حرية ـ (9/10/2024)
بدا مارك زوكربيرغ مرتاحاً تماماً وهو جالس الشهر الماضي على المسرح مع مضيفي البودكاست الشهير “وادي السيليكون” وأمام أكثر من 6 آلاف شخص دفعوا مالاً لقاء حضورهم. كان يرتدي ملابسه الجديدة المصممة خصيصاً له.
قال مازحاً، “كنت أفكر في نفسي، ربما نحتاج إلى حجز حلقة أخرى من هذا البرامج من أجل كل الأشياء التي من المحتمل أن أعتذر عن قولها الليلة”.
ثم أضاف مازحاً، عندما كان أحد المستضيفين على وشك البدء في سؤاله الأول، “لا، أنا أمزح فحسب. لم أعد أعتذر بعد الآن”.
أثار ذلك ضحكة كبيرة، لكن نبرة مؤسس “فيسبوك” كانت مختلفة إلى حد ما قبل شهر واحد عندما كتب إلى رئيس لجنة جمهوري في الكونغرس الأميركي ليكشف كيف ضغطت إدارة بايدن على شركته لفرض رقابة على مزيد من المنشورات حول جائحة كورونا.
قال زوكربيرغ، “أعتقد أن الضغط الحكومي كان خطأ، ويؤسفني أننا لم نكن أكثر صراحة في شأن ذلك”، مضيفاً أن طاقمه “اتخذ بعض الخيارات التي… لن نتخذها اليوم”. قد يطلق المتهكم على ذلك ما يشبه الاعتذار.
هذه هي المفارقة في التحول السياسي الأخير لمارك زوكربيرغ. فإلى جانب موضوعاته الجديدة، بدأ الرئيس التنفيذي والمساهم الأكبر في شركة “ميتا”، الشركة العملاقة لوسائل التواصل الاجتماعي التي تبلغ قيمتها 1.4 مليار دولار والتي تمتلك “فيسبوك” و”إنستغرام” و”واتساب”، إضافة إلى خط كويست لسماعات الواقع الافتراضي – في اتباع لهجة جديدة في الأمور الانتخابية.
فبعد أن اتخذ في السابق نهجاً صارماً ضد المعلومات المضللة المتعلقة بالجائحة ونظريات المؤامرة الانتخابية لدونالد ترمب، واستخدم ثروته الشخصية الهائلة لتمويل القضايا اليسارية، يقول الرجل الأربعيني الآن، إنه يريد أن لـ”ميتا” أن تكون “غير متحزبة”.
ويقال، إنه ألغى فريق “ميتا” المخصص لنزاهة الانتخابات، وألغى “غرفة الحرب” التي كانت تنظم في العام الانتخابي وألغى أدوات الشفافية التي يستخدمها الصحافيون لتتبع المعلومات المضللة، وخفض تصنيف المحتوى السياسي في خلاصات الأخبار في تطبيقاته. ويقال أيضاً إنه قلص الأنشطة السياسية لمؤسسته الخيرية.
وفي الوقت نفسه، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأسبوع الماضي أن زوكربيرغ اتصل بترمب مرتين في محاولة لإصلاح علاقتهما، وكان يقول لأشخاص مقربين منه إن سياسته الآن “ليبرالية” أو “ليبرالية كلاسيكية” أكثر منها تقدمية. وفي يوليو (تموز) الماضي، وصف علناً رد فعل ترمب على محاولة اغتياله بأنه “أحد أكثر الأمور شجاعة” التي رآها على الإطلاق.
إذن إلى أين يذهب زوكربيرغ بكل هذا بالضبط، ومن أين يأتي ذلك؟
تقول كاتي هارباث، وهي ناشطة سابقة في الحزب الجمهوري تحولت إلى مستشارة قادت جهود “ميتا” السياسية والانتخابية بين عامي 2011 و2021، في حديثها لـ”اندبندنت”، “أرى أن ذلك يمثل تحولاً في نهجه تجاه السياسة بدلاً من تحول في سياسته الخاصة”.
وأضافت، “بعد أعوام عديدة من محاولة استرضاء الجهات التنظيمية والسياسية، وبعد أن وجد أنه لا يستطيع الفوز بأي صورة، يقوم الآن برد فعل “الانسحاب” وعدم الرغبة في المشاركة في الأمر على الإطلاق… يتأرجح مارك من طرف إلى آخر، من 2020 إلى 2024″.
