حرية ـ (15/10/2024)
ماريتجي شآك
خلال الـ30 من أغسطس (آب) الماضي، حظرت المحكمة البرازيلية العليا منصة “إكس” للتواصل الاجتماعي التي عرفت سابقاً باسم “تويتر” من شبكة الإنترنت في بلادها، وجاء الحظر ليتوج أشهراً مديدة من الصراع بين إيلون ماسك مالك تلك المنصة وأغنى رجل في العالم، وألكسندر دي مورييس أحد قضاة تلك المحكمة. وأنيط بمورييس التحقيق بدور المعلومات المضللة على الإنترنت في محاولات إبقاء الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو في السلطة على رغم خسارته الانتخابات، وكجزء من تلك المهام أمر مورييس منصة “إكس” أن تغلق مئات الحسابات التي نشرت معلومات مضللة. وفي ردها على ذلك دانت المنصة العدالة بممارسة الرقابة، وسحب ماسك ممثلي “إكس” الذين ينص القانون على ضرورة وجودهم لتشغيل المنصة في البرازيل، وأوصلت تلك الخطوة العدالة [الهيئات القضائية الناظمة] في خاتمة المطاف إلى منع البرازيليين من الدخول إلى المنصة بأكملها.
ولم يأخذ ماسك القرار القضائي برحابة صدر إذ قارن مورييس بـ”طاغية شرير”، ولم يقتصر غضب ماسك على الإدانات القاسية. ووفق تقرير من “نيويورك تايمز” انخرط ماسك بنشاط في إجراءات هدفت إلى الالتفاف على القرار القضائي. وفي خطوة أولى شجع ماسك البرازيليين على استعمال “الشبكات الافتراضية الخاصة” Virtual Private Networks، اختصاراً “في بي أن” VPNs، للإفلات من الحظر، وبعدها عمدت شبكة الأقمار الاصطناعية “ستارلينك” التي يملكها ماسك وتوفر خدمة الاتصال بالإنترنت مباشرة من الفضاء، إلى مواصلة تقديم الوصول إلى منصة “إكس” للبرازيليين. وأخيراً عمدت “إكس” إلى إعادة توجيه تدفقاتها عبر الإنترنت كي تصل إلى خوادم جديدة، مما يتيح لها الالتفاف على كل أنواع ضوابط الاتصالات في البرازيل.
وبتأثير من ضغط متصاعد مارسته السلطات في بلد يضم عدداً وازناً من مستخدمي منصة “إكس” (وكذلك مصادرتها بعض أصولها المادية)، وافقت الشركة في نهاية الأمر على غلق الحسابات المتورطة في نشر المعلومات المضللة، وكذلك تسديد الغرامات المسجلة ضدها. وفي المقابل، إن الجلافة التي تحدى بها العملاق التكنولوجي [ماسك] قرار الدولة تجسد بصورة ملموسة تماماً إحدى الوقائع المخيفة والواضحة، ومفادها أن الحكومات الديمقراطية فقدت صدارتها في العالم الرقمي. وبدلاً من ذلك باتت الشركات ومديروها التنفيذيون يمسكون بزمام الأمور على نحو متعاظم، وجاء ذلك الانتقال في السلطة نتيجة اجتماع عدد من العوامل تشمل تزايد الاعتماد الاجتماعي بصورة منهجية على شركات التكنولوجيا، والمساحات القانونية الرمادية التي تعمل ضمنها تلك الشركات والخصائص المتفردة للتقنيات الصاعدة، خصوصاً الذكاء الاصطناعي. إذا جاء ذلك الأمر [تصاعد سلطة شركات التكنولوجيا] نتيجة حرمان المؤسسات العامة من المعرفة التكنولوجية، إضافة إلى صدقيتها ودرجة تفويضها وتمثيلها [الدولة والمؤسسات والناس]. وتتمثل الحقيقة في أن أجيالاً مختلفة من السياسيين المنتمين إلى أحزاب مختلفة، سمحوا بحدوث ذلك.
