حرية ـ (8/10/2024)
طوني فرنسيس
لن تتمكن إسرائيل من مواصلة حروبها المفتوحة على الجبهات السبع من دون دعم أميركي حاسم وقاطع، ومن دون مبررات تقدمها إيران يومياً على شاكلة خطاب أيديولوجي قوامه إزالتها من الوجود على يد وكلاء يتآكلهم الوهن وتدمرهم آلة الحرب الإسرائيلية.
ومن حسن حظ الدولة العبرية وسوء طالع خصومها أن الولايات المتحدة الأميركية التي وقفت قبل عام إلى جانب حرب إبادة “حماس” في غزة، دخلت في مرحلة التنافس الانتخابي الشديد ببين حزبين يتصارعان على تقديم مزيد من الدعم للدولة العبرية، فإذا كان الرئيس جو بايدن يعد القضاء على قيادة “حزب الله” “تحقيقاً للعدالة” فإن خصمه دونالد ترمب يعد أن ذلك كان يجب أن يحصل في لبنان وغزة قبل زمن طويل. وإذا كان بايدن يدعم توجيه ضربة إلى إيران مع إبداء تحفظات حول أهداف هذه الضربة وضرورة ألا تشمل المواقع النووية والنفطية فإن ترمب يتساءل لماذا التأخير في ضرب المشروع النووي الإيراني، بل هو طالب بضرب هذا المشروع في أحد خطاباته الأسبوع الماضي.
تستفيد إدارة نتنياهو من الواقع السياسي الأميركي الراهن إلى الحد الأقصى لخوض معاركها على ما تسميه الجبهات السبع ورأسها الإيراني، من دون أن تلوح أية آفاق لتسويات ما مع هذا الرأس الذي وصل به الأمر على لسان المرشد علي خامنئي حد دعوة ذراعيه المدماتين، “حزب الله” الذي فقد قائده وأركانه، و”حماس” التي أنهكت، إلى مواصلة القتال في اليوم الذي أرسل فيه وزير خارجيته عراقجي إلى بيروت لينسف مبادرة خجولة تقدم بها رئيسا المجلس النيابي والحكومة لوقف النار والمجزرة.
هكذا بعد عام على اندلاع الحرب إثر غزوة “طوفان الأقصى” دمرت غزة وحل دور لبنان وفتحت إسرائيل الحرب على جهاتها “الإيرانية” السبع، وصار توجيه ضربة قوية لإيران نقطة على جدول الأعمال الإسرائيلي والغربي في ما يبدو وكأنه انتهاز إسرائيلي لفرصة منع العودة إلى اتفاق أميركي إيراني، تماماً مثلما فسرت إيران قبل عام هجوم “حماس” بأنه انتقام لقاسم سليماني، وتحديداً محاولة لنسف ما سمته “التطبيع العربي الإسرائيلي”.
عشية الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الحرب تراجع الحديث كلياً عن هدنة وصفقة تتصل بالرهائن والأسرى فيما احتل الجيش الإسرائيلي القطاع الذي كان قد أخلاه قبل نحو عقدين. ودمرت غزة لتنتقل آلة الحرب إلى الضفة حيث تدور حرب دموية ضد الناشطين الفلسطينيين مصحوبة بحركة استيطان وقحة. أما النقلة النوعية فكانت في اتجاه لبنان.
إذ بعد مناوشات استمرت أشهراً على الحدود استهلها “حزب الله” تحت عنوان وحدة الساحات وواجب مساندة غزة، انتقلت ماكينة الحرب الإسرائيلية بكامل ثقلها الاستخباري والعسكري لتنتقم من الذراع الأقوى في الترسانة الإيرانية. فبدأت حرب إبادة كاملة لـ”حزب الله” محققة نجاحات لم تكن لتحلم بها، وظهر كم بذلت إسرائيل من جهد على مدى أعوام لاختراق الحزب وكشف بنيته وتحركات مسؤوليه، مما سهل قيامها بعمليات تفجير لأجهزة الاتصال واغتيال لمئات العناصر وأخيراً الوصول إلى الأمين العام حسن نصرالله ورفاقه. لقد بات واضحاً أن الانتقام الإسرائيلي يتخذ صورة التصفية النهائية للحزب عبر عمليات تدمير واسعة وتهجير لأكثر من مليون مواطن لبناني غالبيتهم من الطائفة الشيعية التي عملت إيران بصورة حثيثة على الهيمنة عليها وتطويعها ضمن مشروعها لتطويع لبنان.
