حرية ـ (16/10/2024)
هل الحظ أم الكفاءة التي تجعل من المرء متميزاً في مجاله وقادراً على إدهاش من حوله حتى ولو كان تجاوز عمر النشاط والحركة، الثورة والفورة وبلغ من العمر عتياً؟
علامة استفهام ارتسمت بقوة في الداخل الأميركي خلال الأيام القليلة الماضية، كما تركت انطباعاً مثيراً عند المشتغلين والمنشغلين بالرأي العام العالمي، وذلك حين خرج كتاب عنوانه “حرب” للصحافي النجم بوب وودوارد حاملاً عديداً من المفاجآت من الوزن الثقيل، سواء تعلق الأمر بإدارة الرئيس جو بايدن الحالية أو ما يخص الرئيس السابق دونالد ترمب المرشح الحالي للرئاسة عن الحزب الجمهوري.
والثابت أنه على رغم التوقيت الخطر الذي صدر فيه الكتابان وتساؤلات البعض عما إذا كان الأمر يعد مفأجاة أكتوبر (تشرين الأول) بالفعل أم لا، فإن مثار ومدار الحديث يلفت النظر إلى هذا الصحافي الاستقصائي وتجربته الحياتية المثيرة، والتي اقترب فيها كثيراً من دوائر النار واللهب ونجح في أن يزلزل أركان البيت الأبيض خلال أوائل السبعينيات، وأن تؤدي تحقيقاته إلى استقالة الرئيس نيكسون.
على أن السؤال الذي لا يقل أهمية هل بوب وودوارد جزء من الدولة الأميركية العميقة التي يسرت له ما لم يتيسر لغيره من الصحافيين الأميركيين؟ هل نجاحاته الكبيرة والمميزة نتاج لمن يزخمونه بالمواد الإعلامية النادرة التي لا تتوافر لغيره؟
ربما يتحتم علينا بداية التوقف قليلاً وقبل الغوص في عمق السيرة المهنية لوودوارد أمام مسيرته الحياتية، وإلى أين تمضي به أحاجي الزمن الأميركي بنوع خاص.
“حرب” أحدث كتب وودوارد عن كواليس السياسة الأميركية
وودوارد… في إلينوي كانت البداية
ولد وودوارد في مدينة “جنيف” بولاية إلينوي الأميركية عام 1943 كابن لمحامٍ مشهور هو ألفريد وودوورد، الذي أصبح في ما بعد رئيساً لقضاة محكمة الدائرة القضائية الـ18.
التحق بوب بجامعة “ييل” الشهيرة بمنحة من هيئة تدريب ضباط الاحتياط البحري، وهناك درس التاريخ والأدب الإنجليزي.
خدم في البحرية الأميركية لمدة خمسة أعوام بين عامي 1965 و1970 وتركها برتبة ملازم ليلتحق بعدها بكلية الحقوق، وكان الجميع يتوقع له أن يضحى محامياً شهيراً مثل والده غير أنه اختار عدم إكمال المسيرة، وتقدم بطلب للحصول على وظيفة مراسل لصحيفة “واشنطن بوست” العريقة والتي تعد لسان حال البيت الأبيض، أو الصحيفة المقربة من صانع القرار الأميركي أكثر من أية صحيفة أخرى.
لمدة أسبوعين فقط ظل في الـ”واشنطن بوست” لكن بسبب قلة الخبرة لم يُوظف، غير أن هذا لم يكن مدعاة لليأس فقد لجأ إلى صحيفة محلية تدعى “منتغمري سنتينل” وهي صحيفة أسبوعية في ضواحي العاصمة واشنطن، تدرب فيها لمدة عام ليعود بعدها كمراسل للـ”واشنطن بوست” بدءاً من عام 1971.
