حرية ـ (16/10/2024)
لطالما حمل “الصقر” قيمة رمزية وفنية كبيرة في عدد من الثقافات والبلدان، إذ تظهر الصقور في الفن والأدب وحتى على الرموز الوطنية والعملات المعدنية وشعارات الملابس العسكرية للجيوش.
ونشأت هواية وحرفة “الصقارة” أو الصيد بالصقور، في الأساس كوسيلة لتأمين الطعام، مثلها مثل غيرها من أنواع الصيد، ومع مرور الزمن، تطورت هذه الممارسة لتصبح جزءاً لا يتجزأ من التراث الثقافي لعدد من المجتمعات.
وعرفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، “الصقارة” كتراث إنساني حي وحرفة تقليدية عريقة، تُمارس في عدد من بلدان العالم، وتقوم هذه الحرفة على تربية الصقور وتدريبها لاستخدامها في الصيد، وهي تقليد يمتد لأكثر من 4 آلاف عام، يجسد ارتباط الإنسان بالطبيعة وعشقه لفنون الصيد.
وبحسب “اليونسكو”، تُعد “الصقارة” اليوم ممارسة دولية تتجاوز الحدود الجغرافية، حيث تُمارس في أكثر من 80 دولة حول العالم، ويعتقد أنها نشأت في مناطق آسيا الوسطى والهضبة الإيرانية، وانتشرت عبر الروابط الثقافية والتجارية إلى مناطق متنوعة، بما في ذلك شرق آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا، ثم توسعت لاحقاً خلال القرن الـ16 الميلادي إلى عدد من أنحاء العالم.
دبلوماسية وتراث
ودائماً ما ارتبط الصقر ارتباطاً وثيقاً بالأنشطة الدبلوماسية يُستحضر في اللقاءات الدولية كهدايا تعكس عراقة وتقاليد الشعوب، ومن الأدلة على ذلك حينما أهدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود في مستهل زيارته إلى السعودية في 2019 أحد أندر صقور العالم.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يهدي العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز خلال زيارته إلى السعودية في 2019 أحد أندر صقور العالم. (مواقع التواصل)
إذ وصفت وكالة “سبوتنيك” الروسية للأنباء الصقر بأنه يحمل اسم “ألفا” وهو من فصيلة الصقور النادرة الموجودة في كاماتشاتكا وهي أحد أقاليم روسيا، وحمل الصقر سابقاً اسم “نجم الشمال”، ولا يوجد سوى بضعة آلاف من هذه الفصيلة في العالم.
ويعد الصقر عنصراً مهماً من عناصر الثقافة السعودية ويحتل مكانة في حياة أبناء الجزيرة العربية، ولطالما كانت الصقور مصدر رزق للسعوديين، وتعبيراً عن الفخر والاعتزاز، إذ رافقت ملوك السعودية وأبناءها في حلهم وترحالهم.
وبحسب وكالة الأنباء السعودية “واس”، أظهرت الرسوم والنقوش الصخرية في أراضي السعودية الشاسعة، استئناس العرب للصقور والخيل قبل أكثر من 9 آلاف عام قبل الميلاد.
وشكل عام 2017 نقطة تحول مهمة في تاريخ الصقارين السعوديين، مع تأسيس نادي الصقور السعودي، الذي جمع آلاف الصقارين من مختلف مناطق السعودية تحت مظلة واحدة.
طرح الصقور
تركز “الصقارة” بصورة رئيسة على متابعة مسارات وممرات هجرة الصقور السنوية، حيث تعبر الصقور المهاجرة عدداً من دول الجزيرة العربية.
وتُعد عملية “طرح الصقر” من أبرز مهمات الصقارين، إذ يتم نصب الشباك لاصطياد الصقور وترويضها لتصبح جاهزة لاستخدامها في الصيد في ما بعد.
استئناس العرب للصقور والخيل قبل أكثر من 9 آلاف عام قبل الميلاد.
وبينما تشق الصقور طريقها في رحلة الشتاء والصيف، إذ تهاجر الطيور من بلد إلى آخر بحثاً عن الفرائس أو المناطق ذات الأجواء المناسبة، يرى المهتمون بتتبع هجرة الصقور أن هناك تشابهاً بين الصقور والطائرات، إذ يتخذ كل منها مساراً ثابتاً غير مرئي خلال تحليقها ورحلتها بين البلدان بحثاً عن الفرائس والأجواء المعتدلة.
