حرية ـ (13/10/2024)
سنة 2020 نالت الشاعرة الأَميركية لويز غْلُوكْ (1943-2023) جائزة نوبل للأَدب “على صوتها الشعري المتميِّز الذي، بجمالياه البسيطة، يحوِّل الحضور الفردي كونيًّا”. وكان باردًا، في الأَوساط المعنيَّة، استقبالُ خبر فوزها. البعض رأَى إِليه “صادمًا”، والبعض الآخر “مفاجئًا” عوَض أَسماء أُخرى كانت مرشَّحة أَو “مُهيَّأَة” أَو “مستحقَّة”.
في حديث صحافي لها بعد عودتها إِلى واشنطن، أَجابت لويز عن سؤَال حول تقنية كتابتها بعيدًا عن الأُصول والقواعد الشعرية بقولها: “أَنا أُحب الوزن القواعد والأُصول الشعرية، لكنني أُفضِّل الإِيقاع خفيًّا داخليًّا. فالتركيب الشعري يتكامل في إِيقاع موسيقي خفيّ يوَلِّد التأْثير الشعري”.
لا أُناقش قرار الأَكاديميا ذاك، ولا معايير اختيارها. وبين “الفائزة” و”الشاعرة” أَتناول الأَخيرة. فالعلاقةُ معيارُ النص الجدير (أَو غير الجدير) في بقائه على الزمن.
“بدعة” الإِيقاع الداخلي
لدى صدور خبر فوزها قرأْتُ بعض نصوصها بإِنكليزيتها البسيطة، لعلِّي أَكتشف “الجماليا” فيها، فما وجدتُ سوى بساطةٍ أَقرب إِلى النثري اليومي منه إِلى الشعري “المشغول”. وكنتُ عاينتُ أَمثال هذه النصوص قبل سنواتٍ (1988-1994)، فترةَ كنتُ أُدرِّس في بعض جامعات الولايات المتحدة، وأَحضر لقاءَات شعرية، مصغيًا إِلى شعراء أَميركيين يقرأُون نصوصًا لا تعدو كونها، في أَغلبها الأَقصى، كلامًا عاديًّا يَقوله أَيُّ إنسان، أَو يكتبه أَيُّ محرر جيِّدٍ في جريدة. ولمستُ فترَتَذَاك كيف الشعرُ الأَميركي المعاصر لم يعُد “مشغولًا”، بل ينحو إِلى كونه كلامًا مُنْسَرحًا لا قواعد تضبطه ولا نُظُم.
قَوْلُ غْلُوك عن “الإِيقاع الموسيقي الخفيّ” أَرى فيه تبريرًا ضعيفًا في التعامُل مع الفن الشعري العالي القائم على أُصولٍ ونُظُمٍ، لدقَّتها وصعوبتها يَهرُب منها القاصرون مبتدعين أَعذارًا باسم “الحداثة”، و”الإِيقاع الداخلي” ورفْض الْتزام الوزن أَو اعتماد التقفية.
المنبر الأَول: مجلة “شعر” الأَميركية
هذه الظاهرة الأَميركية أَسَّس لها الشاعر وُولت ويتْمان (1819-1892) بما سمَّاه “الشعر المنثور” و”التخلِّي عن الوزن والقافية إِلى التعبير الـمُرسَل كيفما جاء”. وانتشرَت الموجة فأَصدرَت الشاعرة هاريـيت مونرو (1860-1936) مجلة “شعر” (شيكاغو – 1912)، وراج الشعر “المنثور” كتابةً مُنْسَرحة باسم الشعر، عاديَّةً باسم الحداثة، سَهلةً باسم رفْض القديم. ووصلَت مفاعيله إِلى العالم العربي، فأَسس يوسف الخال مجلة “شعر” (بيروت – 1957) مطابِقَةً تمامًا رديفتَها الأَميركية، شكلًا ومضمونًا، وانفلتَت بين الشعراء العرب موجةُ “الشعر الحديث”، وما زالت حتى اليوم دُرْجَةَ مَن لا يمتلكون أُسُسَ النُظُم فـــ”يبتدعون” حجَج “الإِيقاع الداخلي” و”الكتابة غير المشغولة”، بما يرفضه حتى النثر في أَدنى مستوياته.
تلك الكتابةُ الرخوة إِهانةٌ لا للشعر وحده بل للنثْر فنًّا عاليًا لا يقلُّ صعوبة عن الشعر.