هل كانت خدمته في سلاح البحرية الأميركية طريقه إلى المجد الصحافي الذي سيكلل لاحقاً عبر كتبه المميزة التي حققت له سمعة وصيتاً طيبين للغاية من جهة، واستقلالاً مالياً كبيراً مكنه من التفرغ لحياة التأليف المعمق للقضايا التي لا يفكر كثر بالاقتراب منها؟
يقولون إن الحظ لم يطرق باب وودوارد بل هو من صنع حظوظه بنفسه، وعرف كيف يستغل تدافع الحياة والمحطات الحياتية التي مر بها، وجعلت منه لاحقاً صاحب أهم تحقيق صحافي هز الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن الـ20.
وودوارد في مكتبه خلال فضيحة “ووترغيت”
الحنجرة العميقة والطريق لووترغيت
تبدو هناك جزئية غامضة في ملف وودوارد تلك المتعلقة بالسبب وراء إنهاء خدمته في البحرية الأميركية، وغالب الظن أنها ليست شيئاً مشيناً فقد يكون الأمر طارئاً صحياً أو ما شابه.
غير أن القدر جاد عليه بالتعرف على أحد ضباط البحرية الأميركية والذي سيترك بدوره الخدمة فيها ليضحى ضابطاً في مكتب التحقيقات الاتحادية (FBI) والذي سيفتح له باباً واسعاً للشهرة العالمية… إنه “مارك فيلت” أو صاحب الحنجرة العميقة الرجل الذي لم تكشف هويته إلا قبل وفاته بأيام معدودات. تم تكليف بوب وودوارد وزميله كارل برنستاين بتغطية عملية سطو مسلح على مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية، وكان ذلك خلال الـ17 من يونيو (حزيران) 1972 في مبنى مكاتب واشنطن العاصمة يسمى “ووترغيت”.
وكان عمل المحررين الشابين يجري تحت توجيهات المحرر الكبير “بن برادلي”، وكان بوب أول من أبلغ عن عدد من “الحيل القذرة” السياسية التي استخدمتها لجنة إعادة انتخاب الرئيس ريتشارد نيكسون خلال حملته الرئاسية الثانية.
كان بوب مكلفاً بتغطية أخبار الشرطة وكان يسيراً أن يعد نبأ عملية السطو، مجرد حادثة سطو مسلح اعتيادي، غير أنه لم يفوت فرصة البحث المعمق ليدرك أن هناك فضيحة سياسية عميقة تخص رجال الرئيس نيكسون.
وبدأت واشنطن تعيش حالاً من القلق غير المعتاد إلى أن بلغ الأمر التحقيق من جانب الكونغرس والمثول أمام اللجان الخاصة في مجلس الشيوخ، وإذاعة الجلسات على الملأ.
يقول بوب إن الأمور أصبحت مثيرة للاهتمام عندما حضر جلسة ما قبل المحاكمة، إذ سأل القاضي أحد المعتقلين فرانك ستورجيس لمصلحة من كان يعمل.
يتذكر وبوب أن الجواب كان مفاجئاً، “وكالة الاستخبارات المركزية”.
لم يسمع القاضي الإجابة وطرح السؤال مرة أخرى فأجاب ستورجيس “وكالة الاستخبارات المركزية”. وسأل القاضي “ماذا؟”، قال ستورجيس بصوت عال “وكالة الاستخبارات المركزية”.
صاح بوب وقتها “يا إلهي إنها ليست قصة اقتحام عادية”، وتالياً كانت القصة تقود إلى تقديم نيكسون استقالته، ولولا العفو الذي أصدره نائبه وخليفته جيرالد فورد لربما تعرض لأكبر محاكمة في تاريخ أميركا.
