعافي إلى تقليص الفقر وعدم المساواة ووصلت فوائده إلى مزيد من الناس والأماكن.
هذه الاستثمارات في القدرة التنافسية الأميركية ونجاح انتعاش الولايات المتحدة هي لافتة للغاية. فبعد أن أقر الكونغرس قانون “الرقائق والعلوم” CHIPS and Science Act (CHIPS) وقانون “خفض معدل التضخم” Inflation Reduction Act (IRA) عام 2022، وهو أكبر استثمار على الإطلاق في المناخ والطاقة النظيفة، التزمت شركة سامسونغ الكورية الجنوبية باستثمار عشرات المليارات من الدولارات في تصنيع أشباه الموصلات في تكساس. وبطريقة موازية، استثمرت شركة تويوتا اليابانية مليارات الدولارات في صنع السيارات الكهربائية والبطاريات في كارولينا الشمالية. وقد تعهدت جميع الشركات الخمس الكبرى في العالم في مجال أشباه الموصلات ببناء مصانع جديدة في الولايات المتحدة، من خلال استثمارات بقيمة 300 مليار دولار وتوفير أكثر من 100 ألف وظيفة جديدة في أميركا.
في الوقت الحالي، تُعتبر الولايات المتحدة أكبر متلقٍ للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم. وهي أيضاً أكبر مزود للاستثمار الأجنبي المباشر، مما يُظهر القوة الفريدة للقطاع الخاص الأميركي في توسيع الفرص الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. وهذه الاستثمارات لا تفيد العمال والمجتمعات الأميركية فحسب، بل إنها تقلل أيضاً من اعتماد الولايات المتحدة على الصين وغيرها من القوى التعديلية وتجعل البلاد شريكاً أفضل للدول التي ترغب أيضاً في تقليل اعتمادها وتبعيّتها.
وعلى رغم أن بعض الأصدقاء كانوا قلقين في البداية من أن الاستثمارات والحوافز المحلية التي أطلقتها إدارة بايدن ستشكل تهديداً لمصالحهم الاقتصادية، فقد رأوا بمرور الوقت كيف يمكن أن تصبّ التحديثات الأميركية في مصلحتهم، فهي في الواقع أدّت إلى زيادة الطلب على بضائعهم وخدماتهم وتحفيز استثماراتهم في الرقائق والتكنولوجيا النظيفة وسلاسل الإمداد الأكثر مرونة. إضافة إلى ذلك، سمحت الولايات المتحدة وأصدقاؤها بمواصلة دفع الابتكار التكنولوجي وتحديد المعايير التكنولوجية التي تعتبر ضرورية لحماية أمنهم وقيمهم ورفاهيتهم المشتركة.
شركاء في السلام
كانت الركيزة الثانية لاستراتيجية إدارة بايدن هي إعادة تنشيط شبكة العلاقات الخاصة بالولايات المتحدة وإعادة تصورها، وتمكين واشنطن وشركائها من توحيد قوتهم من أجل تعزيز رؤية مشتركة للعالم والتنافس بقوة ولكن بمسؤولية ضد أولئك الذين يسعون إلى تقويض هذه الرؤية.
إن التنافس بقوة يعني استخدام جميع أدوات القوة الأميركية لتعزيز مصالح الولايات المتحدة. يعني ذلك تعزيز وضع قوة الولايات المتحدة وقدراتها العسكرية والاستخباراتية، وأدوات العقوبات والرقابة على الصادرات، وآليات التشاور مع الحلفاء والشركاء حتى تتمكن البلاد من ردع العدوان بشكل موثوق، والتصدي له إذا لزم الأمر. على رغم أن واشنطن لا تسعى إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية، إلا أن عليها الاستعداد للتعامل مع أخطار أكبر.
إن التنافس المسؤول يعني، في الوقت نفسه، الحفاظ على قنوات الاتصال في سبيل منع المنافسة من التحول إلى صراع. يعني ذلك توضيح أن هدف الولايات المتحدة ليس تغيير الأنظمة، وأنه حتى في الوقت الذي يتنافس فيه الجانبان، يجب عليهما إيجاد طرق للتعايش. ويعني أيضاً البحث عن سبل للتعاون عندما يخدم ذلك المصلحة الوطنية، والتنافس بطرق تعود بالنفع على أمن الأصدقاء وازدهارهم، عوضاً عن إلحاق الضرر بهم.
تُعتبر الصين الدولة الوحيدة التي لديها النية والوسائل لإعادة تشكيل النظام الدولي. لقد أوضح الرئيس بايدن في وقت مبكر أننا سنتعامل مع بكين باعتبارها “تحدياً يزداد تسارعاً” للولايات المتحدة، والمنافس الاستراتيجي الأكثر أهمية على المدى الطويل. لقد بذلنا جهوداً حازمة لحماية أكثر التقنيات تقدماً في الولايات المتحدة؛ والدفاع عن العمال والشركات والمجتمعات الأميركية من الممارسات الاقتصادية غير العادلة؛ ومواجهة العدوان الصيني المتزايد في الخارج والقمع في الداخل. وأنشأنا قنوات مخصصة مع الأصدقاء لمشاركة تقييم واشنطن للأخطار الاقتصادية والأمنية التي تطرحها سياسات الصين وأفعالها. ومع ذلك، استأنفنا التواصل العسكري بيننا وبين بكين وأكدنا أن الخلافات الجادة مع الصين لن تمنع الولايات المتحدة من الحفاظ على علاقات تجارية قوية مع البلاد. ولن نسمح أيضاً للتوتر في العلاقات الأميركية- الصينية بأن يمنع التعاون في الأولويات التي تهم الشعب الأميركي وبقية العالم، مثل التعامل مع تغير المناخ، وإيقاف تدفق المخدرات الاصطناعية، ومنع انتشار الأسلحة النووية.