لم تتوقف الغارات الإسرائيلية في سوريا أثناء كل هذه المعارك، مستهدفة مواقع الميليشيات الإيرانية والمتعاونين معها، وهي غارات يتوقع أن تتسع لتطال الميليشيات في العراق، خصوصاً بعد نجاح تلك الأخيرة في إيقاع خسائر في صفوف الجنود الإسرائيليين في الجولان.
أما بعيداً نحو الجنوب فحرب يمكن أن تفتح على مصراعيها ضد عناصر ومواقع الحوثي شهدنا نموذجاً عنها في غارات الحديدة.
تلك هي الجبهات الست التي يقول نتنياهو وأركانه إنهم يخوضون حروبهم فيها ضد أذرع إيران، وتبقى الجبهة السابعة إيران نفسها بوصفها القائد الممول والموجه.
في الظروف الناشئة بعد عام على “طوفان الأقصى” لم تتوافر فقط الشروط الأميركية والدولية الملائمة لإسرائيل، بل توافر لإسرائيل نفسها قيادة متطرفة لم تشهد مثيلاً لها في تاريخها، ورأياً عاماً داخلياً جعلته المخاوف من تكرار تجربة “السابع من أكتوبر ’تشرين الأول‘” يندفع إلى تأييد حروب الجبهات السبع من دون تحفظ.
في هذا المناخ يتخذ نتنياهو قراراته وإلى يساره قادة كانوا سباقين في الدعوة إلى مهاجمة “حزب الله” (وزير الدفاع غالانت) وإلى يمينه من ينافس مناحيم بيغن وآرييل شارون في عنصريتهما وتطرفهما (بن غفير وسموتريتش)، أما المعارضون باسم الدفاع عن القضاء و”النظام الديمقراطي” المحذرين من فساد “الزعيم” فليس أمامهم سوى انتظار الانتخابات العامة خلال أكتوبر 2026، أي بعد عامين من اليوم.
في هذه المناخات وتأسيساً على إنجازات استخباراتية وصلت مفاعيلها إلى رأس “محور المقاومة” في طهران نفسها، يندفع نتنياهو نحو تحقيق حلمه الإمبراطوري. إنه يتوق الآن إلى توجيه ضربة قاصمة إلى إيران بعد أن أدمى أذرعتها كافة في المنطقة، وفي الأثناء يخوض معاونوه الذين أطاحت النشوة رؤوسهم في نقاشات حدها الأدنى وضع الخطط لاستمرار الاحتلال في غزة وضمان السيطرة على الضفة من جهة، والتحضير لشريط أمني في لبنان بدأ بعض الصهاينة الترويج للاستيطان فيه.
يعرف هؤلاء أن هذا المنطق لن يأتي بالحلول الملائمة ولا بالسلام والأمن، ويعرفون أيضاً أن السياسة الإيرانية هي التي تقدم لهم تبريرات كافية لمواصلة حروبهم.
في النهاية يمكن لهذه الحروب أن تتوقف لتعود المشكلة الفلسطينية الأساس إلى السطح بكل أحقيتها وتاريخيتها، وهذا ما ستضطر إسرائيل التي تهرب الآن إلى الأمام إلى مواجهته بعد انتهاء الظروف الراهنة التي جعلتها تحلم كل تلك الأحلام الإمبراطورية الدموية، وفي تلك اللحظة بالذات ينبغي لطرفين أن يغيبا عن المشهد، قيادة نتنياهو العنصرية وسياسة الملالي الإيرانيين التخريبية والعدمية.