إذا أرادت الديمقراطية البقاء والاستمرار يجب من الآن خوض صراع مع ذلك الانقلاب، ويجب عليها تعزيز التكنولوجيا المهتمة بالمصلحة العامة كي تشكل قوة موازية [للشركات العملاقة]، وتحتاج أيضاً إلى إعادة بناء خبراتها التكنولوجية الخاصة. والأهم من ذلك كله يجب على الدول العمل بفاعلية على إرساء منظومات تشريعية وتنظيمية مبتكرة كي تستطيع وضع حد للشركات التكنولوجية (وكذلك للاستخدام الحكومي للتكنولوجيا) كي تتصرف بصورة مسؤولة. وهنالك حاجة لأن تتصرف الحكومات على ذلك النحو بهدف الحفاظ على مجتمعات رقمية منفتحة، وحرة وحية، بالاستناد إلى حكم القانون.
وتصلح الحالة البرازيلية كتنبيه إلى أن الوقت لم يفت، ليس بعد. إذ تستطيع السلطات الديمقراطية استعادة سيادتها وتأكيد نفسها بفعالية في التكنولوجيا إذا اختارت أن تفعل ذلك.
كل تلك القوة
على نحو دائم وتواصل تنتج الشركات ابتكارات تقنية جديدة، لكن السياسيين فشلوا باستمرار في اللحاق بذلك الإيقاع. وفي الولايات المتحدة أقر تشريعيان محوريان قبل عقود، إذ صدق على “قانون اللياقة في الاتصالات” خلال عام 1996، و”قانون حقوق النسخ للألفية الرقمية” خلال عام 1998 أي قبل أن يفكر ستيف جوبرز بالـ”آيفون” بزمن طويل. وخلال الأعوام التي تلت القانونين انتقلت الشركات التكنولوجية من مرحلة تطوير المنتجات إلى تشغيل أنظمة كاملة باتت تؤثر في مجالات لم تهمين عليها سوى الدول سابقاً. ومن الأمثلة على تلك المجالات البنية التحتية الرقمية وضمانات أمنها. ومع انفلات أدواتها وخدماتها القوية في عالم يفتقر إلى ضوابط ملائمة أضحت الشركات التكنولوجية المهيمنة بحكم الأمر الواقع على تقنيات لها وزن سياسي- جغرافي هائل، بما في ذلك أنظمة التعرف على الوجوه والاتصال بالإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية ومجموعة من المجالات المفصلية في جمع المعلومات. وتملك شركة مايكروسوفت “مركز الاستخبارات عن الخطر” Threat Intelligence Center الذي يتولى رصد الأخطار كأنه يقارع “وكالة الأمن القومي” الأميركية، وتدير شركات العملات المشفرة أموالها كأنها “بنك الاحتياط الفيدرالي”، وتتفوق محفظة الطاقة النظيفة لدى “أمازون” على ما تحوزه دول عدة على رغم انخراط تلك الشركة في بناء مراكز بيانات يسودها النهم الشديد إلى الطاقة.
ومع تنامي سلطتها أضحى مديروها التنفيذيون شخصيات تاريخية. وربما يكون ماسك المثل الأوضح على ذلك إذا أخذ بعين الاعتبار هجماته على قادة العالم وانخراطه في السياسة، لكن ثمة مديرين تنفيذيين آخرين ممن حازوا موقعاً بارزاً وضخماً في الحياة العامة يتجاوز بكثير مواقعهم الإدارية. وبصورة روتينية يستدعى مارك زوكربيرغ المدير التنفيذي لشركة “ميتا” [مالكة “فيسبوك” و”إنستغرام” و”واتساب” وغيرها] للإدلاء بشهادته في الكونغرس، ويحاجج دوماً بأن أعمال شركاته تشكل محوراً أساساً في التنافس بين الولايات المتحدة والصين (بالتالي، يجب عدم تقييدها). ويتكرر ظهور المديرين التنفيذيين لشركات “آلفابيت” [مالكة “غوغل”] و”أمازون” و”مايكروسوفت” في واشنطن. وخلال إحدى جلسات الاستماع [في الكونغرس] طرح جون كينيدي وهو سيناتور جمهوري سؤالاً على المدير التنفيذي لشركة “أوبن أي آي” [صانعة روبوت الدردشة الشهير “شات جي بي تي”] سام آلتمان عن مدى إمكانية أن يدير وكالة تشريعية أميركية لقوانين الذكاء الاصطناعي، ولقد تخلى السياسيون عن مسؤولياتهم لمصلحة قادة التكنولوجيا غير المنتخبين وغير الموثوقين.