وفي ما يخص روسيا، لم تكن لدينا أوهام بشأن الأهداف الانتقامية للرئيس فلاديمير بوتين أو إمكانية حدوث “إعادة تطبيع” العلاقات. ولم نتردد في اتخاذ إجراءات قوية ضد أنشطة موسكو المزعزعة للاستقرار، بما في ذلك هجماتها الإلكترونية وتدخلها في الانتخابات الأميركية. وفي الوقت نفسه، عملنا على الحد من الخطر النووي وخطر الحرب من خلال تمديد معاهدة “ستارت الجديدة” وإطلاق حوار حول الاستقرار الاستراتيجي.
وقد حافظنا على المستوى نفسه من الوضوح والتبصّر في تعاملنا مع إيران وكوريا الشمالية. فزدنا الضغوط الدبلوماسية وعززنا الوضع العسكري الأميركي لردع طهران وبيونغ يانغ وتقييدهما. بالاسترجاع، أدى خروج إدارة ترمب الأحادي والمضلل من الاتفاق النووي الإيراني إلى تحرير برنامج طهران النووي من قيوده، مما زعزع أمن الولايات المتحدة وشركائها. لكننا أظهرنا لطهران أن هناك طريقاً للعودة إلى الامتثال المتبادل، إذا كانت مستعدة لذلك، مع الحفاظ على نظام عقوبات قوي والتزامنا بأن إيران لن يُسمح لها مطلقاً بامتلاك سلاح نووي. وأوضحنا استعدادنا للمشاركة في محادثات مباشرة مع كوريا الشمالية، وأننا في الوقت ذاته لن نخضع لتهديداتها أو شروطها المسبقة.
إن التزام إدارة بايدن بالتنافس بقوة ولكن بمسؤولية على هذا النحو، سلبَ القوى التعديلية ذريعتَهم بأن الولايات المتحدة كانت العقبة أمام الحفاظ على السلام والاستقرار الدوليين، وأكسب الولايات المتحدة ثقة أكبر من جانب أصدقائها، مما أدى إلى شراكات أقوى.
وقد عملنا على تحقيق الإمكانات الكاملة لهذه الشراكات بأربعة طرق. أولاً، جددنا التزامنا بالتحالفات والشراكات الأساسية للبلاد. في حين طمأن الرئيس بايدن حلفاء الناتو أن الولايات المتحدة ستفي بالتزامها بالتعامل مع الهجوم على أحد أعضاء الحلف باعتباره هجوماً على الجميع؛ وأكد من جديد الضمانات الأمنية الثابتة تجاه اليابان وكوريا الجنوبية وحلفاء آخرين في آسيا؛ وأعاد مجموعة الدول السبع إلى دورها باعتبارها الهيئة التوجيهية للديمقراطيات المتقدمة في العالم.
ثانياً، أضفينا على التحالفات والشراكات الأميركية هدفاً جديداً. فقد رفعنا مستوى الشراكة الرباعية “كواد” Quad مع أستراليا والهند واليابان، واتخذنا خطوات ملموسة من أجل تحقيق رؤية مشتركة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة، من تعزيز الأمن البحري إلى تصنيع لقاحات آمنة وفعالة. وأطلقنا مجلس التجارة والتكنولوجيا المشترك بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فنظّمنا أكبر شراكة اقتصادية في العالم من أجل تشكيل المعايير العالمية للتقنيات الناشئة وحماية أكثر الابتكارات حساسية في الولايات المتحدة وأوروبا. علاوة على ذلك، رفعنا سقف تطلعاتنا في العلاقات الثنائية الرئيسة، مثل الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند، وأعدنا إحياء المشاركة الإقليمية، فاستضاف الرئيس بايدن قمماً مع زعماء من أفريقيا وأميركا اللاتينية وجزر المحيط الهادئ وجنوب شرقي آسيا.
لقد جعلنا حلف شمال الأطلسي أكبر وأقوى وأكثر اتحاداً من أي وقت مضى
ثالثاً، نسجنا علاقات متينة بين حلفاء الولايات المتحدة وشركائها بطرق جديدة على مستوى المناطق والقضايا. لقد أطلقنا “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ” Indo-Pacific Economic Framework، الذي يجمع 14 دولة تمثل 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في سبيل بناء سلاسل توريد أكثر أماناً، ومكافحة الفساد، والانتقال إلى الطاقة النظيفة. لقد أنشأنا تحالف “أوكوس” AUKUS، وهي شراكة دفاعية ثلاثية تتعاون من خلالها أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في سبيل بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية وتعميق التعاون العلمي والتكنولوجي والصناعي.
