حرية ـ (16/10/2024)
ما الذي يجعل وجبة عشاء في مطعم ما تجربة لا تنسى؟ هل هو الطعام المثالي الذي يثير براعم التذوق؟ أم الخدمة المميزة التي تجعل الضيف يشعر وكأنه ملك؟ ربما هو مزيج من النكهات الرائعة، والأجواء الدافئة، والخدمة التي تفوق التوقعات. تخيل نفسك جالساً في مطعم صغير، بعيداً من الصخب المعتاد، إذ أضيئت الطاولات بشموع ناعمة وأنت تراقب بعينيك الطاهي وهو يبدع خلف المطبخ المفتوح. تصلك أطباق مثالية، كل منها قطعة فنية في حد ذاته. ثم، في لحظة من الانبهار، تتساءل: هل هذا المطعم يملك وسام “نجمة ميشلان”؟
علامة “نجمة ميشلان” ليست مجرد رمز، بل هي قمة التكريم في عالم الطهي، وتحمل في طياتها قصة مئات المطاعم التي سعت إلى الوصول إلى هذا المجد. لكن ما سر هذه النجوم؟ وكيف بدأت رحلتها في تشكيل مشهد الطعام العالمي؟
نشأة أقل ألقاً
تعود أصول هذا الدليل الذي أصبح رمزاً للتميز في عالم الطهي، إلى أوائل القرن الـ20، حينما قامت شركة “ميشلان” الفرنسية لصناعة الإطارات بإصدار دليل خاص بسائقي السيارات عام 1900. يذكر كتاب “دليل ميشلان: تاريخ” لجون هاريس أن الهدف من هذا الدليل كان تشجيع الناس على استخدام سياراتهم، واستكشاف الطرق، وزيارة المناطق الريفية، وذلك من طريق تقديم معلومات عن محطات الوقود وورش تصليح السيارات والمطاعم.
تعود أصول هذا الدليل الذي أصبح رمزاً للتميز في عالم الطهي إلى أوائل القرن الـ20
مع مرور الوقت بدأ الدليل يتطور، وأصبح يولي اهتماماً خاصاً بالمطاعم. عام 1926 أُدرج تصنيف النجوم، إذ منحت المطاعم التي تستحق التقدير نجمة واحدة، بينما بدأت تظهر نجمتان وثلاث نجوم كعلامات على التميز الفائق. الهدف من هذا التحول كان تعزيز ثقافة تناول الطعام الجيد، وتوجيه السائقين نحو أفضل التجارب الغذائية.
إلى جانب ذلك، أضيفت تقييمات خفية للمراجعين، مما منح الدليل صدقية أكبر، وأصبح علامة فارقة في صناعة الطعام. وفقاً لكتاب هاريس، فقد أسهمت “ميشلان” في رسم معالم مشهد الطهي الفرنسي والعالمي، وأصبح الدليل رمزاً يحتذى للمطاعم الساعية إلى التميز والابتكار.
تعد “نجمة ميشلان” الآن أكثر من مجرد تقييم لطعام جيد، إنها تمثل معياراً للتميز في عالم الطهي، وتأتي لتجسد الأهداف الحالية لدليل ميشلان في تقدير تجربة تناول الطعام بأكملها. يتمثل العنصر الأساس في نظام التصنيف في وجود مفتشين مجهولين يتسمون بالحيادية والنزاهة. هؤلاء المفتشون هم مجموعة من المحترفين الذين يزورون المطاعم بشكل غير معلن، إذ يتناولون الطعام ويقيمونه وفق معايير صارمة.
تتضمن المعايير التي يعتمد عليها الدليل جوانب متعددة، إذ يتم تقييم جودة المكونات المستخدمة في الأطباق، إضافة إلى مهارة الطهاة في إعداد الطعام. وتؤخذ الأجواء داخل المطعم في الاعتبار، من ناحية التصميم والديكور، وتكون القيمة مقابل السعر جزءاً أساساً من التقييم. من المهم أن تعكس هذه العوامل تجربة شاملة ومميزة للزبائن.