وكنتيجة لتلك المعطيات تمارس شركات التكنولوجيا كلها كبيرها وصغيرها سلطة غير مسبوقة تاريخياً تطاول حتى البنية التحتية الأشد حساسية ومحورية، وإنها تهيمن مثلاً على كابلات المعلومات الممتدة تحت مياه بحار العالم ومحيطاته، وتعمل كنظام نقل لمعظم حركة الإنترنت في العالم. وينتقل نحو 99 في المئة من بيانات العالم عبر تلك الكوابل بما في ذلك 10 تريليونات دولار يومياً من التبادلات المالية والمعلومات الحكومية الفائقة الحساسية.
ومن دون تلك الكوابل يتعذر عمل كل أنواع النشاطات الأساس للعالم، بالتالي يجب أن تمسك بمقاليد حوكمة تلك الشركات كيانات حكومية متعددة الأطراف تتولى صيانة أمن تلك الكوابل أيضاً. لكن بدلاً من حصول ذلك تنهض الشركات ببناء واستعمال وصيانة كوابل الإنترنت العالمية، فيما يقف السياسيون وأصحاب القرار موقف المتفرج.
واستكمالاً، انخرطت شركات التكنولوجيا بصورة عميقة في التركيبات الإدارية البيروقراطية للدول، مما جعل الحكومات منكشفة أمامها بطرق يسيرة لكنها مؤثرة بصورة جدية أيضاً، ومثلاً خلال عام 2013 وظفت السلطات الهولندية منظومة من الخوارزميات المتخصصة بتقييم الأخطار بهدف كشف المتلاعبين بين صفوف دافعي الضرائب، وشكل الأمر كارثة. وبسبب حدوث خطأ في التقييمات بما في ذلك تلك التي شملت ملامح عرقية، فقدت عشرات آلاف العائلات منازلها ووظائفها وحقها في رعاية أطفالها. ويرجع ذلك إلى أن أداة التقييم لم تكن شفافة وتعتمد على التعليم الذاتي [من دون تدخل بشري لتصحيح الأخطاء، فتدخل في دائرة مغلقة بين حدوث الخطأ وعدم ملاحظته ثم استعماله كأنه معلومة صحيحة]، إضافة إلى كونها صارمة وتمييزية. وبالنتيجة أوصل هذا السقوط السياسي إلى استقالة الحكومة ودمر ثقة الشعب بالدولة، وفي المقابل أفلتت الشركة التي صنعت تلك البرمجيات المغلوطة من المشكلة من دون أي ضرر نسبياً، ويستمر استخدام خوارزميات مماثلة وتتوافر في أسواق العالم على رغم تضمنها إمكانية كامنة بالتسبب بأذى ربما يكون أعمق مما حدث في هولندا.
أسلحة الحرب
تمتد سطوة شركات التكنولوجيا إلى نشاط محوري آخر في الدول يتمثل في الحرب، واستعملت تطبيقات الذكاء الاصطناعي بصورة إشكالية للتعرف على أعداد مكثفة من الأهداف في غزة، واستعملت أوكرانيا شركات الأقمار الاصطناعية كي تكسب الاتصالات والمعلومات الاستخباراتية. أدى هذا الاعتماد [للحكومات على صناع التقنيات] إلى إعطاء الشركات التكنولوجية سيطرة على طريقة إدارة الدول لشؤونها الاجتماعية. ومثلاً تعتمد أوكرانيا على إحدى تلك الشركات وهي “ستارلينك” مما شجع ماسك على التدخل في مسار ذلك الصراع، وفعل ذلك عبر دعوته لمفاوضات سلام وبطريقة تنسجم مع أهداف الكرملين فأثار ذلك توتراً في كييف والدول التي تساندها.
