حرية ـ (8/10/2024)
عند كل مواجهة عسكرية بين إسرائيل ولبنان – على اختلاف الجهة التي تتولى القتال في لبنان – يحضر إلى الواجهة نهر الليطاني، أحد أهم الأنهار اللبنانية.
ومنذ أن فتح حزب الله اللبناني جبهة “إسناد” لغزة وحماس، كما يصفها، في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين تتوالى بشأن النهر.
إسرائيل تصر على انسحاب قوات حزب الله إلى شمال الليطاني. والشهر الماضي قبل أيام من شن عملية برية “محدودة” جنوب لبنان، قال وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، “إذا فشل العالم في سحب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، فإن إسرائيل ستفعل ذلك”.
أما الحزب، فيتمسك بالبقاء جنوبي النهر، حتى أن رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، ذكر في الأشهر الماضية أنه من الأسهل نقل نهر الليطاني إلى الحدود مع إسرائيل، بدلاً من نقل حزب الله إلى ما وراء النهر.
الجغرافيا والبيئة السكانية
هو النهر الأطول والأكبر في لبنان، إذ يبلغ طوله 170 كيلومتراً، وتبلغ سعته تقريباً 750 مليون متر مكعب سنوياً، وقد أُقيمت عليه العديد من المشاريع للاستفادة منه في إنتاج الطاقة الكهرومائية وتأمين مياه الري والشرب، بحسب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني.
يبدأ منبع نهر الليطاني في قرية العليق الواقعة على مسافة عشرة كيلومترات إلى الغرب من مدينة بعلبك، ويجري جنوباً حتى يملأ بحيرة القرعون الصناعية، ثم ينعطف غرباً ليصب في البحر الأبيض المتوسط قرب بلدة القاسمية في الجنوب اللبناني.
يقسم نهر الليطاني الجنوب اللبناني إلى ما يشبه جزيرتين، تتصل ضفتاها عبر جسور رئيسية وفرعية. وتعرف المنطقة التي تقع قبل الجسور باتجاه العاصمة بيروت باسم منطقة شمال الليطاني، أما المنطقة باتجاه الحدود مع إسرائيل فتسمى منطقة جنوب الليطاني.
ولمنطقة جنوب الليطاني أهمية استراتيجية، فهناك المواقع العسكرية والبنية التحتية التي أنشأها حزب الله بالقرب من الحدود الإسرائيلية الشمالية، كما أن بعدها الجغرافي القريب من إسرائيل جعلها منطقة ساخنة للاشتباكات المسلحة بين الطرفين.
تبلغ المساحة الكلية لجنوب الليطاني نحو 850 كيلومتراً مربعاً، ويقطنه نحو 200 ألف نسمة، 75 في المئة منهم من الطائفة الشيعية – الحاضنة الشعبية لحزب الله – في حين يتوزع الـ 25 في المئة المتبقية على السنة والدروز والمسيحيين.
ويقسم جنوب الليطاني إلى ثلاثة قطاعات: الغربي، والأوسط الذي يعد مركز حزب الله شعبياً وعسكرياً، والشرقي. وجميع هذه القطاعات تضم عدة نقاط تماس بين مقاتلي حزب الله والجيش الإسرائيلي.
أما العمق الذي يفصل مجرى النهر عن الخط الأزرق فيبلغ في حده الأقصى 28 كيلومتراً في القطاع الأوسط، فيما يبلغ في حده الأدنى 6 كيلومترات في أقصى القطاع الشرقي.
والخط الأزرق هو خط رسمته الأمم المتحدة عام 2000 بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، ويفصل لبنان عن إسرائيل وهضبة الجولان التي تحتلها.
“الليطاني في قلب الصراع”
“تراجعوا إلى ما وراء الليطاني”، ليست تصريحات إسرائيلية جديدة ولا تخص حزب الله وحده.
ففي عام 1978 – حينها لم يكن حزب الله قد تأسس بعد – اجتاحت إسرائيل للمرة الأولى جنوب لبنان، وأطلقت على حملتها العسكرية اسم “عملية الليطاني”.
جاءت “عملية الليطاني” رداً على “عملية كمال عدوان” التي نفذها مقاتلون فلسطينيون من منظمة التحرير الفلسطينية، عندما تسللوا إلى إسرائيل عبر البحر وسيطروا على حافلة مدنية تقل إسرائيليين، ما أسفر عن مقتل عشرات الإسرائيليين.
سعت إسرائيل ضمن “عملية الليطاني” لتدمير مواقع منظمة التحرير الفلسطينية الواقعة جنوب النهر ودفع عناصر المنظمة وراء النهر. وسيطرت أيضاً خلال العملية على مناطق في الجنوب اللبناني وبقيت هناك حتى عام 2000، عندما انسحب الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء الخط الأزرق.
وفي عام 1982 اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان حتى وصلت وحاصرت بيروت بذريعة “التصدي لقذائف الفصائل الفلسطينية”، وردّاً أيضاً على محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي، شلومو أرغوف، في بريطانيا. وخلال تلك الفترة ظهر اسم حزب الله كـ”مقاومة إسلامية”.
وفي عام 2006، كان حزب الله قد عزز من وجوده في المناطق المحيطة بالنهر، واستطاع في هجوم عبر الحدود أن يقتل ثمانية جنود إسرائيليين ويحتجز اثنين وطالب بتبادل للرهائن مع إسرائيل، ما أدى إلى اندلاع حرب شاملة بين الجانبين عرفت بـ “حرب تموز”.