رابعاً، أنشأنا تحالفات جديدة لمعالجة التحديات المستجدّة. لقد حشدنا مجموعة متنوعة من الحكومات والمنظمات الدولية والشركات وجماعات المجتمع المدني لتصنيع مئات الملايين من لقاحات كورونا المجانية وتوزيعها، وإنهاء المرحلة الحادة من الجائحة، وإنقاذ الأرواح، وتعزيز قدرة العالم على منع الطوارئ الصحية المستقبلية والاستجابة لها. لقد أطلقنا تحالفاً عالمياً لمعالجة آفة المخدرات الاصطناعية غير المشروعة وجهوداً إقليمية لتقاسم المسؤولية في مواجهة تحديات الهجرة غير المسبوقة في نصف الكرة الغربي.
وعند بناء هذه التحالفات وغيرها، لطالما أعطت إدارة بايدن الأولوية للعمل مع الديمقراطيات الصديقة. ولهذا السبب نظم الرئيس “القمة من أجل الديمقراطية”، التي جمعت القادة الديمقراطيين والإصلاحيين من جميع المناطق. ولكن إذا كان الهدف هو حل المشكلات التي يواجهها الشعب الأميركي، فلا يمكن أن تكون الدول الديمقراطية هي الشريكة الوحيدة للولايات المتحدة. على سبيل المثال، يجب معالجة الفرص والأخطار المتزايدة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي من خلال تحالفات متعددة تشمل الدول غير الديمقراطية، طالما أنها ترغب في خدمة مواطنيها ومستعدة للمساعدة في حل التحديات المشتركة. وتحقيقاً لهذه الغاية، عملت إدارة بايدن مع بقية مجموعة السبع لتطوير أطر حكم للذكاء الاصطناعي، ثم قادت أكثر من 120 دولة، بما في ذلك الصين، في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصياغة واعتماد أول قرار للأمم المتحدة بشأن استغلال الذكاء الاصطناعي من أجل الخير. ولهذا السبب أيضاً، وضعت الإدارة إطاراً للتطوير المسؤول والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي العسكري الذي وقّعت عليه أكثر من 50 دولة.
الرد على النزعة التعديلية
في حين أسهمت استراتيجيتنا في تعزيز أسس قوة الولايات المتحدة في الداخل والخارج، استفادت دبلوماسيتنا من تلك القوة لتحويل الأزمات إلى فرص. في العام الأول من إدارة بايدن، أحرزنا تقدماً كبيراً في تعميق التوافق مع الحلفاء والشركاء حول نهجنا تجاه المنافسة الاستراتيجية. وأدت المحادثات في عواصم الحلفاء إلى تحول ملموس. على سبيل المثال، في المفاوضات الرامية إلى صياغة مفهوم استراتيجي جديد لحلف شمال الأطلسي، رأيت أن الحلفاء كانوا، للمرة الأولى، يركزون بشدة على التحدي الذي تشكله الصين على الأمن والقيم عبر الأطلسي. وفي محادثاتي مع مسؤولين من الدول الحليفة في شرق آسيا، سمعتهم وهم يحاولون التوصل إلى أفضل السبل للتعامل مع سلوك بكين القسري في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان.
لقد أدى قرار بوتين بمحاولة مسح أوكرانيا عن الخريطة، إلى جانب قرار الصين بتوفير الغطاء لروسيا أولاً ثم تأجيج عدوانها، إلى تسريع تقارب وجهات النظر بين الدول الآسيوية والأوروبية بشأن جدية التهديد والعمل الجماعي المطلوب لمواجهته. قبل الغزو الروسي، اتخذنا عدداً من الخطوات استعداداً لذلك، على غرار تحذير العالم من عدوان موسكو الوشيك، ومشاركة المعلومات الاستخباراتية مع الحلفاء، وإرسال الدعم العسكري لأوكرانيا للدفاع عن نفسها، والتنسيق مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع وغيرها للتخطيط لفرض عقوبات اقتصادية فورية وقاسية على روسيا. لقد تعلمنا دروساً قاسية خلال الانسحاب الأميركي الضروري ولكن الصعب من أفغانستان، دروساً تتراوح من التخطيط للطوارئ إلى التنسيق بين الحلفاء، وطبّقناها بفعالية.
عندما شن بوتين في النهاية غزوه الكامل، سارع حلف شمال الأطلسي إلى تحريك القوات والطائرات والسفن كجزء من قوة الرد التابعة له، مما عزز الجناح الشرقي للحلف. بطريقة موازية، اندفع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء إلى ضخّ مساعدات عسكرية واقتصادية وإنسانية لأوكرانيا. وأنشأت الولايات المتحدة مجموعة الاتصال الدفاعية بشأن أوكرانيا، التي نمت لتشمل أكثر من 50 دولة تعمل مع الجيش الأوكراني لتلبية الحاجات العاجلة. وفرضَ ائتلاف واسع من الدول عقوبات هي الأوسع على الإطلاق، مما أدى إلى تجميد أكثر من نصف أصول روسيا السيادية.