وفي مناسبات أخرى تحولت شركات التكنولوجيا إلى أطراف مباشرة فعلياً في الصراعات، وتستمر المواجهات في الفضاء السيبراني، بالتالي يتزايد اعتماد الدول على الشركات الخاصة في الشؤون الدفاعية المتصلة بتلك المواجهات. ولنأخذ ما حدث خلال عام 2021 حينما أصيبت الشبكات الرقمية التي تدير عمل خط لنقل النفط تابع لشركة “كولونيال بايبلاين” بـ”هجمات الفدية” ransomware attack [برمجيات خبيثة تخترق الحاسوب وتسيطر عليه ولا يمكن إزالتها إلا إذا دفعت فدية للمهاجمين كي يبطلوا عملها بطريقة أو بأخرى]. وتعد تلك الشركة إحدى أضخم مقدمي الطاقة إلى معظم أرجاء الساحل الشرقي في الولايات المتحدة، وأدت تلك الضربة السيبرانية إلى وقف تدفق النفط عبر معظم ذلك الساحل. وأعلنت ولايات أميركية عدة حال الطوارئ فيما تراكمت طوابير طويلة أمام محطات الوقود، وأعيد توجيه رحلات جوية عدة. وفي لقاء مع مديري شركات التكنولوجيا عقب ذلك الهجوم وافق الرئيس جو بايدن على “أن الحقيقة تتمثل بامتلاك القطاع الخاص وتشغيله لمعظم بنيتنا التحتية الحساسة والمحورية”، وأضاف “لا تستطيع الحكومة الفيدرالية منفردة أن تتصدى لهذا التحدي”. وشكل ذلك اعترافاً صريحاً ونادراً من الحكومة الأميركية بأنها فقدت السلطة في ما يتعلق بحماية المجال الرقمي للبلاد.
وعلى رغم تعاظم الهجمات السيبرانية المدمرة يرى البيت الأبيض أنها لم تستوف بعد شروط تصنيفها بالحرب، وكذلك تغيب القوانين الدولية الواضحة عما يجب حظره من الهجمات السيبرانية.
وبصورة نموذجية لا يعد التجسس بواسطة الوسائل الرقمية انتهاكاً لسيادة الدولة، بالتالي فإنه يفلت من العقاب. وخلال عام 2022 أفاد بول ناكاسون وقد ترأس حينها قيادة السيبرانية الأميركية بأن الولايات المتحدة استعملت قدرات سيبرانية هجومية لضرب أهداف روسية، لكنها لم تعد مثل تلك الهجمات اشتباكاً مباشراً مع روسيا. وفي المقابل رسمت واشنطن خطاً أحمر عابراً لحدود دول حلف الناتو كحد ملموس مباشر لقتال القوات الروسية.
وفي خضم كل ذلك الغموض القانوني والسياسي أضحت الشركات أكثر إقبالاً على أداء دور المرتزقة. إن شركات صنع برمجيات التجسس قابلة للاستئجار وتبيع أدوات استخباراتية متطورة إلى قيادات ديكتاتورية وديمقراطية على حد سواء، وكذلك تؤدي الشركات دوراً محورياً في تشابكات حساسة على الإنترنت، إذ يستعمل تطبيق الخدمات الشبكية في شركة “أمازون” خوارزميات تعليم الآلات بهدف ملاحقة الأخطار المتأتية من أطراف ترعاها الدول. وكذلك تعمد “مجموعة تحليل المخاطر” التابعة لمحرك البحث “غوغل” إلى إخراج قنوات على “يوتيوب” بهدف تنفيذ عمليات منسقة التأثير، ويؤدي ذلك النوع من العمليات إلى انتقال مجال الصراع إلى أيدي أطراف غير دولية لديها حوافز مختلفة بصورة جذرية عن الحكومات، وكذلك الحال بالنسبة إلى مستويات الموثوقية.