علاوة على ذلك، يتم تقييم المطاعم بطريقة نسبية، إذ تقارن المطاعم في المدينة أو المنطقة الجغرافية نفسها، مما يعكس المشهد الطهوي المحلي بصورة دقيقة. ومن ثم تسهم هذه الطريقة في توجيه عشاق الطعام إلى اكتشاف تجارب جديدة وملهمة، وتعزيز ثقافة الطهي في مختلف الأماكن حول العالم.
ابتعاد من المدن الكبرى
على رغم سمعة دليل ميشلان المرموقة، فإنه واجه عديداً من الانتقادات التي أثارت الشكوك حول نزاهته. فقد أشار بعض النقاد إلى احتمالية وجود تحيز أو فساد في عملية التقييم، مما يطرح تساؤلات حول صدقية التصنيفات. يمكن أن تتأثر تقييمات المفتشين بالثقافة والذوق الشخصي، إذ تتباين تفضيلاتهم في بعض الأحيان عن تلك الخاصة بالجمهور، مما يؤدي إلى نتائج قد تبدو غير متسقة أو غير عادلة. على سبيل المثال، صرح روبن جيل، رئيس الطهاة في مطعم “داربيز” في بروكلي بجنوب لندن في بداية هذا العام لـ”اندبندنت” أن كلفة تناول الطعام في لندن ارتفعت، مما يجعل المعايير مختلفة مقارنة بمدن أخرى.
علاوة على ذلك، تظل معايير التقييم ديناميكية، تتغير مع مرور الوقت استجابة لتطورات عالم الطهي وأذواق الجماهير. إذ قد تفضل بعض الأطباق الفاخرة في فترة معينة، بينما تظهر اتجاهات جديدة تركز على الأطباق البسيطة والصحية في فترة أخرى.
الشيفان الإسبانيان خافيير (يسار) وسيرجيو توريس بعد حصولهما على وسام الثلاث نجوم من دليل ميشلان في برشلونة
ربما يكون التغير الأكبر الذي طرأ على التصنيف، هو قدرة بعض المطاعم في المدن الصغيرة على تحقيق نجاح ملحوظ في الحصول على نجوم ميشلان، مما يثير تساؤلات حول العوامل التي تساعدها في ذلك. يعد استخدام المكونات المحلية والابتكار والاهتمام بالتفاصيل من أبرز العوامل المؤثرة في هذا السياق.
أظهرت تقارير أن لندن شهدت خفضاً في عدد الجوائز، إذ تم تقليص عدد النجوم التي حصلت عليها مطاعمها السنة الماضية إلى النصف مقارنة بالعام السابق. وارتبط هذا الخفض بظهور مدن مثل مانشستر وبريستول على ساحة المطاعم الراقية التي بدأت في جذب اهتمام الطهاة والزبائن على حد سواء. يظهر هذا التحول كيف أن التركيز التاريخي على العواصم والمدن الكبرى بدأ يتلاشى. خلال عام 2023 فقدت لندن أكثر من 125 ألفاً من سكانها الذين انتقلوا إلى المناطق الإقليمية، لذا يبدو من المنطقي تراجع هيمنتها على مشهد الطهي في المملكة المتحدة.
كما يظهر النقاد أن الطهاة في لندن، مثل دين باركر، الذي افتتح مطعمه “تشيلينتانوس” في غلاسكو، يفضلون البحث عن فرص جديدة خارج المدينة بسبب كلف الإيجار المرتفعة وصعوبة المنافسة في سوق مزدحمة.
نجوم في مهب الريح
في الواقع، يظهر حصول المطاعم على “نجمة ميشلان” تأثيراً اقتصادياً كبيراً في المجتمعات المحلية، إذ يزيد من عدد الزبائن ويعزز السياحة. وفقاً لدراسة نشرتها “رابطة مطاعم ميشلان”، شهدت المدن الصغيرة التي حصلت على نجوم زيادة في الإيرادات بنسبة تصل إلى 20 في المئة بعد منح المطاعم هذه النجوم.
