حرية ـ (16/10/2024)
هدى عمران ترتحل بين الشعر والقص بحثا عن التنوع التعبيري
استقرت أخيراً في العالم العربي ظاهرة انتقال الكتاب من الشعر إلى النثر ولو في شكل موقت. لم يعد هذا الترحال بمثابة خرق للأعراف أو القوانين الفنية، بقدر ما هو مصدر للثراء الفني وتعبير عن رفض القوالب الفنية المنغلقة على نفسها. ولكن تبقى هناك علامات مشتركة بين تجارب الارتحال، فالشعر هو دائماً الذي يعبر إلى النثر، منتقلاً من التكثيف الشديد والحسية واللذة العنيفة – طبقاً لقول جورج باتاي- بينما نادراً ما نشهد السرد يعبر إلى القصيدة. من هنا تبدو الشاعرة المصرية هدى عمران قادرة على الانتقال من ديوان “ساذج وسنتمنتالي” (2016) إلى رواية “حشيش سمك برتقال” (2017)، ثم أصدرت ديوان “القاهرة” 2022 وفي 2024 صدر لها ديوان “كأنها مغفرة”، ومعه بالتوازي مجموعة قصصية بعنوان “حب عنيف”. في هذا الترحال ذهاباً وإياباً، تعبير عن المغامرة والتجريب، وهو تجريب لم يقتصر على المسار الفني، بل ظهر في مجموعة “حب عنيف” في شكل مكثف.
المجموعة القصصية
مجموعة “حب عنيف” ليست مجموعة، ليست قصصاً مستقلة، لكنها يمكن أن تستقل إذا خرجت من بناء الكتاب، وهي ليست متتالية. هي مجموعة تسعى إلى الرصد، كما شرحت إحدى الشخصيات: “إن غرض الحكي هنا أصلاً ليس إطلاق حكم على شخص بعينه، الغرض هنا هو الانتباه وليس الاستبطان”. لهذا يجيء أسلوب السرد بعيداً من الفانتازيا ليتمكن القارئ من الانتباه إلى الحالات الإنسانية المختلفة والمتباينة التي يمر بها الشخص ذاته، وهو ما يوضح فكرة الذات المتعددة، والمنشطرة أحياناً.
تبدأ المجموعة بقصة “يوم عادي في حياة امرأة متزوجة” وتنتهي بقصة “حب عنيف”. تتدرج الشخصيات في المواقف المفروضة عليها قسراً، إلى مواقف تتفاعل معها باختيارها، إلى محاولات للفهم أو سوء الفهم، حتى تصل القصص إلى الذروة في قصة “حب عنيف”، فترتحل الشخصيات من العادية المملة المتكررة إلى عنف الفهم والاكتشاف.
تمثل شخصيات المجموعة الذات المتعددة الكلية، نقابل نعمة وعلي وغيرهما في مواقع متعددة، ومن خلفيات مختلفة، وبالتالي تجيء الخيارات متناقضة، لأن الشخصية تتسق في المكان الخاص بها. يظن القارئ لوهلة أنه يقرأ نفس “نعمة” أو “مروة” أو “علي”، ليدرك أنها ذات مغايرة تحتفظ بجوهر ما من الذوات الأخرى. في حوار أجرته معها منى أبو النصر، قالت الكاتبة إنها أرادت للمجموعة “أن تحتمل شيئاً أكثر شاعرياً وممتعاً، وعن سؤال: “ماذا لو نقلنا فلانة في حياة فلان، ماذا لو كانت للمرء حيوات متعددة؟”. قد تصبح لعبة المرايا التي هي شاغل أساسي في تاريخ الأدب، ولو أني أعتبرها لعبة أنثوية بالأساس. وهكذا أردت أن ألعب لعبة ذكية مع القارئ، على أمل أن أجعله يبحث أكثر داخل هذا العالم. أن أجعله يعود إليه مرة وربما مرات أخرى، وكل مرة يعود يكتشف شيئاً جديداً كان مخفياً عنه”. كأن هدى عمران توظف حركات السيمفونية، فكل حركة إيقاعها مختلف ولكن يتضح بالتدقيق أنها تنويعة على الحركة الأساسية. هكذا تجيء القصص تنويعات على مسار الذات في بحثها المحموم اليائس عن الحب.