“ماتريكس” في الأمكنة كلها
في معظم الأحيان تتحرك الدول من موقع الضعف في المعلومات، حينما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا، ومع استثناءات قليلة تفتقد الدول إلى سبل الوصول إلى المعلومات، وكذلك الحال بالنسبة إلى المهارات والخبرات اللازمة لفهم الخوارزميات والابتكارات الجديدة (ولنتجاوز الآن مسألة تنظيمها). ولأن المعرفة قوة يحيل ذلك الضعف السياسيين وأصحاب القرار إلى موقع المفاوض الضئيل [المكانة والنفوذ] بالمقارنة مع شركات التكنولوجيا، مما يؤدي إلى مزيد من عمليات التعهيد. [في التعهيد يسند طرف ما إلى آخر جزءاً من المهام المنوطة أصلاً بالطرف الأول، كأن تعهد شركة سيارات غربية عمليات صنع الإطارات أو الزجاج لشركات في الهند].
وحاضراً ينظر إلى شركات مثل “بالانتير تكنولوجيز” Palantir Technologies باعتبارها موثوقة في إنجاز تحليلات حساسة ومحورية للبيانات، حينما يتعلق أمر الأخيرة بشؤون الدفاع والرعاية الصحية ونقاط السيطرة على الحدود. وتتولى الشركات التكنولوجية تلك الأعمال على رغم أنها تفتقد القيادة الديمقراطية والصدقية والخبرة اللازمة في تلبية تلك المتطلبات. وفي مقابلة مع “نيويورك تايمز” خلال صيف عام 2024 أفاد المدير التنفيذي لشركة “بالانتير” بأن “إنقاذ الأرواح وكذلك إزهاقها في بعض الأحيان هو أمر فيه إثارة ضخمة”، فكأن قرارات الحياة والموت هي لعبة كمبيوتر.
وكذلك تعزز شركات التكنولوجيا قوتها بواسطة ما تحوزه من أموال وتتمتع الشركات الأضخم بثراء استثنائي، وتلامس القيمة السوقية لشركة “مايكروسوفت” الـ3.2 تريليون دولار، مما يفوق الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي علماً أن فرنسا تحتل المرتبة السابعة بين اقتصادات دول العالم، بالتالي لا تواجه الشركات التكنولوجية الكبرى مشكلة في إنفاق ملايين الدولار على مجموعات الضغط/ اللوبيات التي تساندها. وفي غالبية الأحيان تجد مجموعات الضغط أنها إنما تدفع أبواباً مشرعة أصلاً. وبسبب ضآلة الخبرة التقنية لدى المسؤولين الرسميين يتوصل ممثلو الشركات بسهولة إلى قولبة أفكارهم والتأثير في قرارهم. وعلى نحو مماثل استعملت شركات التكنولوجيا أموالها في تأطير التفكير العام عالمياً المتعلق بصناعتها عبر الاستثمار في مراكز الأعمال الفكرية، والمؤتمرات والمؤسسات الأكاديمية.
ثمة تأطير فكري أحرزت شركات التكنولوجيا نجاحاً فائقاً في ترويجه يتمثل بمقولة “التنظيم التشريعي يخنق الابتكار”. وظهر ذلك بحسب “فيسبوك” حينما حاولت تلك الشركة خلال عام 2012 تبديد قناعة المشرعين الأوروبيين وإثنائهم عن تنفيذ التوجيه التشريعي الأوروبي المتعلق بحماية البيانات. إن تلك المقولة مغلوطة بمقدار كونها لا تخدم سوى نفسها خصوصاً مع إمساك الشركات التكنولوجية الكبرى بالمفاصل الأساس الكبرى، ودأبها على جعل حياة الشركات الصاعدة شديدة الصعوبة، وعلى رغم ذلك تبقى تلك المقولة عبارة شائعة اليوم. إن التشريعات التنظيمية [الناظمة] تتسم بالديناميكية وعدم الجمود وتتأقلم مع المتغيرات في الصناعات. وفي حالات كثيرة أدت القيود الناظمة إلى تحفيز الابتكار بصورة فعلية، ومثلاً ابتكرت الشركات منتجات أكثر استدامة وتوافقاً مع البيئة عقب فرض قوانين أشد صرامة في حماية البيئة. وحتى لو أدت التشريعات التنظيمية إلى إبطاء الابتكار فقد يستأهل ذلك المحافظة على التوازن بين كفتيهما. وعلى المستوى الفلسفي ليس الابتكار بأهم من دور القانون وحماية المستهلك وعدم التمييز، أو أي من القيم المركزية في الديمقراطية. وإذا امتلك الابتكار قدرة كامنة على تقليص الحقوق الأساس أو تعارض مع قيم الجمهور الواسع يكون للتشريع التنظيمي الحق كله في ترجيح كفته وسموها، ويجب أن يعترف السياسيون بهذه الحقيقة والعمل وفق مقتضياتها.