وفي إطار تتبع مسارات هجرة الصقور أشار المهتم بالصقور عوض جبار العنزي خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية” إلى وجود تشابه بين مسار هجرة الصقور ومسارات تحليق الطائرات، إذ تتبع الصقور مساراً ثابتاً ومحدداً خلال هجرتها من بلد إلى آخر بحثاً عن الفرائس أو المناطق ذات الأجواء المناسبة للتعشيش، وتعود لاحقاً عبر ذات المسار موضحاً بأن الصقور تهاجر بمفردها ولا تهاجر كسرب مثل بقية الطيور الأخرى.
مسار رحلتها
وقال العنزي “إن الصقور المهاجرة التي تمر عبر الجزيرة العربية تبدأ هجرتها من روسيا وإيران وباكستان، مروراً بسواحل الجزيرة العربية، وبخاصة “صقر الشاهين البحري”، الذي يتبع خطوط الهجرة الممتدة من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وتحلق بمحاذاة ساحل البحر الأحمر غرب الجزيرة العربية، وتقطع البحر إلى القارة الأفريقية من طريق باب المندب، وتعود عبر المسار ذاته خلال رحلة عودتها”.
وأضاف أن الهجرة تأتي بحثاً عن الأجواء المعتدلة، حيث تتجه الصقور جنوباً عندما تبدأ الأجواء في مناطق آسيا الوسطى وروسيا بالاشتداد بالبرودة، ويبدأ “الشاهين” رحلته من روسيا، بينما تمر بعض الصقور عبر باكستان، لكن بأعداد أقل، وتبدأ مسارات الهجرة من الشمال الشرقي للسعودية، لتحلق الصقور على حدود سواحل البحر الأحمر، حتى تعبر المضيق باتجاه البحر الأحمر، مروراً بمنطقة “الحماد”، التي تُعد من أشهر المناطق في السعودية لطرح الطيور وعن أنواع الصقور التي تهاجر عبر الجزيرة العربية.
تبدأ الصقور هجرتها من روسيا وإيران وباكستان، مروراً بسواحل الجزيرة العربية
ومن أشهر الصقور “الشاهين البحري” و”الحر”، بينما يُعتبر “الوكري” صقراً مستوطناً، أي من الأنواع التي تعيش وتتكاثر في منطقة معينة بصورة دائمة ولا تهاجر إلى مناطق أخرى، وفق العنزي.
موعد الهجرة
أما عن موعد هجرتها أوضح العنزي أنها تبدأ من منتصف سبتمبر (أيلول) من بلادها، وتصل إلى الجزيرة العربية مع بداية أكتوبر (تشرين الأول)، وتعود إلى مواطنها الأصلية التي أتت منها في مارس (آذار)، مضيفاً أن الصقور تقطع في مسار هجرتها وهي تحلق مسافة تصل إلى 600 كيلومتر يومياً، وخلال مدة هجرتها تقطع نحو 20 ألف كيلومتر، مشيراً إلى أن الاهتمام بالصقور المهاجرة غير المستأنسة يعود إلى تميزها بقوة الصيد، مقارنة بالصقور المستأنسة إذ إن الطير المهاجر يمر بطرائد وتجارب صيد عدة، مما يجعله أكثر تمكناً في الصيد”.
برنامج هدد
وفي السياق قال الرئيس التنفيذي لنادي الصقور السعودي طلال الشميسي لـ”اندبندنت عربية” إن النادي يعمل على تتبع مسارات هجرة الصقور مثل “الصقر الحر” و”الشاهين البحري”، من خلال برنامج “هدد” الذي يعمل على جمعها وتأهيلها ليتم إطلاقها لاحقاً بالتعاون مع المنظمات الدولية في آسيا الوسطى.
وأضاف الشميسي أن النادي يستهدف من خلال برنامج “هدد” الأنواع التي تنتمي إلى بيئة السعودية، مثل “صقر الشاهين الجبلي” و”الحر”، حيث يتم “إطلاق هذين النوعين في أوكارهما الأصلية داخل السعودية في مناطق مثل جبال العلا وتبوك وحائل والطائف ومنطقة عسير وجبال جنوب السعودية”.
