حرية ـ (6/10/2024)
تدور أحاديث بين سكان مدينة صور في جنوب لبنان حول البقاء أو النزوح على عجل، إذ ليس من الحكمة البقاء لفترة طويلة في الشوارع، مع اشتداد الحرب ونزوح العديد ومقتل آخرين في المدينة.
أحياناً قد ينقطع الحديث بسبب دوي القصف الإسرائيلي، أو صوت إطلاق الصواريخ من جانب حزب الله، ما يعني أن ذلك قد يجذب نيراناً مضادة.
تحوم الطائرات الإسرائيلية بدون طيار فوق رؤوسنا.
تقود السيارة بسرعة، ولكن ليس بسرعة مفرطة، لأنك تعلم أن هناك عيوناً تراقب من السماء. وفي الغالب تكون سيارتك هي الوحيدة على الطريق الخالي، مما قد يجعلك هدفاً للقصف. تستحوذ هذه الفكرة على عقولنا دائماً، تماماً كما نحمل السترات الواقية التي نرتديها – نحن الصحفيون – الآن.
إعلان
ولكن المدنيين هنا ليس لديهم دروع حماية، والكثير من اللبنانيين لم يعد لديهم سقف يؤويهم. أكثر من مليون شخص في البلاد اضطروا للفرار، كما تقول السلطات.
خلقت الحرب فراغاً قتل الحياة في هذه المدينة القديمة الفخورة بآثارها الرومانية وشاطئها الرملي الذهبي. الشوارع خاوية والمحلات مغلقة، والشاطئ الآن مهجور، والنوافذ تهتز بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية.
مقر الدفاع المدني المحلي مهجور – اضطرت فرق الإنقاذ للإخلاء – لإنقاذ أنفسهم بعد أن تلقوا تحذيراً إسرائيلياً عبر الهاتف.
أصبحت الضربات الإسرائيلية أعلى صوتاً وأقرب إلى فندقنا، في الأيام الأخيرة يبدو أن العديد من الضربات على التلال المقابلة لنا كانت باستخدام قنابل إسرائيلية تعد الأكثر تدميراً، ويصل وزنها إلى نحو ألف رطل.
وهناك أيضاً سبب آخر: حزب الله. فبينما تحاول الجماعة المسلحة صد القوات الإسرائيلية في غزوها للأراضي اللبنانية، فإنها تسيطر على وسائل الإعلام الدولية في مدينة صور، عبر الحد من تحركاتنا، لكنها لا تتحكم فيما نكتبه أو نبثه.
أما في المستشفيات، فيبدو الأطباء متعبين ومرهقين.
لم يعد كثيرون منهم يذهبون إلى منازلهم لأن التنقل أصبح خطيراً للغاية. وبدلاً من ذلك، يعتنون بمرضى مثل مريم البالغة من العمر تسع سنوات؛ ساقها اليسرى وكانت ملفوفة بجبيرة، وذراعها ملفوفة بضمادات ثقيلة. تنام على سرير في مستشفى حيرام، وشعرها الداكن حول وجهها.
مريم واحدة من عائلة مكونة من تسعة أفراد، يقول الرئيس التنفيذي لمستشفى حيرام الدكتور سلمان عيديبي “خمسة منهم تلقوا العلاج أيضاً، وأجرينا عملية جراحية لمريم، وهي في حالة أفضل بكثير. نأمل أن نرسلها إلى منزلها اليوم. تُقدم الإسعافات الأولية لمعظم المصابين هنا، وكذلك التحقق من استقرار حالتهم قبل إرسالهم إلى مراكز أخرى، لأن هذا المستشفى على خط المواجهة”.
ويضيف أن المستشفى يستقبل نحو 30-35 امرأة وطفلاً من المصابين يومياً، ما يؤثر سلباً على العاملين.
يعلق عيديبي: “نحن بحاجة إلى أن نكون إيجابيين أثناء عملنا. عندما نتوقف ونتأمل، ونتذكر، نصبح عاطفيين”.
عندما سُئل عما قد ينتظره، رد بتنهد: “نحن في حرب، حرب مدمرة على لبنان، نأمل في السلام، لكننا مستعدون لكل الاحتمالات”.