منذ تلك اللحظة بات بوب مثالاً جديداً للصحافة الاستقصائية ذات الطراز العالمي والتي تتطلب جهداً مضيئاً ودقيقاً وفيها يجب على الصحافي أن يتابع بمهارة بالغة التفاصيل كافة، والوصول من ثم إلى هدفه حتى وإن كانت الطرقات مسدودة وواصل الليل بالنهار، فالصحافة الاستقصائية لا تعمل وفق جدول زمني. ووصف بوب هذا النوع من الصحافة بأنه “محاولة الوصول إلى أفضل نسخة يمكن الحصول عليها من الحقيقة” وهذا أمر صعب، لأن لكل شخص نسخته الخاصة من الحقيقة. ولكن هناك حقائق مختلفة والاقتراب منها يتطلب مهارات خاصة.
هل يمكن القول إن ووترغيت كانت الباب السحري الذي فتح للصحافي الشاب وقتها بوب وودوارد الدروب المغلقة في واشنطن؟
من المؤكد أن هناك وجهاً آخر للمشهد، إذ إنه ما كان لبوب وودوارد أن يمضي قدماً في قصة ووترغيت، من دون أن يزوده مصدر كبير مطلع، في قلب الأجهزة الأمنية الأميركية بمزيد من المعلومات.
كان المصدر هو “مارك فيلت” العميل الفيدرالي الناقم والغاضب من إدارة نيكسون مما يمكن أن يفسر وفرة المعلومات التي أتيحت لبوب عبر خمسة عقود، منذ ووترغيت وحتى الساعة وهو ما يدفعنا إلى التساؤل أيضاً، من الذي زود بوب في كتابه الأحدث “حرب” بتلك المعلومات الدقيقة والتي عادة ما تصنف بالسرية خصوصاً أنها كانت تجري في البيت الأبيض، سواء خلال إدارة ترمب أو حتى بعد أن تركه خلال الأعوام الأربعة الماضية؟
تكاد الظنون تأخذنا إلى شك يقترب من اليقين بأن بوب وودوارد ليس إلا عضواً في شبكة من شبكات “الأخ الأكبر”، والتي تعد الأنفاس على الأميركيين سواء كانوا من العوام أو النخبة ولو بلغت حد مقام الرئاسة الأميركية.
خلال عمله على كتاب كل رجال الرئيس
“حرب” بوب ما الذي يحتويه؟
من الواضح أن الكتاب يأتي ضمن سلسلة مهمة من الكتب التي قدمها بوب للأميركيين والعالم عن شؤون وشجون البيت الأبيض، بدءاً من كتابه الأول “كل رجال الرئيس” والذي تحول إلى فيلم سينمائي لاحقاً، مروراً بنحو 20 كتاباً غطت نحو 10 رؤساء منها كتابه “حالة الإنكار” ثالث كتبه عن إدارة جورج دبليو بوش، وقد سبقه كتاب “خطة الهجوم” ثم “حروب أوباما”، وفي زمن ترمب صدر كتابه “غضب” والآن نحن أمام كتاب “حرب”.
وفي كتابه الأحدث يكشف بوب تفاصيل ما حدث في غرفة غداء فردية ناقش فيها وزير الخارجية أنتوني بلينكن والرئيس بايدن صديقه القديم ورئيسه، الخطر السياسي الذي يواجه الرئيس بعد المناظرة بحسب ما علمت وكالة “أكسيوس”.
ويذكر بوب أنه خلال غداء الرابع من يوليو (تموز) الماضي في البيت الأبيض طرح بلينكن سلسلة من الأسئلة حول إيجابيات وسلبيات استمرار بايدن في سياق إعادة انتخابه، وأوضح بلينكن أن الخروج كان قراراً لا يستطيع أحد اتخاذه إلا بايدن، إذ أراد أن يشعر الرئيس بأنه يتخذه بشروطه وليس مجبراً.
حين تسربت بعض من سطور الكتاب والذي ظل متحفظاً عليه حتى الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري في أماكن سرية، دهش كبار المسؤولين عندما أخبرهم بوب بما علم بالضبط كما كان يحدث مع أسلافهم ومن غير أن يصرح بمصادره، ومن دون أن تتبدى على محياه علامات يمكن تفسيرها بل كوجه لاعب البوكر الذي لا يستطيع أحد التنبؤ بخطوته المقبلة.