لا نخدم النثر باعتباره شعرًا
المعنيُّون بهذه الظاهرة أَعلاه، يعمدون إِلى تسميات “الشعر المنثور” و”قصيدة النثر” و”النثر الشعري”، كما لـ”يرفعوا” الكتابة النثرية إِلى مستوى الشعر، كأَنما الشعر، وفي لاوعيهم الجَماعي، أَرفعُ مستوى من النثر. لا… أَبدًا. هذه إِهانةٌ فنَّ النثرَ، وتسهيلٌ كتابةً رخوةً “تدَّعي” الشعر كي تُنَصِّع نصًّا كما ليُقْنِعَ المتلقِّين أَكثر إِذا نسبوه إِلى إِقليم الشعر دون النثر، كأَنَّ النثْر درجة ثانية والشعر درجة أُولى. وهذا خطأٌ وخطَل معًا، لأَن النثْر فنٌّ عظيم في ذاته، كما الشعر فنٌّ عظيم في ذاته.
هذه الموجة من دُرْجَة الشعر “الحديث” بدأَتْ منذ أَخذ شعراء يخرجون عن عمودية الشعر (صدرًا وعَجُزًا وقافيةً ورويًّا)، ويَبْنون قصيدتهم مُدوَّرَةً على وحدة التفعيلة، وأَتوا فعلًا بروائعَ فيها مقابلَ غَثٍّ كثيرٍ من نمط “معاصر” سقَط في السرد النثري.
هذا الخروج على النُظُم تَواصَل انفلاتًا حتى بلَغ “الشعرَ الحر” فـ”الشعرَ المنثور” المتفلِّتَ من إِيقاع كلِّ قاعدةٍ عروضية، متحجِّجًا بـ”الإِيقاع الداخلي”، وَهْمًا لا تعرفه سيداتُ الإِيقاع أَي: السمفونياتُ الخالدةُ التي “تفرض” ميلودياها ولا تنتظر “البحث” عنه “داخليًّا” بين النوطات.
لماذا إِهانة النثْر؟
إِنَّ في تلك التسميات التبريرية الـمُدَّعَاة إِهانةً قيمةَ النثْر، فيما هو فنٌّ عظيمٌ في ذاته لا يجوز ربْطُه بفن الشعر لإِعلاء قيمته. فرُبَّ ناثرٍ متمكِّنٍ يُبدع فيه، أَبلغُ من أَيِّ شاعرِ، حتى إِذا هذا الناثرُ “ارتَكب” الشعر جاء شعره نظْمًا. ورُبَّ شاعر متمكِّن مبدعٍ، إِذا كتَب النثر جاء نثرُهُ مسطَّحًا عاديًّا دون شعره. من هنا أَن النثْر فضيحة الشعراء، كما الشعر فضيحة نظَّامين عروضيين “يَتلطَّون” خلْف تقطيع الوزن وتلميع القوافي وتطريب الإِلقاء، فيما أَبياتهم مرصوفةُ التراكم عموديًا وليس فيها بيت واحد ذو إِبداع.
في السائد أَن الشعر معنى ومبنى ووزن. لا، أَبدًا: المعنى موجود أَنّى كان، والمبنى متوافر لأَيٍّ كان، والوزنُ مطروح في كل زمان. الأَصل ليس “ماذا نكتب” بل “كيف نكتب ماذا”. وهذا ما يميِّز قصيدةً باردةً عن أُخرى إِبداعيّة. المعيار؟ “تركيب” القصيدة. الأَهم؟ أَن تكون في كل بيت “لمعةُ” تركيبٍ شعرية. وهذا نادر حتى بين كبار الشعراء، لأَن معظمَهم يُراكم أَبياته متتالية حتى يبْلغ “بيت القصيد”، فيما الشاعرُ الشاعرُ هو مَن يَجهَد إِلى جعل كلٍّ من أَبياته “بيت القصيد”.
بين القصيدة والنثيرة
ما أَعنيه عن هذا النحت الجمالي الصعب في الشعر، أَعني مثيله تمامًا في الفن الصعبِ الآخر الذي هو النثْر. إِذا مقطوعةُ الأَوَّل هي القصيدة، فمقطوعة الأَخير هي “النَثيرة”. وإِذا الشعر هو الكلام المغاير (تركيبًا) عن الكلام العادي (رصفًا سرديًّا)، فالنثْر كذلك – وتمامًا وتساويًا – هو الآخَر نسْجُ الكلام صقْلًا وتنصيعًا بما لا يقلُّ “نحتًا” عن نسْج الشعر.
وهكذا… يتعادل الإِبداع الراقي بين القصيدة والنَثيرة.