انتهت “حرب تموز” التي استمرت 33 يوماً بصدور قرار مجلس الأمن 1701، الذي نص على وقفٍ كامل للعمليات القتالية في لبنان، وسحب إسرائيل كل قواتها من جنوب لبنان، ووقف حزب الله لهجماته ضد إسرائيل. ودعا القرار كذلك إلى إيجاد منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، تكون خالية من أي عتاد حربي أو مسلحين، باستثناء ما هو تابع للقوات المسلحة اللبنانية وقوات اليونيفيل.
لم يلتزم الطرفان بتطبيق كامل للقرار، فبقي حزب الله في المنطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني وشهدت السنوات التالية انتهاكات من كلا الطرفين، بحسب الأمم المتحدة.
ما غاية إسرائيل في دفع حزب الله إلى ما وراء النهر؟
منذ عام تشهد المناطق الحدودية بين لبنان وإسرائيل اشتباكات مسلحة شبه يومية أدت إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين على جانبي الحدود.
وقبل أيام قررت إسرائيل شن عملية برية “محدودة” في الجنوب اللبناني بهدف “إزالة تهديد حزب الله وعودة سكان الشمال إلى منازلهم”.
يقول المحلل السياسي الإسرائيلي، يوآف شتيرن، لبي بي سي إن “إسرائيل تخشى تكرار سيناريو السابع من أكتوبر على الحدود الشمالية، فالمنطقة بين جنوب نهر الليطاني والحدود تتميز ببعد جغرافي قريب يمكّن مقاتلي حزب الله من التسلل إلى البلدات الإسرائيلية، ما يعني خطف وقتل المدنيين”.
ماذا عن أسلحة حزب الله؟
خلال السنوات الماضية – وبمساعدة إيرانية – استطاع حزب الله توسيع وتطوير ترسانته العسكرية. وبحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، يملك حزب الله ترسانة سلاح تتألف من 120 ألفاً إلى 200 ألفٍ من القذائف والصواريخ، ومنها على سبيل المثال الصاروخ الباليستي “قادر1” الذي يبلغ مداه (1350-1950 كيلومتراً).
إذاً ما الفائدة من دفع الحزب إلى شمال الليطاني؟
يجيب العميد المتقاعد، خليل الحلو، ويقول لبي بي سي “تستطيع إسرائيل صدّ صواريخ مثل قادر1 وفاتح 110 وغيرهما من خلال منظومة القبة الحديدية ومقلاع داود ومنظومة آرو 3، لكن حزب الله استخدم بنجاح خلال الحرب صواريخ مضادة للدروع من نوع كونكورس وكورنيت وألماس، وهذه يبلغ مداها 2- 8 كيلومترات، ولا يمكن لمنظومات الدفاع الصاروخي التصدي لها؛ لذلك تريد إسرائيل إبعاد الحزب وإخراج الصواريخ عن مدى رمايتها، إضافة إلى خلق منطقة عازلة لتأمين شمال إسرائيل”.
ويشير العميد خليل الحلو إلى أن حزب الله “يمتلك شبكة أنفاق كبيرة في الجنوب اللبناني تُمكّن مقاتليه من إطلاق الصواريخ وزرع العبوات الناسفة ونصب الكمائن ضد الجنود والآليات”، ويضيف الحلو أن “إسرائيل قادرة على التعامل مع هذه الوقائع لكن الثمن سيكون صعباً ومكلفاً”.
أما اللواء المتقاعد، هلال الخوالدة، فيرجح أن “إسرائيل تسعى من خلال إبعاد حزب الله إلى توسعة مجالها الجغرافي والوصول إلى مصادر المياه، إضافةً إلى حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط”.
هل يقبل حزب الله الانسحاب إلى شمال الليطاني؟
يرى العميد المتقاعد، خليل الحلو، أن “كل يوم يمر يجعل الأمر ممكناً، فالحزب تعرض لنكسة استراتيجية بعد اغتيال أمينه العام حسن نصر الله وقادته من الصف الأول والثاني، إضافة إلى تدمير مخازن ذخيرته وتهجير حاضنته الشعبية من قراها ومدنها”.
ويضيف الحلو أنه “لا يجب التعويل على الضربة الإيرانية التي استمرت لساعتين ومن غير المرجح أن تتكرر قريباً، كما لا يجب التعويل على المقاومة التي يبديها حزب الله في الجنوب – والتي أنزلت خسائر بالإسرائيليين – لوقف الحرب، فالحرب لا تتوقف عند أول إصابة”.
وعن سيناريوهات المرحلة القادمة يقول العميد المتقاعد، خليل الحلو، إن “الحرب ستنتهى بإحدى طريقتين: إما الحسم والنصر أو المفاوضات والتنازلات التي تشمل انسحاب الحزب إلى شمال الليطاني وعدم تسليح الجنوب وتوقف إسرائيل عن خرق المجال الجوي والبحري والبري للبنان، إضافة إلى وقف مسلسل الاغتيالات”.
كما يرى المحلل السياسي يوآف شتيرن أنه “إذا ما انتهت الحرب الحالية بين حزب الله وإسرائيل فإنه من المؤكد أن جولة جديدة من العنف ستستأنف في المستقبل. وعلى الرغم من أهمية المساعي الدبلوماسية، إلا أنها بحد ذاتها لا تستطيع إجبار الطرفين على عدم إطلاق النار من جديد”.