حرية ـ (15/10/2024)
نبيل فهمي
“الأضرار الجانبية” و”ضبط النفس”، عبارتان تستخدمان كثيراً بين قادة الجيوش والمسؤولين السياسيين في حالات التوتر والاشتباك لتبرير الممارسات والخسائر ووضع حد للأضرار والأخطار، ومن أجل فتح الباب أمام حل المنازعات بالطرق السلمية والدبلوماسية في ما بعد، إلا أن أحداث الشرق الأوسط وتصرفات ومواقف إسرائيل والولايات المتحدة خلال العام الماضي أفرغت هذه العبارات من مضمونها كلية، وفتحت الباب على مصراعيه لخرق كل قواعد وقوانين الحرب، والتمهيد المنطقي للعمل السياسي الدبلوماسي، وأخلّت تماماً بمبدأ احترام سيادة الدول وحدودها.
تحظى إسرائيل بسجل ساطع وفريد في الاغتيالات للسياسيين وقتل المدنيين، خصوصاً الفلسطينيين والعرب، عبر حدودها ومن دون احترام لسيادة دول أخرى، ولا تكتفي سطور هذه المقالة لسرد الحالات المتعددة، أو وصف بشاعتها، والعنصر المشترك في جميع هذه العمليات هو تبرير إسرائيل للخسائر المرتبطة بها، بأن المستهدف إرهابي والخسائر الإنسانية بين المدنيين المصاحبة له هي “أضرار جانبية”، حتى ما شهدناه في صبرا وشاتيلا بلبنان عام 1982 وقتل آلاف الفلسطينيين المدنيين، وخلال 2024 وقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني في غزة العام الماضي.
أعتقد بأن الولايات المتحدة هي أكثر الدول استخداماً لعبارة الدعوة إلى “ضبط النفس”، وعلى رغم أنني أحرص دائماً على عدم المبالغة أو التسرع في افتراض المؤامرات، فقد وصل بي الأمر الآن إلى الاعتقاد بأن غرضها في استخدام هذه العبارة ليس منع انفلات الأمور وارتفاع الخسائر، بقدر ما هو دعوة وآلية لحماية إسرائيل وإعطائها مزيداً من الوقت والفرص لممارسة تجاوزاتها إزاء الفلسطينيين، وكذلك تجاه جيرانها في ساحات الشرق الأوسط كافة، وأتذكر اتصالاتها المكثفة مع إيران عبر أطراف إقليمية وكذلك سويسرا للدعوة إلى ضبط النفس بعد كل عملية إسرائيلية، مثل قصف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال إسماعيل هنية في العاصمة طهران.
أكثر ما يؤكد ما ذكرته وما يجعلني أستغرب حقاً سخافة الموقف الأميركي وغياب المصداقية فيه، أن الولايات المتحدة كانت أكثر حماسة ونشاطاً للدعوة إلى ضبط النفس مع الأطراف التي اعتدت عليها إسرائيل من دعوتها وضغطها على الجانب الإسرائيلي وهو البادي بالاعتداء، حتى وصل الأمر إلى أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن زار المنطقة أخيراً من دون التوقف في إسرائيل، على عكس زياراته السابقة، وقيل إنه وافق على استهدافها سيارات المعونات والإغاثة، وتلى ذلك إلغاء أو تأجيل وزير الدفاع الأميركي زيارته لإسرائيل.
كل ذلك يعني أن الولايات المتحدة إما تطلق يد إسرائيل وعملياتها العسكرية، أو تشعر بأن إسرائيل لن تستجيب لتحذيراتها، مما يعني أنها ضالعة في العمليات الإسرائيلية كذلك لأن مجرد وضع الولايات المتحدة حداً لتسليح إسرائيل وتوفير الذخائر أو المعلومات الاستخباراتية من الأقمار الاصطناعية يعجز إسرائيل عن فتح كل هذه الجبهات في آن واحد، فضلاً عن أن أفضل وسيلة لضبط النفس هي في المقام الأول عدم تكرار الفعل ذاته، أي جعل إسرائيل توقف اعتداءاتها، وبتر سلسلة العنف والعنف المضاد من أساسها والانتقال إلى ممارسة عمل دبلوماسي جاد نحو حل النزاعات حتى لا تتكرر الأحداث.