تنويعات متعددة
الشاعرة هدى عمران (صفحة فيسبوك)
في هذه التنويعات المتعددة، المتجاورة، توظف الكاتبة كل إمكانات الشخصيات ومهاراتها، وتضفرها مع السرد. فهناك شخصيات تكتب خواطرها بما يسمح بطرح تأملات عن اللغة والشعر. فاللغة كما تراها نعمة “كائن حي” يتطور دائماً، و”عمرها ما تموت”، تبتدع مفردات جديدة لتواكب تطور الحياة، وهو إبداع يواجه حراس اللغة الذين يخشون التجديد. لكن عمران تقف على الطرف الآخر، تسعى إلى التجديد ولا تخشاه، وعلى خطى جاك دريدا تُعلي من شأن المنطوق الذي سحقه المكتوب. وهناك ميمي صديقة علي التي تمتهن التصوير الفوتوغرافي، وهي موهوبة وشبهها البعض بالمصورة الأميركية ديان أربوس التي كانت بدورها تسعى إلى تصوير الصدق والعمق لتجعل من الآخر “معنى يخص الإنسانية كلها”، وكأن عمران تصف أسلوب سردها وتقدم للقارئ مفتاحاً للفهم. تنتهي القصة الأخيرة التي تحمل عنوان المجموعة بمحاكاة ميمي ونعمة وعلي لواحدة من لوحات بول غوغان، حيث يتوسط رجل وجهه غير ظاهر، امرأتين. في محاكاة عالم السرد لواقع الفن التشكيلي تنجح الكاتبة في قلب الأدوار، بحيث لا يحاكي السرد واقعاً خارجه، بل يحاكي عالماً آخر يقدم رؤية منشودة لهذا الواقع.
كأن الاكتمال يجيء من وحدة الفنون. فالجملة الافتتاحية في المجموعة تقدم هذا الواقع المزرى: “استيقظ الرجل في الليل جائعاً”، أما امرأته “في الصباح فراودتها أفكار انتحارية”. يظهر الجوع بكل تنويعاته الغريزية المباشرة، هو الجوع السطحي المقزز الذي لا يرى سوى نفسه، ويرى في الآخر أداة لتحقيق رغبات الذات. يتصاعد كريشندو الذوات المتعددة التي تكتشف نفسها والعالم في آن واحد، من أجل البحث عن الحب، ليصل إلى ذروته في مشهد محاكاة نعمة وميمي وعلي للوحة بول غوغان، “خلقوا نسختهم” من اللوحة. أدت المحاكاة إلى تسليط الضوء على العيون وليس على الجسد، فهي “تشي بنوع من العبور، إلى منطقة بين الواقع والخيال”. فيما بين الواقع والخيال (واقع السرد والخيال الذي تفيض به اللوحة) تحقق عمران هدف المجموعة، هدف لعبة المرايا والذوات المتعددة، وتعددية الذات، في هذه المنطقة: “لا تصبح أنت ولا تستطيع أن تعود إلى ما كنت عليه. إنك تنهدم وتتفكك وتنشئ نفسك من جديد أو تضيع ببساطة في مجهول، فتهيم روحك ولا تلتئم”. بهذه الثنائيات- تفكيك/ إنشاء، تماسك/ تشظي- تترك عمران القارئ متأرجحاً بين الأمل والخوف، لكنها تمنحه ببساطة في النهاية ما تود أن تنتصر له: “سادية الفنان في نصه مستخدماً كل اعتداء، كل صراع، كل انحراف، كل شيء منبوذ من أجل اقتحامك ومتعتك. فاشكر الفنان واحمده”.
وعلى رغم التفكيك المستمر وتقويض كل فكرة ثابتة أو مستقرة لدى القارئ- كما فعل دريدا- تقرر هدى عمران أن تنتصر في النهاية للفن الذي يسمح بعبور الحدود، وهو عبور المعرفة والفهم، فلا تعود الذات كما كانت، تبقى ملاصقة دائماً للتخوم، مغامرة، مقتحمة لمناطق غير مأهولة في البحث عن حب عنيف، حب “يعي معنى أن الإنسان للإنسان”، وهو معنى لن يتحقق إلا بهدم الثنائيات المتباينة.