حرية ـ (12/10/2024)
منى يعقوبيان
لقد أدى الهجوم الإيراني بالصواريخ الباليستية على إسرائيل في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري إلى زيادة المخاوف من اندلاع حرب شاملة في الشرق الأوسط. وكانت دوامة العنف الدموية المتفاقمة استفحلت ابتداءً من الـ17 والـ18 من سبتمبر (أيلول) الماضي عندما انفجرت في أنحاء لبنان آلاف أجهزة الـ”بيجر” واللاسلكي التي يستخدمها عناصر “حزب الله” – إذ وصف أحد المحللين هذه العملية الإسرائيلية غير المسبوقة بأنها “الهجوم الأكبر في التاريخ على سلسلة إمداد مادية”.
وجاءت الغارات الجوية المستمرة على بيروت وجنوب لبنان لتمثل الهجمات الإسرائيلية الأضخم بعد فترة من الهجمات المحدودة المتبادلة خلال الأشهر الـ12 الماضية. وفي الـ27 من سبتمبر وجهت إسرائيل ضربة قاصمة لـ”حزب الله” تمثلت في قتل زعيمه حسن نصرالله إثر غارة جوية على ضاحية بيروت (الجنوبية).
لكن على رغم تكبدها انعكاسات هذه الهجمات وعملية تدمير بنتيها القيادية، تستمر الميليشيات الشيعية بإطلاق صواريخها على إسرائيل. وإيران من جهتها – راعية “حزب الله” – المصدومة والغاضبة جراء تلك الضربات، أطلقت نحو 200 صاروخ باليستي على إسرائيل، وقد قتل إثر ذلك شخص واحد في الأقل في الضفة الغربية. ويتحضر الإيرانيون اليوم لتلقي الرد الإسرائيلي على هجومهم. وتبقى دوامة العنف القائمة بعيدة من النهاية، وفق ما يظهر.
على أن الفصل الأخير من هذه الأحداث يبرِز الانهيار شبه الكامل لحال الردع في الشرق الأوسط. فاللاعبون هناك، دولاً كانوا أو غير دول، يقومون بمخاطرات كبرى، إذ إن هجوم الـ”بيجر”، كعملية محددة بعينها، ربما أشار إلى عزم إسرائيل على إجبار “حزب الله” على وقف التصعيد، أو أن يواجه حرباً كارثية. بيد أن قرارات إسرائيل باغتيال نصرالله وتكثيف الهجمات على لبنان، أو حتى المباشرة باجتياح بري، تفصح عن احتمالات أكثر قتامة وسوداوية. فعملية الـ”بيجر” لم يقصد منها إلا ضعضعة أركان “حزب الله” تمهيداً لتدخل عسكري إسرائيلي أكبر حجماً واتساعاً.
وكان على مدى عقدين تقريباً ساد هدوء نسبي عند الحدود الإسرائيلية – اللبنانية. إلا أن التصعيد الأخير يكشف عن مدى الخطورة التي باتت تتسم بها المنطقة منذ هجوم حركة “حماس” الإرهابي في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والنزاع الذي تلاه في غزة. فالشرق الأوسط لم يعُد خاضعاً لقواعد اشتباك راسخة وأساليب ردع متبعة. والافتراضات التي كانت تحكم سلوك وحسابات الأخطار لكثير من الجهات الفاعلة في المنطقة، أكانت تلك الجهات دولاً أو غير دول، باتت متقادمة على نحو متزايد، وقد عفا عليها الزمن. بالتالي لم تعُد هناك خطوط حمراء واضحة، ولا قواعد لضبط اللعبة يقبل بها الجميع. وكذلك تغيب القنوات الموثوقة التي تمكّن الأطراف المتنازعة من خفض التصعيد والعودة للهدوء.
لذا، وإزاء هذا الوضع المتزعزع، يمكن للولايات المتحدة إعادة بناء تأثيرها المتراجع وأن تقوم بدور حاسم في ترميم حالة الردع في منطقة باتت الدول والجماعات المسلحة فيها تشعر بأن بوسعها التصرف بتهور ومن دون محاسبة. لكن قبل ذلك، على الولايات المتحدة أن تدرك أن سياساتها الراهنة قاصرة ومتقادمة، إذ إنها تستمر في الاعتماد بالدرجة الأولى على مقاربات عسكرية تقليدية كي تفرض حال الردع، وتلك مقاربات تفشل في التعامل مع التحولات العاصفة بالمنطقة، وأبرزها: الجماعات النافذة غير الخاضعة لسيطرة الدولة، الدول التي لا يوجد ما يقيدها، والتكنولوجيات التخريبية المدمرة. من هنا فإن على واشنطن مساعدة جميع الأطراف في تقليل احتمالية سوء التقدير، والعمل على وقف تهاوي حال الردع الذي أدى إلى تأجيج العنف. وإن لم تفعل ذلك فإنها ستواجه خطر الانجرار إلى صراع إقليمي له آثار ومترتبات عالمية.