ولأن حرب بوتين لم تكن هجوماً على أوكرانيا فحسب، بل شكلت أيضاً تعدياً على مبادئ السيادة والسلامة الإقليمية التي تمثّل جوهر ميثاق الأمم المتحدة، فقد أثارت مخاوف تتجاوز حدود أوروبا. لو سُمح لبوتين بالمضي قدماً من دون عقاب، لكان المعتدون المحتملون في كل مكان قد أخذوا علماً بذلك، مما يفتح أبواب الفوضى على مصراعيها. وقد أكد قرار الصين بمساعدة روسيا على مدى ارتباط مصائر حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا ببعضها. وحتى تلك اللحظة، كان كثيرون في أوروبا ما زالوا يرون في الصين شريكاً اقتصادياً بشكل أساسي، حتى لو كانوا يزدادون حذراً من الاعتماد المفرط على بكين. ولكن عندما اتخذت بكين قرارها، بدأ مزيد من الأوروبيين يعتبرون الصين خصماً.
كلما أطال بوتين أمد حربه، زاد اعتماد روسيا على دعم زملائها من القوى التعديلية للبقاء في المعركة. لقد أرسلت كوريا الشمالية قطارات محملة بالأسلحة والذخائر، بما في ذلك ملايين قذائف المدفعية والصواريخ الباليستية ومنصات إطلاقها، في انتهاك مباشر لقرارات متعددة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. في المقابل، بنت إيران مصنعاً للمسيّرات الحربية في روسيا وأرسلت إلى موسكو مئات الصواريخ الباليستية. وسرّعت الشركات الصينية إمدادها للآلات والأجهزة الإلكترونية الدقيقة وغيرها من المواد ذات الاستخدام المزدوج التي تحتاج إليها روسيا من أجل إنتاج الأسلحة والذخائر وغيرها من المعدات.
ولكن في الوقت نفسه، كلما زاد اعتماد روسيا على دعم حلفائها من القوى التعديلية، توقع هؤلاء الحلفاء في المقابل تنازلات أكبر، وحصلوا على ما أرادوه. فقد وافق بوتين على مشاركة تكنولوجيا الأسلحة المتقدمة الروسية مع كوريا الشمالية، الأمر الذي أدى إلى تفاقم التهديد الخطير بالفعل الذي تواجهه اليابان وكوريا الجنوبية. وعمل مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، على إعادة إحياء اتفاقية تعود إلى حقبة الحرب الباردة يتعهد البَلَدان بموجبها بتقديم المساعدات العسكرية إذا خاض أي منهما حرباً. وزادت روسيا من دعمها العسكري والفني لإيران وسرّعت من المفاوضات حول شراكة استراتيجية مع البلاد، حتى مع استمرار طهران في تسليح وتدريب وتمويل وكلائها الذين نفذوا هجمات إرهابية على القوات الأميركية وشركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وعلى الشحن الدولي في البحر الأحمر. وقد توسع التعاون بين روسيا والصين في كل المجالات تقريباً، فأجرت الدولتان تدريبات عسكرية متزايدة العدوانية وأوسع نطاقاً، بما في ذلك في بحر الصين الجنوبي والمنطقة القطبية الشمالية.
شاشة تعرض لقطات من اجتماع بين مسؤولين أميركيين وصينيين، بكين
كل من الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية تمتلك تاريخاً معقداً ومصالح متباينة. علاوة على ذلك، إن شراكات هذه الدول الثلاث مع بعضها البعض لا تُقارن ببنية التحالفات الطويلة الأمد التي تتمتع بها الولايات المتحدة. فعلى رغم ادعاءاتها العظيمة بالصداقة والدعم المتبادل، فإن علاقاتها تظل في معظمها قائمة على المنفعة المتبادلة، وتعاونها ينطوي على تنازلات وأخطار قد يجدها كل من هذه الدول مزعجة مع مرور الوقت. وهذا ينطبق بشكل خاص على الصين، التي تتعرض عافيتها الاقتصادية في الداخل ومكانتها في الخارج للتهديد بسبب حالة عدم الاستقرار العالمي التي يثيرها شركاؤها الرجعيون. ومع ذلك، تشترك القوى التعديلية الأربعة في التزام راسخ بالهدف الأساسي المتمثل في تحدي الولايات المتحدة والنظام الدولي. وسوف يستمر هذا في دفع تعاونها، بخاصة مع وقوف الولايات المتحدة ودول أخرى في وجه محاولاتها التعديلية.
كان رد إدارة بايدن على هذا التوافق المتزايد هو تسريع التقارب بين الحلفاء لمواجهة التهديد. لقد جعلنا حلف شمال الأطلسي أكبر وأقوى وأكثر اتحاداً من أي وقت مضى، مع ترحيب الحلف بانضمام فنلندا والسويد على رغم تاريخهما الطويل من عدم الانحياز. خلال الفترة الأولى من إدارة بايدن، كان تسعة أعضاء من أصل 30 عضواً في حلف شمال الأطلسي تفي بالتزامها إنفاق 2 في المئة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع؛ هذا العام، سيحقق هذا الهدف 23 حليفاً من أصل 32.