ومرة جديدة يثير أسلوب بوب التساؤلات منذ “ووترغيت” إلى “حرب” ذلك أن ما يتحصل عليه من أسرار يحتاج إلى قدرات دولة بأجهزتها الحساسة، عطفاً بلا شك على عيونه وبصاصيه في مختلف أرجاء أماكن صناعة القرار الأميركي وأولها البيت الأبيض.
يقدم بوب في كتابه الجديد رؤيته المميزة لكيفية عمل البيت الأبيض أثناء الأزمات، مع تقارير موسعة عن المرشحين الرئاسيين، نائبة الرئيس هاريس والرئيس السابق ترمب.
بدأ الأمر ككتاب عن الحرب في أوكرانيا بدءاً من الحشد الروسي وبعد هجوم “حماس” على إسرائيل خلال السابع من أكتوبر 2023، أضاف بوب جزءاً عن الصراع في الشرق الأوسط.
وتالياً كان على بوب أن يجري نوعاً من التغييرات المتأخرة على مخطوطة الكتاب، بعد انسحاب بايدن من السباق الرئاسي وتأييده لنائبته هاريس خلال الـ21 من يوليو (تموز) الماضي.
لقد عمل بوب حتى آخر يوم ممكن لإيصال كتاب “الحرب” إلى المطبعة، وهي الأشهر الأخيرة التي شهدت ماراثوناً من إعادة الكتابة.
يقول بوب في كثير من الأحيان إنه مقارنة بالمراسلين اليوميين فإنه يتمتع برفاهية الوقت أثناء كتابة التاريخ المعاصر. لكن كتاب “حرب” قريب من التاريخ الحقيقي بما في ذلك بعض الإفصاحات التي لا تظهر عادة إلا بعد عقود من الزمن، عندما تكتب المذكرات.
ومن بين ما يعد أسراراً أوردها بوب في كتابه، ما أبلغته مديرة الاستخبارات الوطنية “أفريل هاينز”، لمجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض هذا الربيع من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضعف بصورة لا جدال فيها بسبب حرب أوكرانيا، مع مقتل ما يقدر بنحو 200 ألف شخص وإنفاق أكثر من 200 مليار دولار. لكن هاينز تحذر من أن هذا لا يجعل بوتين أقل خطورة، فمن خلال إضعافه فإنه يصبح أكثر خطورة، والخلاصة أن الحروب الثلاثة التي يرويها بوب في كتابه سواء عن أوكرانيا أو الشرق الأوسط أو الحرب السياسية في الداخل الأميركي، ستمثل عبئاً كبيراً على كاهل الرئيس الأميركي القادم.
عن علاقة بايدن – نتنياهو المتوترة
تدرك وسائل الإعلام الأميركية والعالمية كافة أن الكيمياء بين الرئيس بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لم تكن يوماً على ما يرام، حتى وإن أظهر بايدن دعماً لا متناهياً لإسرائيل في أوائل أزمة هجوم أكتوبر 2023.
ويقدم بوب تفاصيل العلاقة المعقدة بين بايدن ونتنياهو فضلاً عن اللحظات الخاصة التي سئم فيها بايدن منه، بسبب الحرب بين إسرائيل و”حماس”.
ويكتب بوب أن “إحباطات بايدن وانعدام ثقته في نتنياهو انفجرت خلال الربيع الماضي، فقد أطلق الرئيس خصوصاً هجوماً مليئاً بالشتائم”، واصفاً إياه بأنه “ابن عاهرة”، و”رجل سيئ”، وفقاً لسطور الكتاب.
ويضيف بوب أن بايدن شعر بأن نتنياهو كان يكذب عليه بانتظام، ومع استمرار نتنياهو في القول إنه سيقتل كل عضو في “حماس” فإن بايدن أخبره أن هذا مستحيل وهدده سراً وعلناً بمنع شحنات الأسلحة الهجومية الأميركية.