ولكن حتى لو فعلوا ذلك فلسوف يصطدمون بمزيد من العوائق، إذ اكتسبت الشركات التكنولوجية قوة أكبر عبر رفضها شرح كيفية عمل منتجاتها، ونتيجة لذلك ليس باستطاعة الأكاديميين إجراء بحوث مستقلة عن الآليات الداخلية للخوارزميات أو تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وثمة انخراط للشركات التكنولوجيا في مسار الخداع المباشر أيضاً. وحينما سعت “مايكروسوفت” إلى نيل الموافقة القانونية على إنشاء مركز للبيانات في ولاية أيوا عام 2016، لجأت إلى تمريره تحت اسم مستعار هو “مشروع أوسميوم”. وكذلك أصبح الدخول في مناقصات خلف ستار مجموعة من الشركات أمراً معتمداً كممارسة معيارية في صفوف شركات التكنولوجيا. ورفعت شركة “أوبر” تلك الممارسة من التمويه الضبابي إلى مستويات أعلى مع مبادرة “غراي بول”. وفي ذلك المشروع، وفق تقرير من “نيويورك تايمز”، استطاعت “أوبر” التعرف إلى مسؤولي إنفاذ القانون الذين يملكون سلطة قانونية لتقصي النطاقات التي يحظر على تلك الشركة العمل فيها. وفي خطوة تالية رتبت الشركة الأمور بحيث إنه حينما يدخل أولئك المسؤولون تطبيق “أوبر”، سيجدون صعوبة كبرى في تحديد مدى وجود تلك الشركة بصورة فعلية، في المساحات المحظورة عليها أم لا. وبتلك الطريقة استطاعت الشركة مواصلة العمل مع التملص من الانكشاف. وما عدا دفع غرامات متفرقة لم تفعل الحكومات ما يكفي للسيطرة على تلك الممارسات والمطالبة بالشفافية وتحميل الشركات مسؤولياتها.
وأكثر من ذلك، يُعاق عمل المشرعين بصورة أولية بسبب سرعة التطور التكنولوجي، وبصورة جزئية تهربت الشركات من القانون عبر ابتكار التقنيات بسرعة تكفي لبقائها متقدمة عليه. وبعدها، تستطيع الشركات الانخراط في سلوكات إشكالية من دون أن يساورها قلق في شأن رد فعل السياسات تجاهها. ومثلاً فتتشت شركة “كلير فيو أي آي” الفضاء السيبراني للإنترنت بأكمله بحثاً عن صور الوجوه، قبل أن تلاحظها أية جهة. ودربت “النماذج اللغوية الكبرى” [وهي تمثل التقنية الأساس للذكاء الاصطناعي التوليدي] على مجمل النصوص الموجودة على الإنترنت قبل أن تتوصل الحكومات إلى التفكير في مساءلة [الشركات الصانعة لتلك النماذج] عن حماية البيانات وحقوق الملكية الفكرية، إذ أقنعت بأن القوانين التي تحمي تلك الحقوق سارية ومطبقة فعلياً. وحينما حصدت الشركات كميات كبرى من المعلومات ووضعتها خلف أبوابها المغلقة فقدت المؤسسات العامة القدرة على الوصول إلى المعلومات، بالتالي خسرت صدقيتها وعملها كوكيل يمثل المصلحة العامة. ونجم عن ذلك دائرة مغلقة مميتة نواتها أن تتفوق قوة الشركات الخاصة باستمرار على قدرة المؤسسات العامة مساءلتها وتحميلها مسؤولية أفعالها.