لكن الآراء تتباين بين الخبراء، من الطهاة والنقاد إلى مؤرخي الطعام بحسب كتاب هاريس. ينقل الكتاب عن الشيف الشهير مارك هكس قوله إن الحصول على “نجمة ميشلان” هو شرف كبير، لكنه يأتي مع مسؤولية كبيرة للحفاظ على المستوى. من جهة أخرى يعد ناقد الطعام البريطاني غايلز كورين أن النجوم ليست مجرد مقياس للجودة، بل تعكس أيضاً تحولات في الثقافة والأذواق.أثر وباء كورونا بصورة كبيرة في صناعة المطاعم، مما جعل دليل ميشلان يواجه تحديات غير مسبوقة. في وقت كان الدليل يعد معياراً للتميز في عالم الطهي، شهدت المطاعم حول العالم إغلاقات واسعة وتغيرات دراماتيكية في أنماط تناول الطعام، مما أدى إلى إعادة تقييم المعايير التقليدية للتصنيف.
وفي ظل الوباء، اتجهت دلائل تصنيف المطاعم الأخرى مثل “زاغات” Zagat، و”غود فود” Good Food، إلى تحديث تقييماتها بصورة أسرع، حين بدأت تركز على الخيارات التكنولوجية مثل خدمات توصيل الطعام وخيارات الوجبات الجاهزة. في المقابل ظل دليل ميشلان يتمسك بنهجه التقليدي الذي يعتمد على التقييم المباشر والتجربة الفعلية للمفتشين. جعلت هذه الاختلافات في الاستجابة بعض المطاعم تحظى بشهرة أكبر من خلال دلائل أخرى، إذ تميزت بسرعة التكيف مع الظروف الجديدة.
هي أكثر من مجرد تقييم لطعام جيد، إنها تمثل معياراً للتميز في عالم الطهي
من ناحية ثانية، أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بصورة كبيرة في نشر سمعة المطاعم. خلال فترات الإغلاق اعتمد عديد من الطهاة والمطاعم على منصات مثل “إنستغرام” و”إكس” للتواصل مع عملائهم، مما سمح لهم بمشاركة تجاربهم وقوائمهم الجديدة، بل وحتى طرق إعداد الأطباق. نجح بعض المطاعم في زيادة الجمهور وتحقيق شهرة أكبر بسبب هذه الحملات الرقمية، بينما أدت الإشادات من قبل العملاء على وسائل التواصل إلى تحسين سمعة المطاعم.
وفي السنوات الأخيرة، أصبح للمستهلكين دور أكبر من أي وقت مضى في تحديد شهرة المطاعم من خلال مراجعاتهم وتجاربهم الشخصية على منصات مثل “ديليفرو” و”جست إيت” و”أوبر إيت”. لم تسهم هذه المنصات فقط في تسهيل عملية طلب الطعام، بل أصبحت أيضاً منابر قوية لمشاركة الآراء حول جودة الطعام والخدمة. فعلى رغم أن عديداً من المطاعم قد لا يحمل تصنيفاً رفيعاً مثل نجوم ميشلان، فإن تقييمات المستهلكين الفردية يمكن أن تؤدي إلى زيادة شعبية المطعم بصورة كبيرة. إذ يمكن لتجربة إيجابية واحدة تحقق انتشاراً على وسائل التواصل الاجتماعي أن تجعل مطعماً غير معروف نقطة جذب للزبائن الجدد.
وبرأيي المتواضع، أعتقد أن تجربة الطعام الرائعة تعتمد بصورة كبيرة على حال الفرد المزاجية. فعندما يكون الإنسان سعيداً ومنشرحاً، حتى أبسط الأكلات تتحول إلى وجبة لا تنسى. يمكن لقائمة طعام متواضعة من عربة مأكولات شارع متنقلة أن تكون ألذ وأشهى من طبق يشبه لوحة لبيكاسو يقدمه نادل يرتدي بدلة أنيقة، ويتنقل بين الطاولات كما لو كان عازفاً في الأوركسترا الوطنية. والمطاعم الحائزة نجوم ميشلان، على رغم سحرها ورمزيتها، قد لا تستطيع التفوق على ذلك الشعور الجارف من الفرح البسيط. إذ يبقى التقدير الحقيقي للطعام مرتبطاً بالشغف واللحظات أكثر من ارتباطه بالشهادات والتصنيفات. لذا، في المرة المقبلة التي تجلسون فيها لتناول الطعام، تذكروا أن النكهة الحقيقية ليست دائماً في الأطباق الفاخرة، بل قد تكمن في اللحظات التي نتشاركها مع الآخرين، سواء كانت في مطعم راق أو في زقاق تنبعث منه روائح الأطعمة الشعبية الشهية.