“أصبحت كل مؤسسة تقريباً متحزبة”
كان هناك وقت جهر فيه زوكربيرغ بمواقفه السياسية.
في عام 2015، أنشأ إلى جانب زوجته بريسيلا تشان مؤسسة خيرية وبدأ في ضخ الأموال في قضايا تقدمية مثل قوننة المخدرات، ورفع الضرائب العقارية في كاليفورنيا، وخلق طريق للحصول على الجنسية للمهاجرين الذين لا يملكون الوثائق الشخصية (إضافة إلى مجالات أقل تسييساً مثل البحث الطبي والعلمي).
ثم في عام 2016، أغرقت فضيحة كامبريدج أناليتيكا “ميتا” في ما سيتحول إلى حالة دائمة من الحصار السياسي. على مدى الأعوام الأربعة التالية، فيما أطلق عليه منذ ذلك الحين “الغضبة التكنولوجية”، بدأ السياسيون في جميع أنحاء العالم في تحميل شركات التكنولوجيا الكبرى المسؤولية عن القضايا التي كانت تتراكم منذ فترة طويلة: خصوصية البيانات والتحيز السياسي والصحة العقلية للمراهقين واضطرابات الأكل والفشل في التحقق من العمر وتعزيز التطرف وحتى تمكين الإبادة الجماعية.
في عام 2020 في ظل الموت الجماعي، اتخذت شركة “ميتا” وغيرها من شركات وادي السيليكون موقفاً قوياً غير مسبوق ضد المعلومات المضللة المتعلقة بجائحة كورونا وفي النهاية محاولة ترمب لإلغاء الانتخابات. كان المحافظون غاضبين، وأصبح الهجوم على شركات التكنولوجيا الكبرى ظاهرة عابرة للأحزاب بالكامل.
وفقاً لصحيفة الـ”تايمز”، كان زوكربيرغ مرتبكاً ومنزعجاً من هذه التحولات. وابتداءً من عام 2019، “أعرب عن حيرته” في شأن حالة السياسة الأميركية. وبحسب ما ورد، كان يشعر بالمرارة خصوصاً بسبب رد الفعل الجمهوري الهائل على تبرعه هو وتشان بمبلغ 420 مليون دولار أميركي لمنظمة غير ربحية للبنية التحتية للانتخابات لمساعدة مزيد من الناس على التصويت بأمان في انتخابات 2020.
فقد وصف ترمب المشروع بأنه “احتيال” و”غش”، وقال السيناتور الجمهوري تيد كروز، إنه مثال على “المليارديرات الذين يشترون الانتخابات”، وتحركت عشرات الولايات الحمراء لحظر مثل هذه التبرعات. في الواقع، وجدت التحقيقات اللاحقة أن هذه “الأموال الزوكربيرغية” لم تؤثر في نتيجة التصويت.
وبصراحة، من الغريب أن يفاجأ شخص ذكي مثل زوكربيرغ بأي من هذا. إن الذعر الأخلاقي المخادع الذي يؤججه المأجورون المتحزبون، وغالباً ما تحفزهم وتكافئهم شبكات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك”، أمر شائع في السياسة الأميركية، وقد زاد ترمب من هذه الديناميكية. يجب على أي ملياردير مخلص وملتزم في عمله الخيري أن يكون مستعداً الآن لرد الفعل العنيف الذي لا مفر منه.
وبغض النظر عن ذلك، يقال إن زوكربيرغ أصبح مستاء من الساحة بأكملها. وهو يعتقد الآن أن عديداً من الانتقادات الموجهة إلى “ميتا” كانت غير عادلة، وأن لفتات التأسف العلنية التي قامت بها الشركة جعلت منها مجرد “هدف ضعيف للأشخاص الذين يبحثون عن مصدر للوم” (معظم المنتقدين المذكورين سيؤكدون أن اعتذار الشركة لم يكن أكثر من مجرد اعتذار سطحي).
قال زوكربيرغ لموقع “ذا فيرج” الإخباري التقني الأسبوع الماضي، “لقد أصبحت كل مؤسسة تقريباً متحزبة بطريقة ما، ونحن نحاول فقط مقاومة ذلك… ربما أكون ساذجاً جداً، وربما يكون ذلك مستحيلاً، ولكننا سنحاول القيام بذلك”.