محور الانتهازيين
منذ زمن والجماعات غير الخاضعة لسيطرة الدولة (الميليشيات والتنظيمات المسلحة) تقوم بدور مزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط. واليوم تمكن الحلف الفضفاض المكون من جماعات موالية لإيران، والمعروف بـ “محور المقاومة”، من تقويض وزعزعة المنطقة بطرق غير مسبوقة عقب السابع من أكتوبر 2023، إذ بعد يوم واحد فقط من هجوم “حماس” الإرهابي، بدأ “حزب الله” بسلسلة هجمات على شمال إسرائيل أجبرت، وبأقل تقدير، 60 ألف إسرائيلي على النزوح من بيوتهم ومناطقهم، وأسهمت تلك الهجمات الصاروخية على نحو فاعل في خلق منطقة عازلة تمتد لخمسة كيلومترات داخل إسرائيل. في المقابل، أدت هجمات الرد الإسرائيلية إلى تكبيد المدنيين اللبنانيين ثمناً باهظاً، فشردت مئات الآلاف وقتلت أكثر من ألف شخص، مع استمرار حصيلة القتلى بالارتفاع على نحو متسارع منذ منتصف سبتمبر الماضي.
وكذلك انضمت الميليشيات المدعومة إيرانياً في العراق إلى النزاع منذ أكتوبر 2023، فاستهدفت قواعد القوات الأميركية المتمركزة في العراق وسوريا. وفصائل ميليشيات عراقية عدة، مثلاً، تعمل وتنفذ عملياتها تحت مظلة “المقاومة الإسلامية في العراق”، نفذت أكثر من 100 هجمة ضد أهداف أميركية، إضافة إلى هجمات ضد إسرائيل. وفي الآونة الأخيرة ضمن هذا الإطار، في الـ25 من سبتمبر الماضي، أعلنت “المقاومة الإسلامية في العراق” مسؤوليتها عن هجوم بمسيّرة على مدينة إيلات الإسرائيلية.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، أطلق الحوثيون، وهم جماعة متمردة في اليمن، حملة هجمات مستمرة استهدفت أكثر من 100 سفينة تجارية في البحر الأحمر، مما أدى إلى تعطيل حركة التجارة العالمية وتسبب في حالات تأخير وزيادة كلف شحن مستوعبات البضائع من آسيا إلى أوروبا وأميركا الشمالية. وفي اندفاعة غير مسبوقة، استخدم الحوثيون طائرة مسيّرة لمهاجمة تل أبيب في يوليو (تموز) الماضي، مما أدى إلى مقتل مدني وجرح 10 آخرين. وردت إسرائيل على ذلك الهجوم، فاستهدفت ميناء الحُديدة اليمني، ذاك الميناء المسؤول عن 70 في المئة من الواردات التجارية لليمن و80 في المئة من المساعدات الإنسانية التي يتلقاها، فتعطل تأمين المساعدات الأساسية لذاك البلد المنكوب بالحرب منذ أعوام. وفي سبتمبر الماضي بلغ صاروخ باليستي أطلقه الحوثيون وسط إسرائيل. وفي وقت لاحق من ذاك الشهر (سبتمبر)، أعلنت جماعة الحوثي أيضاً عن استهداف مدينتي تل أبيب وعسقلان الإسرائيليتين، وهو استهداف ردت عليه إسرائيل بهجمات ضخمة على الحُديدة. وتأتي تصرفات الحوثيين تلك لتجسد القرارات المتهورة والاستفزازية المترافقة مع واقع تهاوي حال الردع، فيما التحركات العسكرية المنسقة التي تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها لم تسهم بشيء تقريباً للجم تلك الجماعة.