أشرت تحديداً إلى تجاهل قضية “الأضرار الجانبية” بصورة متكررة، لخطورة تداعيات ما نتابعه الآن والذي يجعل استهداف المدنيين أو تجاهل الخسائر المدنية كلية ممارسة متكررة ومقبولة ضمنياً، إذا ظل المعتدي من دون محاسبة أو عقاب، ومن ثم سيتكرر ذلك بمعدلات متزايدة، ويلجأ إليها جميع الأطراف، مما يجعل المدنيين كافة مستهدفين والساحة المدنية ساحة قتال وتدمير.
كما حذرت من أن فقدان الدعوة إلى “ضبط النفس” مصداقيتها، بعدما تاهت بوصلتها واستخدمت للمناورة والخدعة، سيجعل كثيراً من الأطراف الإقليمية غير المتصارعة تحدّ من جهودها الدبلوماسية الجادة، وتكتفي ببعض الإجراءات الشكلية، من دون تحميل نفسها أعباء سياسية حقيقية، على رغم أهمية ذلك في تأمين تواصل ونجاح الجهود الدبلوماسية المهمة لتوفير الأمن والسلام.
وأحسب نفسي دائماً ضمن مؤيدي السلام العربي- الإسرائيلي الشامل، وفقاً لقراري مجلس الأمن 242 و338، على أساس إنهاء احتلال إسرائيل للأراضي العربية وإقامة دولة فلسطينية وتحقيق الأمن والسلام لدول المنطقة كافة بما في ذلك إسرائيل، وأفضّل العمل السياسي والدبلوماسي على العمل العسكري إلا في حال الضرورة، مع تأييدي لبلورة ترتيبات إقليمية للحد من أخطار العسكرة والعنف.
إن ما نشهده الآن من شأنه أن يغير من طبيعة التوترات والصدامات كلية، إذ يترك لإسرائيل اللجام والتصرف باستهداف مواقع وأهداف عبر الشرق الأوسط ككل، تحت حماية سياسية أميركية، تأمنها من المحاسبة حتى من التجاوزات العسكرية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتوفر رادعاً عسكرياً تجاه ردود فعل من تعتدي عليه إسرائيل التي لا تبالي حتى شكلياً بمبدأ السيادة أو بالفصل بين التكنولوجيا والأهداف العسكرية والمدنية، وآخر ما تابعناه كان تفجير آلات المراسلة المحمولة “بيجر” مع أفراد وفي ساحات مدنية متنوعة.
وبرعونتها السياسية، فقدت الولايات المتحدة القليل الباقي من مصداقيتها السياسية في المنطقة، على رغم توافر أدوات عدة للتأثير في الأحداث، وعلى رغم دفاعه عن مسؤولي بلاده نوه الصحافي الأميركي توماس فريدمان في مقالته الأخيرة بأن منصب وزير الخارجية الأميركي يحمل في طياته أعباء تتجاوز رونقه لتعدد الأطراف المتصارعة في مختلف القضايا الدولية، وأتفق مع خلاصته في انخفاض جاذبية المنصب، وإنما وجب التنويه والتصحيح من جانبي أن السبب الحقيقي لذلك ليس تعدد الأطراف وإنما الرعونة والازدواجية في السياسات وتطبيق المعايير الأميركية، مما أفقدها فاعليتها.
تداعيات التجاوزات الخاصة باستخدام عبارتي “الأضرار الجانبية” و”ضبط النفس” تمتد وتنعكس على أمور كثيرة أخرى وأطراف متعددة، إذ ستجعل المدنيين كافة مستهدفين مباشرة ودائماً، وليس مجرد جزء من معادلة “الأضرار الجانبية”، كما ستضعف أي دعوة صادقة إلى الحد من التوتر وإلى تنشيط الجهود السياسية والدبلوماسية، حتى من قبل أطراف أخرى لها مصداقية دولية، بما في ذلك أطراف إقليمية لها سجل دبلوماسي نشط وعلاقات وثيقة بالفلسطينيين أو اتفاقات سلام مع إسرائيل، ويترتب على كل ذلك انتقالنا جميعاً من مرحلة توتر في العلاقات وجهود للتوصل إلى حلول وسط، توفر الأمن والاستقرار للجميع وفقاً للقانون الدولي، وندخل إلى مرحلة حادة وصدامية يُستهدف فيها الجميع وتُباح فيها الساحات كافة ويغيب عنها القانون الدولي والإنساني، ويغلب عليها قانون الغابة وفوضويته، وهو ثمن غالٍ وخطر جداً إقليمياً ودولياً.