ولعل الجزئية الأكثر خطورة التي أوردها بوب نقلاً عن بايدن هي تساؤل الأخير حول ما إذا كان نتنياهو يعوق عملية السلام في الشرق الأوسط ويقف حائلاً مانعاً للتوصل إلى تهدئة وهدنة يقودان إلى عملية سلام، من أجل التأثير في نتيجة الانتخابات الرئاسية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
يصف بوب العلاقة بين الرجلين بأنها “منفلتة”، ففي حين دعم بايدن إسرائيل علناً اختلف مع نتنياهو خلف الكواليس في شأن الطريقة التي تدير بها إسرائيل الحرب داخل غزة.
وبحسب سطور بوب، سأل بايدن نتنياهو خلال مكالمة هاتفية في أبريل (نيسان) الماضي “ما هي استراتيجيتك يا رجل؟ وأجاب نتنياهو “علينا أن ندخل رفح” فما كان من بايدن إلا أن قال “بيبي، ليس لديكم أية استراتيجية”.
كان إحباط بايدن يزداد يومياً من نتنياهو ووصل الأمر به إلى أنه صرخ في وجهه خلال يوليو (تموز) بعد أن قتلت غارة جوية إسرائيلية قائداً عسكرياً بارزاً في “حزب الله” وثلاثة مدنيين في بيروت، “بيبي، ماذا حدث؟” سأل بايدن، مضيفاً “أنت تعلم أنك تصور إسرائيل في جميع أنحاء العالم بصورة متزايدة كدولة مارقة وممثل مارق”.
رد نتنياهو أن الهدف كان أحد من وصفهم بـ”الإرهابيين البارزين” وأن تل أبيب وجدت في الأمر فرصة اقتنصتها، وأنه “كلما زادت قوة الضربة زادت فرص نجاح التفاوض”.
بوب يشاهد خطاب نيكسون على التلفزيون (صفحة بوب وودوارد في academy of achievement)
بوب… عن ترمب ومفاجأة أكتوبر
لم يكن بوب غريباً عن ترمب، فقد احتل جزءاً مهماً من كتابه قبل الأخير والمعنون “غضب”.
وفي ذلك الكتاب بدا وكأن بوب استطاع الحصول على ما لم يحصل عليه أحد من قبل من أسرار عن أسلحة أميركا السرية والتي لا تخطر على قلب بشر، وساعتها ذهبت عديد من التحليلات إلى القول إن ترمب خانه لسانه وتكلم بما لم يكن يجب عليه أن يقوله، فقد أومأ إلى أسلحة المناخ وربما لمح إلى تعاطي الأميركيين مع الفضائيين مما أغضب الدولة الأميركية العميقة بالفعل منه.
وفي كتاب “حرب” ربما نجد ما يمكن اعتباره مفاجأة من مفاجآت أكتوبر الانتخابية التقليدية، أي المعلومات أو الأحداث التي يمكنها تغيير مسار الاقتراع لهذا المرشح أو ذاك.
ويكاد بوب يعيد إلى أذهان الأميركيين اتهامات سابقة وجهت لترمب غداة انتخابات عام 2016، حول علاقته بروسيا الاتحادية عامة، والرئيس الروسي بوتين بنوع خاص.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتناول فيها بوب شأن تلك العلاقة، فقد كتب خلال عام 2020 عن أن ترمب “أرسل سراً إلى بوتين مجموعة من أجهزة اختبار كوفيد من إنتاج شركة أبوت بوينت أوف كير، لاستخدامه الشخصي”.
وهذه المرة وعبر المؤلف الجديد يفيد بوب بأنه خلال ذروة الوباء تبادلت روسيا والولايات المتحدة معدات طبية مثل أجهزة التنفس الصناعي، لكن بوتين –الذي عزل نفسه بصورة سيئة السمعة بسبب مخاوف من كوفيد– طلب من ترمب في مكالمة هاتفية تسليم أجهزة أبوت سراً، والعهدة على بوب.
