حرية ـ (8/10/2024)
يحمل كتاب “ما تدين به الفلسفة للنساء: التاريخ المنسي للفكر، من البدايات حتى يومنا هذا” الصادر حديثاً في باريس عن دار روبير لافون، مجموعة من الدراسات التاريخية والفلسفية تتناول مكانة النساء في ميدان الفكر الفلسفي من خلال البحث في سيرة وأفكار اللاتي دخلن منهن عالم الفلسفة، على رغم نسيانهن وتهميشهن. يحمل الكتاب توقيع بعض الباحثات العاملات في مجال الفلسفة، تدريساً وتأليفاً، كساندرين ألكسندر وأنابيل بونيه وماري شارترون وإستيل فيراريز وجنفياف فريس وماري غارو وكاترين مالابو، وغيرهن بمشاركة وإشراف الأستاذتين لورانس ديفيليرز ولورانس هانسن-لوف.
فهل الفلسفة بتوقيع النساء مختلفة جذرياً عن تلك التي وقعها الفلاسفة الذكور؟ وما الدور الذي لعبته أفكار هؤلاء النسوة في تاريخ الفلسفة بعيداً من الحركة النسوية؟ وما القضايا الفلسفية التي أثرنها؟ وما انعكاسات هذه الأفكار على بنيات التفكير، وعلى طبيعة المسائل الفلسفية الكبرى؟
على رغم ذيوع صيت بعض الأسماء النسائية في المجال الفلسفي، فإن كتابات معظمهن لم تحظَ بالاهتمام المتناسب مع عمق المحتوى وأهميته. فقضايا الوعي بالذات وبالعالم وتحليل الأحداث والظواهر الأخلاقية والسياسية والاجتماعية منذ بداية الفلسفة حتى يومنا هذا، لم تكن مناقشتها يوماً حكراً على الرجال، إذ تصدت لمناقشتها نساء لامعات من أمثال هيباتيا وروزا لوكسمبورغ، وجان هيرش وسيمون دو بوفوار وحنة أرندت وجوديت بتلر وسيمون ڤايل وغيرهن كثير. لكن كتابات معظمهن لفها النسيان أو بقيت في معظم الأحيان على هامش تاريخ الفلسفة بقصد أو عن غير قصد. لذا كان لا بد للباحثات والفيلسوفات المشاركات في هذا الكتاب من العودة إلى تاريخ الفكر والحفر في مطاويه على طريقة الأثريين، من أجل الكشف عن أسماء نساء لفها النسيان في محاولة لإيفائهن حقهن من التقدير والاعتراف الصريح بفضلهن في إثراء العلم والفلسفة.
كتاب “ما تدين به الفلسفة للنساء”
تحتل الفلسفة “بصيغة المؤنث” إذاً كل صفحات الكتاب 496 التي تكشف لنا أن عام 1678 سجل اسم أول امرأة حصلت في أوروبا على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بادوڤا، وهي الفيلسوفة وعالمة الرياضيات الإيطالية إيلينا لوكريزيا كورنارو بيسكوبيا (1646-1684). بينما حصلت على هذه الشهادة في فرنسا بين عامي 1913 و1914 كل من ليونتين زانتا (1872-1947) وأليس ستيريا ڤوانيسكو (1885-1961)، وأنه كان يجب انتظار خمسينيات القرن العشرين لسماع أصوات النساء الفيلسوفات تصدحن في قاعات التدريس الجامعية الفرنسية أمثال جنفياف روديس-لويس في جامعة راين، وروز-ماري باستيد في جامعة إيكس-مارسيليا، وسوزان باشلار في جامعة ليل. ويخبرنا الكتاب كذلك أنه قبل عام 2003، لم يكن اسم أي امرأة مدرجاً في منهج الفلسفة في المدارس الثانوية في فرنسا، وأن هذا المنهج قد أصبح يشتمل اليوم على نصوص مختارة من كتابات حنة أرندت وسيمون دو بوفوار وسيمون ڤايل وجان هيرش وإليزابيث أنسكومب وأيريس مردوك وغيرهن.