لقد عملنا على تعميق التحالفات الأميركية وتحديثها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما عزز من الوجود العسكري الأميركي وقدراته من خلال توقيع اتفاقيات جديدة لتطوير القواعد العسكرية من اليابان إلى الفيليبين إلى جنوب المحيط الهادئ. لقد وجدنا أيضاً طرقاً جديدة لنسج علاقات أوثق بين الحلفاء. في عام 2023، عقد الرئيس بايدن أول قمة ثلاثية مع اليابان وكوريا الجنوبية في كامب ديفيد، حيث اتفقت الدول الثلاث على زيادة التعاون في سبيل الدفاع ضد هجمات الصواريخ الباليستية والهجمات السيبرانية من كوريا الشمالية. هذا العام، استضاف أول قمة ثلاثية مع اليابان والفيليبين في البيت الأبيض، حيث تعهدت الأطراف الثلاثة بتعميق الجهود المشتركة للدفاع عن حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي.
التقارب الكبير
يمكن القول إن التحول الأكثر تأثيراً الذي حققناه، لم يكن ضمن المناطق بل عبرها. عندما شن بوتين غزوه، كان يعتقد أنه يستطيع استغلال اعتماد أوروبا على الغاز والنفط والفحم الروسي لإثارة الانقسام وإضعاف دعمها لأوكرانيا. ولكنه قلل من تقدير عزيمة الدول الأوروبية، واستعداد الحلفاء في آسيا لمساعدتها.
لقد تعهدت اليابان بتقديم أكثر من 12 مليار دولار كمساعدات لأوكرانيا، وفي يونيو (حزيران) الماضي، أصبحت أول دولة خارج أوروبا توقع اتفاقية أمنية ثنائية لمدة عشر سنوات مع كييف. كذلك، قدمت أستراليا أكثر من مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وانضمّت إلى تحالف متعدد الجنسيات لتدريب الأفراد الأوكرانيين في المملكة المتحدة. وأعلنت كوريا الجنوبية أنها ستنظر في تزويد أوكرانيا بالأسلحة، إضافة إلى الدعم الاقتصادي والإنساني الكبير الذي تقدمه بالفعل. بطريقة موازية، ينسق شركاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ مع أوروبا لفرض عقوبات على روسيا وتحديد سقف لسعر النفط الروسي، مما يؤدي إلى تقليص كمية الأموال التي يمكن لبوتين ضخها في آلة الحرب الروسية.
في الوقت نفسه، أدى دعم الصين لروسيا، واستخدام إدارة بايدن المبتكر للدبلوماسية الاستخباراتية من أجل كشف حجم هذا الدعم، إلى زيادة تركيز حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا على التهديد الذي تشكله بكين. فقد سلّط الاضطراب الاقتصادي الهائل الناجم عن غزو بوتين الضوء على العواقب الكارثية التي قد تترتب على أي أزمة في مضيق تايوان، إذ يمر عبر هذا المضيق نحو نصف سفن الحاويات التجارية في العالم سنوياً. ويتم تصنيع أكثر من 90 في المئة من أشباه الموصلات الأكثر تقدماً في العالم في تايوان.
عندما تولت إدارة بايدن السلطة، كان بعض الشركاء الأوروبيين الرئيسين عازمين على تحقيق الاستقلالية عن الولايات المتحدة في وقت يسعون إلى تعميق الروابط الاقتصادية مع الصين. ومع ذلك، منذ الغزو، أعادوا توجيه جزء كبير من أجندتهم الاقتصادية نحو “تقليل الأخطار” الناجمة عن الاعتماد على الصين. في عام 2023، تبنى الاتحاد الأوروبي “قانون المواد الخام الحرجة” لتقليل اعتماده على الصين في الحصول على المواد اللازمة لتصنيع منتجات مثل السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح. في عام 2024، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرات جديدة لتعزيز أمنه الاقتصادي بشكل أكبر، بما في ذلك تحسينات في عمليات فحص الاستثمارات الأجنبية والموجّهة إلى الخارج، وأمن البحوث، وضوابط التصدير. وانسحبت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا من مبادرة الاستثمار الصينية “17 زائد 1” في وسط وشرق أوروبا، مثلما انسحبت إيطاليا من مبادرة الحزام والطريق الصينية. وحظر عدد متزايد من الدول الأوروبية، بما في ذلك فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، على شركات التكنولوجيا الصينية توفير المعدات اللازمة للبنية التحتية الحيوية لديها.
بصفتي وزير الخارجية، لا أمارس السياسة؛ بل أركز على السياسات العامة
واستطراداً، انضم الأصدقاء في كل من أوروبا وآسيا إلى الولايات المتحدة في اتخاذ إجراءات منسقة لمواجهة ممارسات الصين التجارية غير العادلة والقدرة الإنتاجية الزائدة. هذا العام، رفعت إدارة بايدن التعريفات الجمركية المستهدفة على الفولاذ والألمنيوم الصيني وأشباه الموصلات والمعادن الحيوية، خلافاً للتعريفات الشاملة [على جميع السلع] التي ترفع التكاليف على الأسر الأميركية. وبطريقة موازية، فرضَ الاتحاد الأوروبي وكندا تعريفات جمركية على السيارات الكهربائية الصينية. وقد تعلمنا دروساً قاسية من “الصدمة الصينية” في العقد الأول من هذا القرن، عندما أغرقت بكين السوق الأميركية بسيلٍ من السلع المدعومة التي قضت على صناعات أميركية، ودمرت سبل عيش الأميركيين، وأثرت سلباً في المجتمعات الأميركية. ومن أجل ضمان عدم تكرار التاريخ والتنافس مع أساليب الصين غير المنصفة، نحن نستثمر أكثر في القدرة الإنتاجية للولايات المتحدة وأصدقائها، ونعزز الإجراءات الحمائية حول تلك الاستثمارات.
