حرية ـ (20/10/2024)
لا تزال “صهاريج عدن” التاريخية على رغم عاديات الزمن وحال الإهمال التي طاولتها والبسط والبناء العشوائي في حرمها والزوايا القريبة منها صامدة في وجه الزمن، تؤدي وظيفتها الأساسية في حماية المدينة اليمنية الجنوبية من سيول الأمطار المتدفقة، وأمثولة غافية تستيقظ عند مجيء من يستجليها لتحكي عن حضارات قديمة اهتمت بالماء يكتنزها النسق الهندسي المميز في عمارتها، الذي يعطيها بلا شك شخصيتها ويمكن للعين الخبيرة أن تترجمه إلى دلالات تاريخية واجتماعية وفنية معمارية.
أعجوبة هندسية
وبحسب الروايات التاريخية المرجحة اجترح اليمنيون في القرن الـ15 قبل الميلاد منظومة مائية متكاملة وكبيرة لحماية مدينة عدن من السيول المتدفقة وتغذية الآبار الجوفية وخزن مياه الأمطار. ولا تزال الأعجوبة الهندسية المعروفة بـ”صهاريج عدن” حتى يومنا هذا، تمتص قوة المياه المتدفقة من أعالي سلسلة جبال شمسان صوب المدينة وتغذيها بالمياه.
استحداثات عشوائية
في حديثه إلى “اندبندنت عربية” يقول رئيس جمعية الحفاظ على المعالم الأثرية والتاريخية في عدن، وديع أمان، إن أعمال البسط والبناء العشوائي الحاصلة في حرم الصهاريج أو قربها أمر خطر أصبح يشكل تهديداً حقيقياً لأهم الصروح الأثرية والتاريخية اليمنية في عدن، واصفاً الصهاريج التاريخية بأنها “أعجوبة هندسية” فريدة سبقت زمانها وتسمى محلياً بـ”صهاريج الطويلة” نسبة لوادي الطويلة الواقعة فيه.
تحكي صهاريج عدن جذور حضارات يمنية اهتمت بالماء
غياب حكومي
وعن دور الجهات الرسمية في مواجهة حال الاستحداثات التي أصبحت واقعاً ملموساً يهدد المعلم الأثري والتاريخي البارز في اليمن، قال أمان “تحدثنا مراراً وتكراراً عن أعمال البسط والبناء العشوائي في حرم المعلم الأثري أو قربه، وناشدنا السلطات المحلية ووزارة الثقافة اليمنية وهيئاتها المتخصصة منذ عام 2017، وطالبناهم بالتدخل وإزالة كل الاستحداثات العشوائية، ولم يحرك أحد منهم ساكناً حتى اليوم”.
محطة سياحية
وتعد الصهاريج البديعة وجهة سياحية مهمة للزوار القادمين من داخل وخارج اليمن. وما بين إعجاب بالهندسة المعمارية الفريدة لها والاستياء أمام الإهمال الذي طاولها، يروي الشاب اليمني معاذ مدهش قصته أثناء زيارتها وحجم الأسى الذي أصابه، قائلاً “لم أكن أعرف صهاريج عدن عن قرب سوى تلك المعلومات التي درستها في سنوات الابتدائية حتى زرتها قبل خمسة أشهر”. وأضاف “فوجئت بعظمتها وهندستها الفريدة، وشعرت بروح المكان المتناغم بالتراث والتاريخ والهدوء والسكينة، لكنني عدت مستاء، وذلك بسبب الإهمال الذي طاول المكان والبناء العشوائي في المدخل الرئيس للصهاريج”.
معلم تاريخي
وتعد “صهاريج عدن” من أشهر المعالم التاريخية في اليمن وتقع في وادي الطويلة من الجهة الشمالية الغربية لمدينة “كريتر” في مدينة عدن اليمنية. وقدر الباحثون عددها بـ55 صهريجاً في الماضي، أما ما هو قائم حالياً فـ18 صهريجاً تستوعب نحو 20 مليون غالون من الماء، وشيدت على مضيق جبلي يبلغ طوله 228 متراً.
وتعد هضبة عدن التي ترتفع عن سطح البحر ما بين 500 و800 متر، المصدر الرئيس لتدفق مياه الأمطار إلى تلك الصهاريج البديعة، إلى جانب السدود والقنوات المائية المختلفة في مدينة عدن التي عانت شح المياه في القرون الماضية.
قصور بحثي
بدوره، طالب الباحث والكاتب في تاريخ عدن المعاصر، بلال غلام، المسؤولين بالاهتمام بتاريخ هذه الآثار من خلال عمل أبحاث مستفيضة عبر مراكز أبحاث خارجية لكي تحدد الفترة والزمن التي بنيت فيه هذه الصهاريج والآثار الأخرى.
واهتم الإنسان اليمني القديم بالماء، وتذكر الروايات التاريخية المرجحة أن دولة “سبأ” هي من أمرت ببناء هذه الصهاريج في عهد “الملكة بلقيس”. أما دولة “حمير” التي جاءت على أنقاضها فطورت المنظومة المائية بصورة أكبر مساحة وعدداً، حتى بلغت 52 صهريجاً.
قتبانية
الباحث في الآثار اليمنية الدكتور سامي شرف الشهاب رجح في حديثه أن صهاريج عدن أنشأتها حضارة قتبان التي تعد من الحضارات الأكثر تأثيراً في تاريخ اليمن القديم وشبه الجزيرة العربية. وتابع “من الواضح أن جبل الطويلة استغل كله في حفر سلسلة من الصهاريج يتجاوز عددها 40 تقريباً، وهي مشاريع استراتيجية مهمة جداً شاعت إبان الألف الأول قبل الميلاد وعملياً هي قتبانية”.
يخشى أثريون من تعرض أعجوبة عدن الهندسية للدمار جراء الإهمال
وتعد الصهاريج مآثر إسلامية، إذ عملت الدول المتعاقبة في اليمن ومنها الدولة الزريعية والرسولية والطاهرية على تشييدها وترميمها لمواجهة شح المياه العذبة في مدينة عدن آنذاك، كما استخدمها العثمانيون بعد دخولهم اليمن عام 1538 للهدف ذاته، لكن إهمالاً وخراباً كبيرين أصابها فاندثر بعضها في عهدهم.
ومثلت الصهاريج شرياناً مائياً مهماً للقوات الإنجليزية المرابطة في مستعمرة عدن، إذ كان الحصول على المياه العذبة من أبرز المشكلات التي تواجهها تلك القوات. وتمت عملية ترميم الصهاريج من قبل البريطاني البرجدير كوجلان، وتوجد لوحة حجرية باللغة الإنجليزية في الصهاريج تتحدث عن ذلك، بحسب إفادة مدير عام هيئة المتاحف والآثار في عدن محمد سالم السقاف.