لنعد ذلك ثانية
وبصورة صادمة تبدو الحكومات الديمقراطية غير مهتمة حتى الآن بالقوة المتعاظمة لشركات التكنولوجيا، وكثيراً ما أطلق نشطاء وصحافيون إنذارات في شأن تلك الصناعة، لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة تصرفت بتراخ متعمد حيال هذا القطاع عاقدة الآمال على أن تسوي الأمور نفسها بنفسها في شأن كل مصادر القلق. وأبدى الاتحاد الأوروبي فاعلية أكبر، لكن حفنة صغيرة من قوانينه استهدفت إنهاء سطوة تلك الشركات، وتحتاج الديمقراطيات إلى رؤية واضحة عن كيفية التوصل إلى حوكمة تستوعب كل مناحي التكنولوجيا.
وفي مجتمع راكمت فيه شركات التكنولوجيا قوتها في اتخاذ القرارات الحاسمة، يجب على الحكومة المبادرة إلى أفعال أكثر تأثيراً. وتتمثل الأخبار الطيبة بأنه إذا عزمت الحكومات الديمقراطية على الانتقال إلى ذلك النوع من الأفعال، فستجد أمامها طرقاً كثيرة للمضي قدماً. ويشمل ذلك زيادة معرفة السياسيين وأصحاب القرار بآليات عمل المنتجات التقنية قبل الانتقال إلى إدارة شؤون العلاقة مع الشركات المنتجة لها. وكذلك تستطيع الحكومات البدء بتعديل الحمايات التي تحمي أسرار المنتجات كي تتلاءم مع عصر الخوارزميات. ويجب على الحكومات الديمقراطية أيضاً مطالبة الشركات بأن تتيح للبحاثة سبل النفاذ إلى البيانات، وأن تضحي الأنظمة التكنولوجية المستخدمة تحت لواء الحكومات قابلة للوصول إليها عبر “قانون حرية المعلومات” مثلاً، وإن فعلت الحكومات ذلك فسيتاح للجمهور تعلم آليات عمل المنظومات التكنولوجية، مما يسهل التوصل إلى نقاش تشريعي مستند إلى معلومات كافية. وفي المسار نفسه يجب إلزام الشركات بمعايير أعلى من الشفافية حينما يتعلق الأمر بالمناقصات عن عقود الأراضي والطاقة المتعلقة بمراكز البيانات، أو أن تكشف الشركات عمن يمولها. وإذا عزفت شركة ما عن تبيان جهات تمويلها فستغدو غير مؤهلة للعمل في السوق المفتوحة.
وبهدف الاستفادة من تلك الشفافية المستجدة حينما تتحقق، سيغدو بإمكان المشرعين مراكمة خبرات تكنولوجية داخل الحكومة. ومن شأن أولئك الخبراء أن يحدثوا توازناً مع الكلام المعلوك الذي تردده أفواه ممثلي اللوبيات التكنولوجية الذين يسعون إلى إدخال طرق فهم المشرعين للتقنيات ضمن أطرهم الخاصة. ومثلاً، قد تستعيد الولايات المتحدة تجربة “مكتب تقييم التقنيات” Office of Technology Assessment، وهو كيان تابع للكونغرس دأب في أوقات سابقة، على مساعدة صناع القانون على فهم الاتصالات التي تجري من بعد والابتكارات في مجال الحوسبة. وقد عمل ذلك المكتب بكامل قوته بين عامي 1974 و1995. ويحتاج صناع السياسة إلى “مكتب تقييم التقنيات” أو ما يوازيه كي يستطيعوا عبور مياه حقبة من الزمان تضم في أعماقها الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية والتكنولوجيا الحيوية.
ولم يفت الوقت على وقف الانقلاب الذي نفذته شركات التكنولوجيا.