وبحسب بوب وودوارد قال بوتين لترمب “من فضلك لا تخبر أحداً بأنك أرسلت هذه إلي”.
وأجاب ترمب “لا يهمني، حسناً”.
هل توقفت علاقة ترمب مع بوتين حتى بعد مغادرته البيت الأبيض؟
يقطع بوب بأن ترمب ظل على اتصال ببوتين بعد تركه منصبه.
وفي أحد مشاهد الكتاب يروي بوب أنه في لحظة ما في “مارالاغو” منتجع ترمب في فلوريدا، طلب الرئيس السابق من أحد كبار مساعديه مغادرة الغرفة حتى يتمكن من إجراء ما قال إنها مكالمة هاتفية خاصة مع الرئيس بوتين.
ويكتب وودوارد “وفقاً لمساعد ترمب، كانت هناك مكالمات هاتفية متعددة بين ترمب وبوتين ربما يصل عددها إلى سبع مكالمات خلال الفترة منذ مغادرة ترمب البيت الأبيض عام 2021”.
وسأل وودوارد مساعد ترمب (جيسون ميلر) عما إذا كان ترمب وبوتين تحدثا منذ مغادرته البيت الأبيض فقال ميلر لوودوارد “ليس هذا ما أعرفه”. وأضاف ميلر “لم أسمع أنهما يتحدثان، لذا أود أن أرفض ذلك”.
يعن للقارئ أن يتساءل من أين لبوب أن يعلم تفاصيل إرسال ترمب أجهزة طبية سراً إلى بوتين؟ ثم وربما هذا هو الأهم، هل هناك من يتنصت على مكالمات ترمب من داخل المجمع الاستخباراتي الأميركي، وعلى هذا الأساس أدركوا أن هناك تواصلاً مستمراً ومستقراً بين ترمب وبوتين؟
يكتب بوب إن مديرة الاستخبارات الوطنية في عهد بايدن (أفريل هاينز) كانت حذرة عندما سئلت عما إذا كانت هناك أية مكالمات هاتفية بين ترمب وبوتين بعد الرئاسة، وصرحت بحسب بوب “لا أزعم أنني على علم بجميع الاتصالات مع بوتين، ولا أزعم أنني أتحدث عما قد يكون الرئيس ترمب قد فعله أو لم يفعله”.
وسريعاً وقبل أن يجد الكتاب طريقه إلى الأسواق وعبر مقابلة مع “نيوزماكس” وشبكة “أي بي سي”، اتهم ترمب بوب بأنه “كاذب، وأن ذلك لم يحدث”.
وجه بوب طعنة قوية لترمب في موضع آخر من كتابه، حين تعرض لقصة ترشحه مرة جديدة للرئاسة.
وكان من المقربين لترمب الذي تحدثوا إلى وودوارد السيناتور الإشكالي لندسي غراهام والذي يصرح لبوب بالقول “الذهاب إلى مارالاغو (منتجع ترمب في فلوريدا) يشبه إلى حد ما الذهاب إلى كوريا الشمالية، إذ يقف الجميع ويصفقون في كل مرة يأتي فيها ترمب”.
أكثر من ذلك، ينقل بوب عن غراهام الجمهوري النافذ من ولاية كارولاينا الجنوبية قوله إن بايدن “فاز بصورة عادلة” لكن ترمب “لا يحب سماع ذلك”، ويواصل بوب وصف محاولات غراهام لتقديم المشورة لحملة ترمب عام 2024.
وقال غراهام لترمب بعد الانتخابات النصفية الأخيرة عام 2022 والتي أخفق فيها الحزب الجمهوري في السيطرة على الكونغرس بمجلسيه، النواب والشيوخ “إنك تواجه مشكلة مع هؤلاء الذين يعتقدون أن الأرض مسطحة وأننا لم نذهب إلى القمر، دعهم يذهبون”.