لقد شهد تهاوي حال الردع بالشرق الأوسط في الحقيقة تسارعاً ملحوظاً بفعل تحول أكبر، يتمثل في الاعتقاد القائل إن الهيمنة الأميركية في المنطقة آخذة في التراجع والتضاؤل. وفيما كان صناع السياسة الأميركيون يحاولون الابتعاد من الشرق الأوسط، راحت الجماعات غير الخاضعة لسيطرة الدولة تسعى إلى الاستفادة من ذلك، معتقدين بأنه بات بوسعهم فرض أنفسهم بحرية أكبر في سياق السعي إلى تحقيق أهدافهم. وفي إطار ذلك السعي وتلك الأهداف جرى تعزيز قواهم وتسهيل حصولهم على طائرات مسيّرة وصواريخ، كما جرى تعميم السردية الشائعة التي تحرضهم ضد إسرائيل والولايات المتحدة. وقد جعلهم هجوم السابع من أكتوبر يغتنمون الفرصة لإحداث حال اضطراب عام في المنطقة. وعلى رغم قيام إسرائيل بإلحاق نكسات شديدة بـ”حماس” و”حزب الله”، إلا أن حال الاضطراب التي صنعتها هذه الجماعات كشفت عن عمق أزمة تهاوي حالة الردع، وهي أزمة أدخلت الجهات الحكومية الفاعلة في حلقة مفرغة ومدمرة من حلقات التصعيد غير المضبوط.
أعداء قدامى، قواعد جديدة
وأيضاً أدى انهيار حال الردع في الشرق الأوسط إلى مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل. وليس الهجوم الصاروخي الإيراني في الآونة الأخيرة على إسرائيل رداً على اغتيال نصرالله إلا الحلقة الأحدث من المواجهة المباشرة بين هذين العدوين، ففي أبريل (نيسان) الماضي كانت إيران ردت على غارة إسرائيلية على مبنى تابع للقنصلية الإيرانية في دمشق أودى بحياة عدد من ضباط الحرس الثوري الإيراني، بينهم قائدان رفيعان، بإطلاق أكثر من 300 صاروخ ومسيًرة حربية على إسرائيل. وهذا الهجوم أطاح بقواعد الاشتباك التي سادت لوقت مديد وحكمت “حرب الظل” بين البلدين.
وكانت قواعد الاشتباك السابقة المذكورة سمحت لإيران بالسعي إلى إلحاق الضرر بإسرائيل عبر وكلاء وعمليات سرية، من دون مهاجمة عدوها مباشرة. وبناء على ذلك افترضت إسرائيل مخطئة أن رد إيران على الهجوم الإسرائيلي على المبنى الدبلوماسي في دمشق سيكون محدوداً. إلا أن حسابات الأخطار الإيرانية تبدلت، وباتت تعبر ربما عن الاعتقاد السائد بين صناع السياسة الإيرانيين الذين يرون أن الهجمات الاستفزازية الإسرائيلية المتصاعدة تتطلب رداً أكثر قوة ووضوحاً. واختارت إيران – راعية “محور المقاومة” وملهمته الأيديولوجية – إظهار نفسها من خلف ستار الإنكار المعقول الذي يوفره لها وكلاؤها. إلا أن رد إسرائيل على هجوم إيران الصاروخي في أبريل كان معبّراً من جهته، أيضاً. فإسرائيل اختارت رداً محدوداً لكن مركزاً ودقيقاً، فضربت بعض الأهداف القريبة من مواقع نووية وعسكرية إيرانية حساسة. وعلى رغم تغاضي القادة في كلا البلدين عن هذه التصرفات التي تزداد إقداماً ومخاطرة، إلا أن لا أحد من أولئك القادة أظهر رغبة حتى الآن في إخراج النزاع عن نطاق السيطرة.
ومع ذلك استمرت وتيرة التصعيد. وفي الأشهر التي تلت قام الطرفان بمفاقمة الهجمات المتبادلة. عمليات إسرائيلية متلاحقة على بيروت وطهران في يوليو، وتبادل قصف صاروخي ضخم في أغسطس (آب)، وذلك زاد المخاوف من اندلاع حرب شاملة. ثم جاء التصعيد الإسرائيلي في سبتمبر الماضي ليعيد طرح هذه المخاوف على نحو جدي.
وفي هذا الإطار، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كثيراً ما عُدَّ شخصية تتجنب المخاطرة إلى حد ما، يبدو أكثر استعداداً اليوم لتحمل أخطار أكبر وفق ما ظهر مع اغتيال نصرالله والهجمات المستمرة على لبنان والعمليات الاستخباراتية الجريئة ضد “حزب الله”، واغتيال زعيم “حماس” إسماعيل هنية في طهران. وهذه الخطوات والعمليات إن قُرئت في سياق واحد تشير إلى استعداد الزعيم الإسرائيلي للمجازفة عبر مضاعفة القوة العسكرية بهدف استعادة الردع وتعطيل التهديد الذي يمثله “محور المقاومة”، يفوق الخشية من أخطار إثارة حرب شاملة على مستوى المنطقة.