وعلى مستوى أكثر جذرية يجب على الحكومات الانتقال من التركيز على تمرير القوانين إلى تشديد النبرة على تطبيقها بصورة حاذقة. وتحتاج الحكومات إلى ربط القوانين [التي ستوضع لتنظيم عمل شركات التكنولوجيا] مع المبادئ الأساس للعدالة والمساواة وعدم التمييز وتحمل المسؤولية، مع الحرص في الوقت نفسه على تسريع إرساء آليات تنفيذ صلبة وملموسة، بحيث تستطيع الصمود بوجه الاختراق التكنولوجي التالي والآتي حتماً. وفي أحيان كثيرة، يأتي تصور التنفيذ في مرحلة تالية على التشريع، بالتالي لا يتوافر تمويل كاف للكيانات التي تناط بها عمليات الإشراف. ويجب على الحكومات إصلاح تلك المسألة عبر تكوين أدوات تنفيذ قوية، ومثلاً تستطيع الحكومات استعمال المشتريات كأداة للحث على تغيير سلوك الشركات. وعلى غرار ما يفعله كبار ممولي تكنولوجيا المعلومات تملك حكومات العالم هوامش مالية تتيح لها تعزيز معايير الأمن السيبراني وعدم التمييز، إضافة إلى تحميل الشركات مسؤولياتها حيال اختراق القوانين السارية أو لإهمالها في منع الاختراقات التي تطاول البيانات. ولعلها تنفذ ذلك عبر إرساء نموذج الضربات الثلاثة [بمعنى الإنذارات الثلاثة المتتالية]، وعقب استنفاد الضربات الثلاثة تضحي الشركة خارج إطار الدخول في سوق المناقصات.
وفي المقابل يجب فرض حظر فوري على الشركات التكنولوجية الأكثر خطورة وشراً بغية منعها من بيع تقنياتها المضادة للديمقراطية. وخلال عام 2021 توصلت وزارة التجارة الأميركية أخيراً إلى إضافة مجموعة “أن أس أو” NSO، الشركة الإسرائيلية التي أنتجت التطبيق التجسسي “بيغاسوس” Pegasus إلى “قائمة الكيانات” التي تقيد مدى سهولة التجارة معها. وتوافق ذلك المصير بصورة جيدة مع أفعال تلك الشركة، إذ تلقى أداة “بيغاسوس” للتجسس رواجاً لدى الحكومات القمعية التي تسعى إلى مراقبة النشطاء والصحافيين والمعارضين السياسيين. وفي المقابل جاءت تلك الخطوة متأخرة تماماً. وعلى مدار أعوام، ترددت الولايات المتحدة وبلدان أخرى في شأن حظر تلك الشركة التي صارت (على غرار شركات أخرى مشابهة) أشد قوة وأكثر تطوراً.
ولا تمثل التشريعات التنظيمية سوى جزء من مسار المضي إلى الأمام، إذ يجب على الدول الاستثمار بصورة وازنة في تكوين بنية تحتية رقمية عامة [أي تحت إدارة القطاع العام]، وتعزيز البحوث الأكاديمية وتحسين المساحة الرقمية العامة. وإضافة إلى ذلك تحتاج المجتمعات إلى إرساء ثقافة المبادئ الأخلاقية في التكنولوجيا والموثوقية وتحمل المسؤولية بما يفضي إلى إجبار الشركات على صنع قرارات صحيحة.
وخلال أي وقت قد يرفض فيه أشباه ماسك الامتثال للقضاة والمشرعين، سيشكل ذلك تذكيراً بحقيقة أن الدول تستطيع امتلاك اليد العليا في العلاقة مع الشركات، وإعلاء أولوية الحوكمة الديمقراطية إذا رغبت في ذلك بالفعل.
ولم يفت الوقت على وقف الانقلاب الذي نفذته شركات التكنولوجيا.
وفي المقابل، تحتاج الحكومات إلى انتهاج إصلاحات حقيقية ومنهاجية كي تكسب سلطتها ثانية، وترسي حكم القانون.
- ماريتجي شآك زميلة أكاديمية في “مركز ستانفورد للسياسة السيبرانية” و”مؤسسة الذكاء الاصطناعي المتمحور حول الإنسان”، وبين عامي 2009 و2019 نالت عضوية البرلمان الأوروبي بوصفها من ممثلي هولندا، وألفت كتاب “انقلاب التكنولوجيا، كيف ننقذ الديمقراطية من وادي السيليكون” الذي اقتبس منه هذا المقال.