سلطة الفلاسفة
وتقول المشرفات على إصدار هذا الكتاب إن تغييب أسماء النساء عن المشهد الفلسفي لا يزال يثير الدهشة، ذلك أن الفلسفة أكثر من غيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية هي المجال الذي تناقش فيه قضايا العدالة والمساواة في الحقوق والفرص. وعلى رغم ذلك لم يتردد الفلاسفة، ومعظمهم رجال، في استخدام سلطتهم واستغلال القوانين وقوة الأحكام المسبقة لحصر الفلسفة في إطارها الذكوري ومنع النساء من دخول حرمها، انطلاقاً من مقولة راسخة روجوا لها بصورة تجانب الحقيقة، وهي أن المرأة كائن عاطفي لا يصلح للتفلسف وممارسة الفكر، وهذا ما نفته كثير من التجارب الفلسفية النسائية التي خلدت سماء مفكرات مؤثرات في التاريخ البشري. فوفقاً للورانس هانسن-لوف “هذا الماضي لم يعد مقبولاً. إذ آن الأوان للإعلان بشجاعة أن هذا الزمن قد ولى. وأن الانتقال من ’اللحظة الأثرية‘، التي كانت تهدف إلى إعادة اكتشاف أسماء النساء العاملات في حقل الفلسفة وإعطائهن مكانتهن الشرعية، إلى ’اللحظة الفلسفية‘ التي تظهر الدور الكبير الذي لعبته النساء في صياغة إشكالات الفلسفة نفسها” قد حان. ولعل الأبحاث والكتابات والأفكار الممهورة بتوقيعات النساء أظهرت على ما تقول لورانس ديفيليرز “إن مساهمتهن في الفكر الفلسفي فلسفية بحتة، ولا يمكن حصرها في إطار الحركات النسائية”.
نساء فيلسوفات
إلى هذه “القفزة النوعية” يدفع هذا الكتاب الشيق، سواء لجهة كفاءة المشاركات في تحريره أو لجهة مضامينه ومقاصده، التي استندت إلى مبدأين: الأول، عدم الاقتصار على التعريف بالفيلسوفات النسويات فحسب، لأن جميع الفيلسوفات البارزات لم يكن منظرات نسويات، حتى وإن أسهمت أعمالهن من دون قصد منهن في تقدم قضية النساء، وأن جميع المثقفات والمنظرات النسويات لم يكن بالضرورة فلاسفة. ثانياً، رفض فكرة “الجوهرانية” أو تحديد “الذات الأنثوية” التي تدعي وجود “طبيعة” تميز تفكير النساء عن تفكير الرجال في رصد للتفاوتات بين الأنثى والذكر التي تحتم على المرأة صفات نمطية محددة أو تربطها بأفكار وتقاليد ثابتة تقيدها وتكبلها في حتمية معينة. كأن تصبح مثلاً موضوعات المدينة والفضاء العام والسياسة والمواطنة والسلطة والعقل والفكر والذكاء والماورائيات وغيرها من اختصاص الرجل، بينما تصبح موضوعات المنزل والحياة الخاصة والتربية الأسرية والخضوع والقلب والحنان هي من اختصاص المرأة.
وعليه، يهتم هذا الكتاب في إظهار أن النساء شاركن عبر التاريخ في التفكير في كل الموضوعات والإشكالات المطروحة، وأنهن فتحن للفلسفة آفاقاً جديدة وأضفن معارف إلى ميدان فهمنا للوعي بالذات والتفاعل مع العالم.
فلسفة نسائية رائدة
يقع الكتاب في ثمانية فصول تسمح للقارئ بإلقاء نظرة شاملة على المشروع بأكمله. يحمل الفصل الأول عنوان “الرائدات. نستشف منه عودة كل من الباحثات إيزابيل كوش وساندرين ألكسندر ومود مبوندجو إلى العصور القديمة، ليتناولن سير وإنجازات فيلسوفات لف أسماءهن ونصوصهن النسيان كهيباتيا وأسبازيا وتيانو وهيبارخيا وديوتيما وغيرهن. أما الفصل الثاني الموسوم “مدينة السيدات” الذي ضم دراستين للورانس دوفيليرز وكاميل دوفيلنوف، فيقدم نظرة بانورامية على الملامح العامة لسير وفلسفات كل من هيلدغارد دو بينغن ومرغريت بوريت وكاترينا السيانية وأوليمب دو كوج… إلخ. كما تلفت انتباهنا الدراسة القيمة “العقل لا جنس له” التي وقعتها أنابيل بونيت، والتي شكلت محور الفصل الثالث، فضلاً عن عناوين الفصول الأخرى وهي على التوالي “ما تفعله النساء بالفكر” و”هذا هو جسدي” و”العيش في العالم من دون السيطرة عليه”، و”نساء، حياة، حرية. إعادة التفكير في الأخلاق والسياسة انطلاقاً من نظرية ’الرعاية‘” وأخيراً “التفكير في العالم بعد حركة مي تو”.