وحث غراهام ترمب مراراً وتكراراً على المضي قدماً في انتخابات 2020، وقال له إذا أعيد انتخابه فإن “السادس من يناير لن يكون نعيك”.
ويكتب بوب أن ترمب قال لغراهام بعد أيام قليلة، “لقد ألقيت خطاباً اليوم ولم أذكر فيه انتخابات 2020 إلا مرتين”، وكان الخطاب قد أظهر أقصى درجات ضبط النفس.
ولعل السؤال الحيوي في هذا الإطار هو “هل سيكون لما كتبه بوب عن ترمب تأثير ما مثير أو كبير، وربما خطر بالنسبة إلى نهار الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؟”.
ربما لا يعرف أحد مزيداً من الأسرار الكامنة طي صفحات كتاب بوب وقد يكون من بينها ما لا يمكن مداراته أو مداواته في أسبوعين، وبخاصة في ظل انطلاقة فعلية جرت للانتخابات المبكرة والاقتراع عبر البريد.
كاثرين غراهام ناشرة “الواشنطن بوست” وكارل برينستاين وبوب وودوارد عام 1973
بوب… نجم لا يأفل وهجه أبداً
هل الجميع في واشنطن متفق على أخلاقيات وسلوكات بوب وودوارد ودوره أو أدواره التي لعبها طوال نصف قرن وأزيد باحثاً عن كل ما هو غريب وعجيب، مثير وخطر؟
الشاهد أن هناك بالفعل اختلافات من حوله، غير أنه وفي كل الأحوال يبقى أفضل الصحافيين الاستقصائيين الذين لم يرفعوا أعينهم من على واشنطن، مالئة الدنيا وعاصمة القرار العالمي.
يقول بريان ستيورات من هيئة الإذاعة الكندية (CBC) إنه في كل مرة يصدر بوب وودوارد كتاباً جديداً، يتسبب في توقف الحياة داخل واشنطن.
وحصل وودوارد على كل الجوائز الصحافية الأميركية ولكن أهمها على الإطلاق كانت خلال عام 1973، حين حصل على جائزة “بوليتزر” للخدمات العامة لدوره الكبير في كشف فضيحة ووترغيت بالتعاون مع زميله كارل برنستاين.
وخلال مسيرته الصحافية وجهت إلى وودوارد عديد من الانتقادات خصوصاً في عهد إدارة بايدن الحالية، إذ اتهمه بعض بعلاقته الوثيقة بالإدارة الأميركية.
لا يوفر كثير من الأميركيين اليوم التساؤل عن السبب الرئيس في خروج كتابه “حرب” قبل الخامس من نوفمبر ببضعة أيام، مما يجعل من حديث المؤامرة من جانب إدارة بايدن ونائبته هاريس أمراً مقنعاً لملايين الأميركيين، وهو ما قد ينعكس سلباً في واقع الأمر بالنسبة إلى التصويت لهاريس عما قريب.
لكن وعلى رغم كل تلك الانتقادات، فإن لبوب كاريزما خاصة استطاع من خلالها تحقيق تفرد، ربما عجز عنه صديقه كارل برنستاين الذي شاركه البدايات والنصر الأعظم.
إنه يمتلك قدرة غير عادية على جعل البالغين المسؤولين يبوحون له بما في داخلهم… قدرته على جعل الناس يتحدثون عن أشياء لا ينبغي لهم التحدث عنها هي ببساطة غير عادية وقد تكون فريدة من نوعها، وبلغ الأمر بمدير الاستخبارات المركزية السابق وزير الدفاع لاحقاً روبرت غيتس القول عام 2004 “تمنيت لو كنت قد جندت بوب في وكالة الاستخبارات الأميركية”.
لقد أثبت بوب وودوارد نفسه كأفضل مراسل في عصرنا وربما يكون أفضل مراسل على الإطلاق.