“يمكنك الهرب من السياسة، ولكن لا يمكنك الاختباء منها”
يبدو كل ذلك بالنسبة إلى روجر مكنامي مجرد هراء.
يقول المستثمر البالغ من العمر 68 سنة، “إن تصريح مارك بأنه قد ظلم بطريقة ما من قبل السياسيين هو أمر سخيف. لقد كان فيسبوك هو المستفيد من غياب تام للتنظيم الحكومي…. لقد سمح له بفعل ما يريد، من دون اعتبار للعواقب”.
كان ماكنامي أحد أوائل المستثمرين في “فيسبوك”، وقد عمل ذات مرة مرشداً لزوكربيرغ وأقنعه بعدم بيع الشركة الناشئة إلى “ياهو” حتى بسعر مجز. وفي وقت لاحق، أصبح معارضاً قوياً للشركة بعد أن حاول وفشل في تحذير زوكربيرغ من التدخل الروسي في الفترة التي سبقت انتخابات 2016.
يقول لـ”اندبندنت”، “من الأفضل لك أن تأخذ كل ما يقوله مارك على أنه محاولة يائسة لتغيير الموضوع لتجنب المساءلة”، مشيراً إلى أن سعر سهم “ميتا” الآن في أعلى مستوياته على الإطلاق على رغم الاضطرابات الناتجة من ردود الفعل السلبية على التكنولوجيا والجائحة.
ومن وجهة نظره، فإن المشكلات السياسية التي تواجهها “ميتا” ليست نتيجة سوء إدارة الأزمات أو الفشل في فهم السياسة الأميركية المتغيرة. إنها نتيجة مباشرة ومتوقعة لسلوك الشركة السيئ. والآن بعد أن بدأ المجتمع يستيقظ على هذه المشكلات، كما يقول، فإن زوكربيرغ يشعر بالقلق.
حتى لو كنت لا توافقه الرأي، فإن هذا الموقف برمته هو في الأساس موقف سعى إليه زوكربيرغ. فهو الذي اختار أن يوسع خدمات “ميتا” في جميع أنحاء العالم بلا رحمة حتى أصبحت أشبه بالحكومة، وأن يعزز سلطته على الشركة إلى درجة أنه أصبح ملكها فعلياً.
هذه المؤسسة التي تصوغ إلى درجة كبيرة ما يراه قرابة 3.3 مليار شخص على شاشاتهم كل يوم، وكذلك القواعد التي يلتزمون بها عند نشر آرائهم على الإنترنت. “ميتا” لا تصنع قطع غيار السيارات أو نقانق الذرة أو ألعاب الديناصورات الصغيرة. إنها، لأنها اختارت أن تكون، مكاناً لحصة هائلة من المحادثات السياسية على الأرض.
وبعبارة أخرى، عندما تجعل من نفسك مانعة صواعق للجدل السياسي، لا يجب أن تتفاجأ بأنك لا تستطيع إقناع البرق بعدم صعقك.
على أي حال، يشير هارباث إلى أن زوكربيرغ لا ينأى بنفسه عن السياسة، لأنه يواصل التحدث عن قضايا مثل تنظيم الذكاء الاصطناعي التي تؤثر مباشرة على شركته. ويضيف، “إنه يحاول أن يفوز بكل شيء. ولكن في نهاية المطاف، هو يحاول فقط تجنب الانغماس في المعركة السياسية”.
هل سينجح ذلك؟ يقول هارباث، “لا، لن ينجح ذلك. يمكنك الهرب من السياسة، لكن لا يمكنك الاختباء منها. أعتقد أنه سيستمر في الانخراط فيها”.
وكمثال على ذلك، ليس علينا أن نذهب أبعد من كتاب “أنقذوا أميركا” الذي نشره ترمب أخيراً، الذي يصف فيه تبرعات زوكربيرغ وتشان للبنية التحتية للانتخابات بأنها “مؤامرة حقيقية ضد الرئيس”.
كتب ترمب، “نحن نراقبه من كثب، وإذا فعل أي شيء غير قانوني هذه المرة سيقضي بقية حياته في السجن، كما سيقضي الآخرون الذين سيغشون في الانتخابات الرئاسية لعام 2024”.
إذن: لا ضغوط يا مارك.