لذا فإن منطقة الشرق الأوسط اليوم تجد نفسها في لحظة خطرة، إذ إن القواعد القديمة التي حكمت حالات التصعيد وضبطتها جرى التخلي عنها. وظهر على مسرح الأحداث لاعبون جدد، والجميع يتنافس من أجل الهيمنة. وفي السياق تبدو هوامش تلافي حرب شاملة الآن أضيق من أي وقت مضى. أما الخطر الأكبر في هذا المسار، فيتمثل في انحصار جهود إعادة بناء الردع من خلال استخدام القوة في الدرجة الأولى، إذ إن كل طرف يعتمد التصعيد العسكري كي يردع الطرف المقابل. وحين يفشل طرف ما في الرد بالقوة على عمل عدائي، فإن الأمر قد يستدعي استفزازاً أكبر. على أن الرد بقوة أيضاً من الممكن أن يولد تصعيداً إضافياً، وفي كلا الحالتين من المرجح أن يبقى العنف متصاعداً لدرجة لا يمكن السيطرة عليها.
هندسة السلام
من هنا، فإن على الولايات المتحدة مراجعة مقارباتها تجاه منطقة تبدو فيها المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل اليوم حقيقة واقعة، وحيث الميليشيات والجماعات المسلحة باتت منفلتة وماضية في التصعيد، إذ حتى يومنا هذا تقوم ميليشيات بائسة، كالحوثيين في اليمن، بإجبار حركة الشحن الدولية في البحر الأحمر على التوقف على رغم التدخل العسكري الأميركي الكبير، فيما لم تتمكن تشكيلات حاملات الطائرات الأميركية المنتشرة في مياه المنطقة من ردع “حزب الله” عن تنفيذ هجمات متواصلة ضد شمال إسرائيل. وعلى رغم تحالفها الوطيد مع إسرائيل ودعمها الأساسي للجيش الإسرائيلي، لم تتمكن الولايات المتحدة من ثني نتنياهو عن رفع وتيرة مقامراته. لذا على واشنطن أن تطور مقاربة جديدة تعتمد فيها مختلف وسائل القوة الأميركية للتعامل مع واقع الشرق الأوسط الجديد الذي ازداد خطورة. وعلى هذه المقاربة أو الاستراتيجية أن تستند إلى الحالات التي سبق وتحقق فيها الردع وأوقف التصعيد، ولو موقتاً، خلال الأشهر الـ11 الماضية.
واستراتيجية الردع الأميركية المنقحة للشرق الأوسط يجب أن تُبنى أولاً على تعزيز وتوحيد آليات القنوات الخلفية التي يمكنها تقليص خطر سوء الحسابات وسوء الفهم. فيمكن للولايات المتحدة في هذا الإطار دعم وساطة هادئة تقوم بها أطراف ثالثة، عبر دول كسلطنة عمان التي اضطلعت بدور مهم في تمرير الرسائل بين الولايات المتحدة وإيران خلال لحظات التوتر الشديد. كذلك على الولايات المتحدة أن تفكر في إنشاء شبكة خطوط ساخنة بين إسرائيل ومصر ودول الخليج العربي وإيران لمساعدة المسؤولين في هذه البلدان على الحؤول دون وقوع مواجهة غير محسوبة. كما ينبغي من الدول الاعتماد على أطراف ثالثة لديها علاقات مباشرة مع مجموعات مقررة، من بينها دول فاعلة مثل قطر ولاعبون سياسيون مثل الزعيم الشيعي نبيه بري في لبنان، للحفاظ على خطوط تواصل مع هذه المجموعات الموازية. ولحالات الوقائع الأخطر، على الولايات المتحدة أيضاً أن تملك خطاً ساخناً قائماً ومباشراً مع إيران.
ويمكن للعقوبات الاقتصادية، على رغم شدة اعتماد الولايات المتحدة عليها أحياناً، أن تمثل أداة فاعلة للسياسة الأميركية في المنطقة شرط تنسيقها ومعايرتها على نحو مناسب. وقبل فرض عقوبات جديدة، على الولايات المتحدة أن تجد سبلاً لتحسين تطبيق العقوبات الموجودة سلفاً، وذلك يتضمن تطوير جهود أكثر ذكاءً لوقف مبيعات النفط الإيراني المُعاقَب إلى الصين بواسطة تكتيكات “الأسطول المظلم”، تلك التكتيكات التي تفترض قيام السفن بإيقاف أجهزة التتبع فيها لتلافي المراقبة والتعقب. وعلى واشنطن كذلك تعميق التعاون الاستخباراتي مع الدول الصديقة، وأن تضع خططاً مع حلفائها الأوروبيين بطريقة أكثر تضافراً لاعتماد تدابير منسقة تستهدف البرامج الإيرانية لإنتاج الصواريخ والطائرات المسيّرة، على نحو يحاكي الجهود الأميركية والأوروبية المشتركة المعلنة في سبتمبر الماضي لتشديد الضغوط على إيران، إثر قيام الأخيرة بتزويد روسيا بصواريخ باليستية قصيرة المدى.