تتبدى في هذه الفصول تجارب فلسفية رائدة لكل من تريزا الأڤيلية وسيمون ڤايل وسارة أحمد وجوديت بتلر ونانسي فريزر وإيريس ماريون يونغ وحنة أرندت وماري ولستونكرافت وإيزابيل ستينجرز وراشيل كارسون ومونيك ويتج… إلخ.، علماً أن الكتاب أغفل بعض الأسماء اللامعة كإديت شتاين ولو أندرياس- سالومي وبرباره كاسان ولوس إيريغاري وجوليا كريستفا وغيرهن، مع اعترافنا بأن غرضه الأساس ليس إحصاء أسماء كل الفيلسوفات، بقدر ما هو التعمق في الإشكالات التي عالجنها والأفكار التي قدمنها كتلك المتعلقة بالشخص ونوازعه وانفعالاته الداخلية أو تلك التي تتناول العنف والشر والشرط الإنساني والحرية والألم والحقيقة والتجذر وأخلاقيات الرعاية ونقد التوتاليتارية وغيرها من الموضوعات الفلسفية المرتبطة بالمجال السياسي كتلك التي أعادت النظر فيها نانسي فريزر، انطلاقاً من تحليلها مفهوم “الفضاء العمومي” عند يورغن هابرماس.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن التركيز على الجانب الفكري عند النساء في الوقت الراهن وعبر التاريخ يحمل أهمية كبيرة في دحض كل الأفكار البالية التي دأبت منذ ظهور الفلسفة على التأسيس للنظر إلى المرأة كعاطفة متقدة وفكر قاصر.
نموذجية في هذا الصدد النظرة إلى الكتابات السرّانية لكل من هيلدغارد دو بينغن وتريزا الأڤيلية ومكتيلد دو هاكبورن التي روج لها المفكرون الرجال الذين رأوا فيها تعبيراً عن نشوة أو هذياناً دينياً أو تسامياً لرغبة جنسية، في حين أنها تفتح الباب واسعاً، على ما تبين الدراسات في هذا الكتاب، أمام مقاربة مختلفة للطبيعة الإنسانية.
على رغم اعتماد كتاب “ما تدين به الفلسفة للنساء: التاريخ المنسي للفكر، من البدايات حتى يومنا هذا”، على مجموعة دراسات، فإنه لم يفقد وحدته في التطلع إلى زعزعة قناعات راسخة، وعلى رأسها تلك التي تقول إن الفكر الفلسفي حكر على الرجال، مؤكداً أن أكثر ما يميز الفلسفة هو أنها مناخ يستوي العقل الإنساني على مرتبته، أكان عقل رجل أو امرأة وأنها ممارسة فكرية تتطلب تشكيكاً ودرساً مستمراً لافتراضاتنا وأفكارنا.
يخلص الكتاب إلى أن المرأة مثلها مثل الرجل قادرة على التفكير الفلسفي وتناول القضايا المصيرية الكبرى وطرح إشكالات جديدة لم يسبق لأي فيلسوف أن طرحها، كأخلاقيات الرعاية ومفهوم الجسد الحامل وغيرها من المواضيع والمفاهيم التي تثير أسئلة معرفية أنطولوجية لم تكن لتحدث معرفتها لولا خوضها فعلياً.
إن الدراسات التي يؤلف مجموعها متن الكتاب والتي بحثت في سير وأفكار ونصوص بعض النساء اللاتي تحملن عبء التفرغ للفلسفة في مجتمعات ذكورية بامتياز، فتحت عالم الفلسفة على مصراعيه. بعضها بين لنا أن هذا الفكر طرح قضايا سياسية راهنة اتصلت بالفلسفة السياسية ونظرت إلى قضايا لم تطرح من قبل، كما هي الحال مع كتابات جوديت بتلر التي جالت في الفكر الحديث وساجلت سبينوزا وروسو وهيغل وكانط وطورت فلسفة فوكو وفرويد وألتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا وسيمون دي بوفوار، أو نانسي فريزر واهتمامها بالتفكر في مفاهيم العدالة والحق والنظرية النسوية والفضاء العمومي وقولها بوجود فضاء عام كوني يتجاوز الحدود السيادية التقليدية أطلقت عليه اسم “الفضاء العمومي ما بعد البرجوازي” في مقابل ما سمته “الأنموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي” المتصل بنظرية هابرماس، أو حنة أرندت ومعالجتها مشكلة الشر في العالم الحديث وتحويلها تفسيره من المجال الأخلاقي والميتافيزيقي والطبيعي إلى المجال السياسي وربط مفهومه بالأنظمة التوتاليتارية الحديثة التي اختلط فيها العنف بالفعل السياسي وتلاشت فيها الحدود بين المجال العام والمجال الخاص، بحيث بات العنف أمراً عادياً في المجتمع الإنساني… إلخ.
أخيراً، ما يجمع بين كل هذه الأسماء النسائية العاملة في حقل الفلسفة التي رصدها الكتاب، صوت هؤلاء النسوة النقدي على رغم اختلاف مشاربهن واتجاهاتهن الفكرية وانتماءاتهن العقدية واختياراتهن السياسية، والذي يبين لنا بالبرهان أنهن نحتن مفاهيم فلسفية عميقة وتركن أثراً فكرياً، لولاه لما كان هذا الكتاب “التحية”، الذي يهدف ليس فقط إلى إنصافهن وتحليل أسباب تغييبهن، بل إلى استكشاف عمق أعمالهن وأثرهن في الفلسفة.