وفي ما يتعلق بالتقنيات الناشئة، تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وآسيا معاً بشكل متزايد للحفاظ على تفوقهم الجماعي. بناءً على إلحاحنا، انضمت اليابان وهولندا إلى الولايات المتحدة في اتخاذ تدابير لمنع الصين من الحصول على أحدث أشباه الموصلات والمعدات المستخدمة في إنتاجها. ومن خلال “مجموعة كوانتوم ديفالوبمنت” Quantum Development Group، جمعنا تسعة من أبرز الحلفاء الأوروبيين والآسيويين لتعزيز مرونة سلسلة الإمدادات وتعميق الشراكات البحثية والتجارية في تقنية تفوق بقدراتها أقوى أجهزة الكمبيوتر العملاقة.
منذ اللحظة التي شنت فيها روسيا حربها، زعم البعض في الولايات المتحدة أن الدعم الأميركي لأوكرانيا من شأنه أن يؤدي إلى استنزاف الموارد المخصصة لمواجهة الصين. ولكن أفعالنا قد أثبتت العكس: فقد كان الوقوف في وجه روسيا أمراً أساسياً في تحقيق تقارب غير مسبوق بين آسيا وأوروبا، اللتين تريان على نحو متزايد أن أمنهما لا يتجزأ. وهذا التحول ليس نتيجة لقرارات مصيرية اتخذتها موسكو وبكين فحسب، بل إنه أيضاً نتاج قرارات مصيرية اتخذها حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها، خيارات شجعتها واشنطن ولكنها لم تفرضها ولم ترغب في فرضها ولم تستطع فرضها.
من الجدير بالذكر أن التحالف العالمي الذي يدعم أوكرانيا هو أقوى مثال على تقاسم الأعباء رأيته في مسيرتي المهنية. ففي حين قدمت الولايات المتحدة 94 مليار دولار لدعم أوكرانيا منذ الغزو الشامل الذي شنه بوتين، أسهم الشركاء الأوروبيون والآسيويون وغيرهم بما يقرب من 148 مليار دولار. ولا تزال هناك جهود كبيرة ينبغي بذلها لتعزيز قدرات الحلفاء الأميركيين في أوروبا وآسيا من خلال مزيج من التنسيق الأكبر، والاستثمار، والتكامل الصناعي. إن توقعات الشعب الأميركي وضرورات الأمن القومي تتطلب من الحلفاء والشركاء بأن يتحملوا مزيداً من عبء الدفاع عن أنفسهم مع مرور الوقت. ولكن اليوم في كل من هاتين المنطقتين الحاسمتين أصبحت الولايات المتحدة في موقف أقوى بفضل الجسر الذي بنيناه بين الحلفاء. وعلى المنوال نفسه، ازداد موقف أصدقاء أميركا قوةً أيضاً.
التعديلية عبر المناطق
إن التأثيرات المزعزعة للاستقرار الناجمة عن الحزم المتزايد للقوى التعديلية والتحالفات في ما بينها تتجاوز أوروبا وآسيا. ففي أفريقيا، أطلقت روسيا العنان لعملائها ومرتزقتها لاستخراج الذهب والمعادن الحيوية، ونشر المعلومات المضللة، ومساعدة أولئك الذين يحاولون الإطاحة بالحكومات المنتخبة ديمقراطياً. وعوضاً عن دعم الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إنهاء الحرب في السودان، أسوأ أزمة إنسانية في العالم، تعمل موسكو على تأجيج الصراع من خلال تسليح كلا الطرفين. وقد استغلت إيران ووكلاؤها الفوضى لإحياء طرق تهريب الأسلحة غير المشروعة في المنطقة وتأجيج الاضطرابات. وفي الوقت نفسه، صرفت بكين نظرها عن عدوانية موسكو في أفريقيا في حين خلقت تبعيات جديدة وأثقلت كاهل دول إضافية بديون لا يمكن تحملها. وفي أميركا الجنوبية، تقدم الصين وروسيا وإيران الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لحكومة نيكولاس مادورو الاستبدادية في فنزويلا، مما يعزز قناعته بأن نظامه محصن ضد الضغوط.
يتجلى اصطفاف القوى التعديلية بشكل أكبر في منطقة الشرق الأوسط. ففي الماضي كانت روسيا تدعم جهود مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للحد من طموحات إيران النووية؛ أما الآن فهي تعمل على تمكين البرنامج النووي الإيراني وتسهيل أنشطة طهران المزعزعة للاستقرار. واستطراداً، فإن روسيا التي كانت شريكاً مقرباً من إسرائيل انتقلت إلى تعزيز علاقاتها مع “حماس” بعد هجوم السابع من أكتوبر. ومن جانبها، تتعاون إدارة بايدن بلا كلل مع الشركاء في الشرق الأوسط وخارجه في سبيل إنهاء الصراع والمعاناة في غزة، وإيجاد حل دبلوماسي يمكّن الإسرائيليين واللبنانيين من العيش في أمان على جانبي الحدود، وإدارة خطر نشوب حرب إقليمية أوسع، والعمل على تحقيق مزيد من التكامل والتطبيع في المنطقة، بما في ذلك بين إسرائيل والسعودية.