وحدها عملية إعادة تشكيل المقاربة الأميركية الموجودة سلفاً للردع في الشرق الأوسط من شأنها وقف الكارثة
ويمكن للولايات المتحدة المساعدة في ردع العنف ضمن المنطقة من خلال تعزيز قدراتها العسكرية الذاتية، إذ أثبتت التكنولوجيا الدفاعية المضادة للصواريخ والمسيّرات دورها الأساسي والمهم في أبريل الماضي بتعطيل التصعيد بين إيران وإسرائيل. على أن هذه الأسلحة تشهد تطوراً مستمراً. لذا على الولايات المتحدة إعطاء الأولوية للابتكار في مضمار هذه التكنولوجيا الدفاعية من خلال تعميق التعاون في القطاع الخاص، ومكافأة الإبداع في التصنيع، وتقليص الإطار الزمني لعمليتي تصميم هذه الأسلحة وإنتاجها. كذلك على الولايات المتحدة تسخير الذكاء الاصطناعي وحتى تكنولوجيات محددة مستخدمة بألعاب الكمبيوتر، لتحسين استشراف التهديدات وتطوير الاستجابات الأمثل لمواجهة التقلبات في الشرق الأوسط.
لكن، وقبل ضرب أي صاروخ في سياق الجهود الردعية هذه، على واشنطن أن تدرك الدور الأساسي الذي يمكن أن تقوم به الدبلوماسية في بناء الردع، إذ إن وجود استراتيجية دبلوماسية فاعلة للمنطقة سيسهم في إعادة تأسيس الردع ليس فقط عبر تهديد الآخرين وإخضاعهم، بل أيضاً من خلال خلق محفزات إيجابية يمكنها استبعاد النزاع. فقبل عام واحد فقط من هجوم السابع من أكتوبر الإرهابي توصلت إسرائيل ولبنان إلى اتفاق ترسيم حدود بحرية تاريخية بينهما بمساعدة دبلوماسية أميركية ماهرة ووعود بمكاسب حقيقية للطرفين. وقد أمل كل طرف إثر الاتفاق في الاستفادة من استخراج كميات قيّمة من الغاز الطبيعي من البحر المتوسط. وأسهمت تسوية موضوع الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في نزع مصدر خلاف بينهما كان بوسعه، من دون الاتفاق، أن يؤدي إلى أعمال عدائية متبادلة تقوض نهائياً مشاريع الغاز الطبيعي في مياههما الإقليمية. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن منح الجماعات الموازية المزعزعة للاستقرار شيئاً لتخسره، قد يغير حساباتها من العنف نحو السلام والمصالحة. بالتالي فإن المضي في تهدئة النزاع في الشرق الأوسط يفرض على الولايات المتحدة المساعدة في تيسير قيام بنية أمنية إقليمية، على شكل شراكات أمنية واتفاقات تعاون بين الدول ذات التفكير المتقارب، وآليات وساطة، ومنتديات تسوية سلمية للصراعات، وهذه جميعها أمور تفتقر إليها تلك المنطقة المليئة بالصراعات.
بغياب المنتديات المذكورة سيبقى الوضع القائم في المنطقة وضعاً هشاً ومتزعزعاً، كما هو الآن. فنماذج الردع المتقادمة شهدت فشلاً ذريعاً في القرن الـ21 في الشرق الأوسط، حيث يمكن للجماعات المسلحة غير الخاضعة لسيطرة الدولة الوصول بسهولة إلى المسيّرات الحربية وغيرها من التكنولوجيات ما إن يقع النزاع. وهنا يلح القول إن عملية إعادة تشكيل المقاربة الأميركية الموجودة سلفاً للردع في الشرق الأوسط، هي وحدها القادرة على وقف الكارثة في هذه المنطقة من العالم.
منى يعقوبيان تشغل منصب نائبة الرئيس في مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بـ”المعهد الأميركي للسلام” United States Institute of Peace