وأكد الرئيس أن طرح الصقور المهاجرة يشكل تحدياً لنادي الصقور لا سيما المهددة بالانقراض، إذ يخالف ذلك مستهدفات النادي بالاستدامة البيئية للصقور، ويحرص النادي للتغلب على هذا التحدي على عقد اللقاءات التوعوية والأنشطة المختلفة، التي تهدف لتوعية الصقارين والمهتمين وأفراد المجتمع كافة بضرورة المحافظة على هذه الأنواع وعدم طرحها والإسهام في المحافظة عليها، وإشراكهم مع النادي في تحقيق مستهدفات النادي البيئية.
وعن استشراف المستقبل لوضع الصقور المهاجرة في ظل التغيرات البيئية قال الشميسي “نعمل في النادي مع شركائنا في الجامعات المحلية وعدد من الجهات البحثية ذات الصلة على إعداد عدد من الدراسات والأبحاث لمعرفة أوضاع الصقور المهاجرة في ظل التغيرات البيئية التي تشهدها المنطقة، وما إذا كان هناك تأثير مباشر أو غير مباشر في مسار الهجرات السنوية للصقور، وسيتم نشر هذه الأبحاث وإطلاع المهتمين على نتائجها وأهم التوصيات التي ستتم في شأنها”.
يعد الصقر عنصراً مهماً من عناصر الثقافة السعودية ويحتل مكانة في حياة أبناء الجزيرة العربية
ونوه الرئيس التنفيذي بأن النادي يسعى إلى تحقيق الأهداف البيئية والإستراتيجية ذات العلاقة، تأكيداً على ريادة السعودية في حفظ وإحياء موروث (الصقارة) السعودية”، مضيفاً بأن النادي وقع البرنامج اتفاقية مع جامعة بيركلي الأميركية، لدراسة “الجينوم” للصقر الوكري النجدي، وهو المادة التي تحمل معلوماته الوراثية، لدراسة سلالته عبر البحث العلمي.
تاريخ “الصقارة” حول العالم
انطلقت فعاليات معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2024 في الثالث من أكتوبر الجاري بمقر نادي الصقور في ملهم، شمال مدينة الرياض، واختتمت أول من أمس السبت بمشاركة أكثر من 400 عارض من 45 دولة.
وتضمنت فعاليات المعرض متحفاً يستعرض تاريخ الصيد بالصقور لدى العرب، حيث نشأ في بلاد ما بين النهرين ولعب دوراً حيوياً في الصيد ضمن بيئة الجزيرة العربية الصحراوية القاسية، وعلى مر العصور أصبحت الصقور رمزاً للنبلاء والقوة، وارتبطت بصورة وثيقة بملوك العرب وأمرائهم.
أما في الصين، فبدأت منذ 700 عام قبل الميلاد، وأظهرت الآثار الأدبية والفنية مدى أهميتها في الثقافة الصينية.
تضمنت فعاليات معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2024 متحفاً يستعرض تاريخ الصيد بالصقور لدى العرب
وفي اليابان تمارس “الصقارة” أو “تاكاغاري” كما يطلق عليها اليابانيون منذ عام 355، وتأثرت بجاراتها الصين والكوريتين، واعتمدت من قبل طبقة الساموراي ومحكمة ياماتو، وهي أول حكومة مركزية في اليابان القديمة، وبلغت ذروتها في فترة “هييان” التي دامت حوالى 350 عاماً ما بين 794 و1185 لتصبح رمزاً للساموراي.
وتعود “الصقارة” في الهند إلى عام 600 قبل الميلاد، وكان يمارسها بصورة لافتة الأباطرة المغول مثل جلال الدين محمد أكبر المشهور بـ “أكبر العظيم” ثالث سلاطين دولة المغول الهندية، ولاحقاً ملوك “راجبوت” والعائلات النبيلة، لكن تراجعت شعبيتها مع القوانين البيئية الصارمة خلال الأعوام الأخيرة، لكنها لا تزال تمارس كتراث ثقافي في نطاق أصغر في المهرجانات المحلية.
وفي روسيا تعود “الصقارة” إلى القرنين الثامن والتاسع، وتأثرت بالممارسات الآسيوية الوسطى، وأصبحت بارزة في الطبقة الأرستقراطية الروسية بحلول القرن الـ10، حيث كان القيصر إيفان الرهيب والقيصر ألكسي الأول من الداعمين المتحمسين للصقار، ولا تزال “الصقارة” جزءاً من التراث الروسي، وتركت بصمة ثقافية واضحة حيث ارتبطت بمناطق مثل سوكولنيكي وسوكولينيا غورا في موسكو، التي كانت مواقع مخصصة لها.