أما حسن مناع الذي على الرغم من استعداده للأسوأ، إلا أنه بقي في صور بينما تُحكِم الحرب قبضتها. “يظل حسن قائماً على عمله في المقهى الصغير الذي يديره منذ 14 عاماً، وما زال السكان المحليون يمرون إليه للدردشة والحصول على بعض الطمأنينة التي تتمثل على هيئة أكواب بلاستيكية صغيرة من القهوة الحلوة”.
أخبرني حسن: “لن أغادر مدينتي، لن أغادر منزلي، وسأبقى في مكاني مع أطفالي، لست خائفاً منهم (الإسرائيليين). العالم كله في الشوارع. لا نريد أن نتعرض للإذلال على هذا النحو. دعوني أموت في منزلي”.
قتلت غارة جوية إسرائيلية خمسة من جيرانه في منزلهم نهاية الأسبوع الماضي. حسن كان شاهداً على ما حدث وتمكن من النجاة وأصيبت ذراعه فقط.
هل كان هناك هدف لحزب الله هناك؟ لا نعلم. يقول حسن إن القتلى كانوا جميعاً من المدنيين وأفراد أسرة واحدة، بما في ذلك امرأتان وطفل رضيع.
وتقول إسرائيل إن أهدافها هي مقاتلي حزب الله ومرافقهم، وليس الشعب اللبناني. كثيرون هنا يقولون عكس ذلك، بما في ذلك الأطباء وشهود العيان مثل حسن.
لكن إسرائيل تقول إنها تتخذ خطوات لتقليل خطر إيذاء المدنيين، وتتهم حزب الله بإخفاء بنيته التحتية بين السكان المدنيين.
أصر حسن على أنه “لم يكن هناك شيء (لا أسلحة) هناك. لو كان ذلك صحيحاً، لكنا غادرنا المنطقة، لم يكن هناك شيء يمكن قصفه. كانت المرأة تبلغ من العمر 75 عاماً”.
بعد الضربة، بحث حسن بنفسه بين الأنقاض عن الناجين، حتى انهار ونُقل إلى المستشفى. عندما يتحدث عن جيرانه، يمتلئ صوته بالغضب والحزن، وتمتلئ عيناه بالدموع.
يقول: “هذا ظلم.. بالطبع ظلم. نحن نعرف الناس، ولدوا هنا وماتوا هنا. أقسم أنني أتمنى لو مت معهم”.
قبل عشرة أيام، حصلنا على شهادة من منطقة قريبة من الحدود، أخبرتني إحدى النساء المحليات ـ التي طلبَت عدم ذكر اسمها ـ أن الجميع يعيشون حالة من التوتر والقلق.
وقالت: “إن الهاتف يصدر صافرات إنذار باستمرار. ولا نستطيع أن نعرف أبداً متى ستبدأ الهجمات (الإسرائيلية). فالوضع متوتر دائماً، وفي العديد من الليالي لا نستطيع النوم”.
قاطعتنا صوت غارة جوية إسرائيلية، وتسببت في تصاعد الدخان من التلال البعيدة.
بعدها بدأت السيدة بسرد قائمة للقرى القريبة من الحدود ـ التي أصبحت مهجورة ومدمرة الآن بعد العام الماضي من تبادل إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل.
وقالت إن الأضرار التي لحقت بهذه المناطق كانت بالفعل أعظم كثيراً من تلك التي لحقت بها في حرب الأسابيع الخمسة عام 2006. وأضافت “إذا أراد الناس العودة في وقت لاحق، فلن يتبقى لهم منازل ليعودوا إليها”.
وتابعت: “لا يوجد هناك عائلة إلا وتعرّضت لفقد أفرادها”.
قبل الحرب كان حزب الله “يتفاخر دائماً بأسلحته، ويقول إنه سيقاتل إسرائيل إلى الأبد”، كما أخبرتني. “حتى أتباعهم في الخفاء يشعرون الآن بالصدمة من نوعية وكمية الهجمات التي تشنها إسرائيل”.
لا يجرؤ سوى قِلة هنا على التكهّن بالمستقبل. تقول: “دخلنا نفقاً، وحتى الآن لا نستطيع أن نرى النور”.
لا أحد يستطيع أن يجزم بما سيأتي بعد ذلك، وكيف سيبدو الشرق الأوسط في اليوم التالي.
ساهم في التقرير محمد ماضي.