إن هذه الجهود مترابطة. فمن دون إنهاء الحرب في غزة ورسم مسار واضح وموثوق ومحدد زمنياً نحو إقامة دولة تلبي التطلعات المشروعة للفلسطينيين وحاجات إسرائيل الأمنية، فإن التطبيع لا يمكن أن يتحقق. ولكن إذا نجحت هذه الجهود، سيؤدي التطبيع إلى ربط إسرائيل ببنية أمنية إقليمية، ويفتح الفرص الاقتصادية في جميع أنحاء المنطقة، ويعزل إيران ووكلائها. وقد ظهرت بوادر هذا التكامل في التحالف الذي ضم دولاً متعددة، بما في ذلك الدول العربية، وساعد إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجوم مباشر غير مسبوق من إيران في أبريل (نيسان). وقد أكدت زياراتي للمنطقة منذ السابع من أكتوبر أن هناك مساراً نحو مزيد من السلام والتكامل، إذا كان قادة المنطقة على استعداد لاتخاذ قرارات صعبة.
على رغم جهودنا الدؤوبة، فإن العواقب الإنسانية المترتبة على الحرب في غزة ما زالت مدمرة. لقد قُتِل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين في صراع لم يبدأوه ولا يستطيعون إيقافه. وتم تهجير كل سكان غزة تقريباً، وتعاني الغالبية العظمى منهم من سوء التغذية. هناك نحو مئة رهينة ما زالوا موجودين في غزة، بعضهم قُتل والبعض الآخر محتجز لدى “حماس” في ظل ظروف وحشية. وكل هذه المعاناة تضفي أهمية وإلحاحاً أكبر على جهودنا الرامية إلى إنهاء الصراع، ومنع تكراره، وإرساء الأسس لتحقيق سلام وأمن دائمين في المنطقة.
تقديم عرض أقوى
بالنسبة إلى عديد من الدول النامية والأسواق الناشئة، كانت المنافسة بين القوى العظمى في الماضي تعني أن يُطلب منها الاختيار بين أحد الطرفين في صراع بدا بعيداً من معاناتها اليومية. وقد أعرب كثيرون عن قلقهم من أن التنافس الحالي لا يختلف عن ذلك. ويخشى البعض أن يأتي تركيز الولايات المتحدة على التجديد الداخلي والمنافسة الاستراتيجية على حساب القضايا التي تهمهم أكثر. لذا، يجب على واشنطن أن تثبت أن العكس هو الصحيح.
إن الجهود التي تبذلها إدارة بايدن لتمويل البنية التحتية في جميع أنحاء العالم هي محاولة لتحقيق ذلك على وجه التحديد. في الحقيقة، لا ترغب أي دولة في مشاريع بنية تحتية تُنشأ بشكل سيئ وتدمر البيئة، أو تستورد العمالة أو تستغلها، أو تعزز الفساد وتثقل كاهل الحكومة بديون لا يمكن تحملها. ومع ذلك، في كثير من الأحيان، كان هذا هو الخيار الوحيد المتاح. ومن أجل تقديم خيار أفضل، أطلقت الولايات المتحدة ودول مجموعة السبع الأخرى “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار” في عام 2022. ستوفر المبادرة في نهاية المطاف 600 مليار دولار من رأس المال الخاص لتمويل مشاريع ذات جودة عالية وسليمة بيئياً وتعمل على تمكين المجتمعات التي تُبنى فيها. بالفعل، تنسّق الولايات المتحدة الاستثمارات في السكك الحديدية والموانئ لربط المراكز الاقتصادية في الفيليبين وتحفيز الاستثمار في البلاد. علاوة على ذلك، هي تقوم بسلسلة من الاستثمارات في البنية التحتية في مناطق ومجالات تنمية عبر أفريقيا، تربط ميناء لوبيتو في أنغولا بجمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وتربط في نهاية المطاف المحيط الأطلسي بالمحيط الهندي، مما سيخلق فرصاً للمجتمعات في جميع أنحاء المنطقة ويعزز إمدادات المعادن الحرجة التي تعتبر أساسية في قيادة التحول إلى الطاقة النظيفة.
واستكمالاً، تتعاون الولايات المتحدة مع شركائها من أجل تطوير البنية التحتية الرقمية وتوسيعها كي لا تضطر البلدان إلى التخلي عن أمنها وخصوصيتها من أجل الحصول على خطوط اتصال إنترنت عالية السرعة وبأسعار معقولة. وبالتعاون مع أستراليا واليابان ونيوزيلندا وتايوان، استثمرت واشنطن في كابلات من شأنها أن تمنح إمكانية الوصول الرقمي إلى 100 ألف شخص عبر جزر المحيط الهادئ، وقادت جهوداً مماثلة في أماكن أخرى في آسيا، وكذلك في أفريقيا وأميركا الجنوبية.
إضافة إلى ذلك، سعت الإدارة إلى جعل المؤسسات الدولية أكثر شمولاً. وعلى رغم أن الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات قد تكون غير مثالية، إلا أنه لا يوجد بديل عن شرعيتها وقدراتها. تُعدّ المشاركة في هذه المؤسسات وإصلاحها واحدة من أفضل السبل لتعزيز النظام الدولي ضد الجهود الرامية إلى تفكيكه. ولهذا السبب، في ظل إدارة بايدن، عاودت الولايات المتحدة الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو. ولهذا السبب أيضاً اقترحت الإدارة توسيع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإضافة عضوين دائمين من أفريقيا، وعضو دائم واحد من أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، ومقعد منتخب للدول الجزرية الصغيرة النامية. هذا إضافة إلى المقاعد الدائمة التي اقترحناها منذ فترة طويلة لألمانيا والهند واليابان. ولهذا السبب أيضاً ضغطنا على مجموعة العشرين لإضافة الاتحاد الأفريقي كعضو دائم، وهذا ما حدث عام 2023.
وفي عام 2021، دعمنا تخصيص صندوق النقد الدولي لمبلغ 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة من أجل مساعدة البلدان الفقيرة التي تعاني تحت وطأة الأزمات العالمية المتعلقة بالصحة والمناخ والديون. كما دفعنا من أجل تنفيذ إصلاحات في البنك الدولي ستتيح للحكومات تأجيل سداد الديون بعد الكوارث الطبيعية والصدمات المناخية وستوسع التمويل الميسور المتاح للدول المتوسطة الدخل. في عهد الرئيس بايدن، ضاعفت الولايات المتحدة التمويل المتعلق بالمناخ للدول النامية بمقدار أربع مرات من أجل دعمها في تحقيق أهدافها المناخية وساعدت أكثر من نصف مليار شخص على التعامل مع آثار تغير المناخ.
لقد أثبتت إدارة بايدن مراراً وتكراراً أن الولايات المتحدة هي الدولة التي يمكن للآخرين الاعتماد عليها للمساعدة في حل أكبر مشكلاتهم. فعندما أدت الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم أزمة الأمن الغذائي العالمية، على سبيل المثال، استثمرت الولايات المتحدة 17.5 مليار دولار لمعالجة انعدام الأمن الغذائي وحشدت أكثر من 100 دولة لاتخاذ خطوات ملموسة ترمي إلى مواجهة التحدي ومعالجة أسبابه الجذرية. وقد فعلت كل هذا بينما حافظت على دورها كأكبر مانح للمساعدات الإنسانية المنقذة للأرواح في جميع أنحاء العالم، وبفارق كبير.
الجبهة الداخلية
على رغم أن بعض الأميركيين ينزعون نحو الانفرادية والانعزالية، إلا أن هناك في الواقع دعماً واسعاً لركائز استراتيجية إدارة بايدن. لقد أقر الكونغرس قانون “الرقائق والعلوم” والجولات المتعددة من التمويل لأوكرانيا وتايوان بدعم من الحزبين. ويُظهر الديمقراطيون والجمهوريون في كلا المجلسين التزاماً بتقوية تحالفات الولايات المتحدة. وفي استطلاع تلو الآخر، يرى معظم الأميركيين أن القيادة الأميركية المبدئية والمنضبطة في العالم تشكل أهمية حيوية.
إن تعزيز هذا التوافق أمر حاسم لإقناع الحلفاء والخصوم على حد سواء بأنه على رغم تغير الحزب الحاكم في واشنطن، فإن ركائز السياسة الخارجية الأميركية لن تتغير. هذا من شأنه أن يمنح الحلفاء ثقة بأن الولايات المتحدة ستظل إلى جانبهم، مما يجعلهم حلفاء أكثر موثوقية بالنسبة إليها. في المقابل، سيمكن واشنطن من مواصلة مواجهة خصومها من موقع قوة، إذ سيعلمون أن القوة الأميركية ليست متجذرة في التزامات الحكومة الأميركية الراسخة فحسب، بل أيضاً في قناعات الشعب الأميركي التي لا تتزعزع.
بصفتي وزير الخارجية، لا أمارس السياسة؛ بل أركز على السياسات العامة. والسياسة العامة تتعلق بالخيارات. منذ اليوم الأول، اتخذ الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس قراراً أساسياً مفاده أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تمضي وحدها في عالم أكثر تنافسية وأقل استقراراً. إذا أرادت أميركا حماية أمنها وخلق الفرص لشعبها، فيجب عليها أن تقف مع أولئك الذين لديهم مصلحة في عالم حر ومفتوح وآمن ومزدهر، وأن تواجه أولئك الذين يهددون هذا العالم. إن الخيارات التي تتخذها الولايات المتحدة في النصف الثاني من هذا العقد الحاسم ستحدد ما إذا كانت هذه اللحظة من الاختبار ستبقى وقتاً للتجديد أو العودة إلى زمن الانحدار، سواء تمكنت واشنطن وحلفاؤها من الاستمرار في التفوق على القوى التعديلية أو سمحوا لرؤية تلك القوى بتحديد ملامح القرن الحادي والعشرين.
أنتوني بلينكن هو وزير الخارجية الأميركي