حرية ـ (22/10/2024)
على مر التاريخ كانت للطيور مكانة خاصة في كل الأساطير الإسلامية، وأيضاً وضع الأدب العثماني مكانة خاصة للطيور وأنواعها ترمز إلى أمور مختلفة، فبينما الكل يعرف قصة هدهد سليمان الذي كان ينقل الأخبار إليه من الأقاليم، وكان يعمل مع سليمان كضابط استخبارات، وفي المقابل يُطلق اسم “أبابيل” على الطيور التي ترمز إلى الظلم، وأيضاً تقول بعض الروايات الدينية إن العصفور كان يحمل قطرات ماء ليشارك في إطفاء النار التي أوقدت للنبي إبراهيم في مثال عن الرحمة والوحدة.
في تركيا التي كان يعتلي عرشها السلطان عبدالحميد الثاني، أحد آخر سلاطين الدولة العثمانية الأقوياء، كان عبدالحميد مولعاً بالحيوانات كلها، وكان قصر يلدز في إسطنبول مليئاً بالعينات النادرة من الحيوانات التي عمل السلطان على جلبها من المناطق النائية في العالم.
عبدالحميد كان يحب جميع الحيوانات، لكنه أولى أهمية شديدة للطيور، ومن بين الطيور اهتم بصورة خاصة بالحمام، وكان سبب اهتمامه به أنه يمكن تدريب الحمام لاستخدامه في الاتصالات أو لأغراض استخباراتية، وإلى يومنا هذا في تركيا يطلق على بعض الأشخاص الذين يتعاملون مع الاستخبارات “أفراخ الطيور”.
ذكاء الحمام
لدى الحمام ذاكرة قوية للغاية، خصوصاً الحمام الزاجل الذي يستخدم الأدلة لتحديد موقع عشه والعودة إليه، ويلجأ الحمام الزاجل إلى الأدلة البصرية والروائح والأصوات، كما لديه القدرة على استخدام الأشعة فوق البنفسجية لتحديد مسار الشمس لأنه يعتمد على مسار الشمس في حركة سيره.
وتقول بعض الروايات العربية إن الحملات الصليبية عندما حاصرت عكا أرسل أهالي عكا رسائل عبر الحمام الزاجل إلى مصر، حيث مقر صلاح الدين الأيوبي الذي جاء وفك الحصار عنهم بناء على معلومات نقلها الحمام الذي لديه القدرة على قطع المسافات الطويلة.
والحمام الزاجل استخدمته غالبية الحضارات، من الرومان إلى المصريين، وفي القرن الـ19 أفسحت الإمبراطورية العثمانية المجال لهذه الطريقة القديمة مع إضفاء الطابع المؤسسي على منظمة البريد والاتصالات باعتبارها واحدة من أهم الركائز الأساسية لتحديثها، حتى القرن الـ19 كانت بعض القوى العظمى تلجأ إلى الحمام في الأغراض الاستخباراتية، مما شجع العثمانيين أيضاً على أخذ موضوع استخدام الحمام على محمل الجد.
رسمياً الحمام جزء من الجيش
أمر السلطان عبدالحميد ببناء “بيت الطيور” في قصر يلدز، وبدأ بجمع سلالات الحمام من جميع أنحاء البلاد، وطلب من مسؤولي الدولة جلب بعض أنواع الحمام التي لم تكن متوافرة في الدولة العثمانية من لندن وباريس، ولمعرفته باهتمام السلطان العثماني بالحمام، قام أحد العلماء الفرنسيين بتطوير أنبوب نقل خاص للحمام وقدم اختراعه إلى القصر العثماني.
كان عبدالحميد أبقى فكرة استخدام الحمام للأغراض العسكرية والاتصالات سارية المفعول لفترة طويلة مع السرية، وأجّل الكشف عنها خوفاً من إمكان استعمالها في مكافحة التجسس الذي يقوم به الضباط العثمانيون ضد الآخرين، وكان السبب الرئيس لذلك أن الروس كانت لديهم أساليب متقدمة جداً في استخدام وتوجيه ذكاء الحمام، فخشي عبدالحميد من أن يستخدم الروس الحمام نفسه الذي يستخدمه الأتراك.
استمرت هذه المخاوف حتى عام 1901، فحينها حقق العثمانيون تقدماً ملحوظاً في أساليب استخدام الحمام، وتلاشت مخاوفهم من الروس، فقرروا في ذلك العام جعل الحمام الزاجل رسمياً جزءاً من الجيش، ونشروا “لائحة الحمام القتالي العسكري”.
جلب الحمام الأميركي إلى تركيا
من بين جميع السلاطين العثمانيين، كان عبدالحميد يتمتع بأكبر قدر ممكن من العلاقات القوية مع الولايات المتحدة، وكانت العلاقات العثمانية التركية في عصرها الذهبي خلال فترة عبدالحميد الذي كان يدرك أهمية هذه القوة الجديدة (القوة الأميركية الصاعدة آنذاك)، كما كان السفير الأميركي لدى الدولة العثمانية لويس والاس صديقاً شخصياً لعبدالحميد واستمرت صداقتهما حتى وفاتهما، لدرجة أن والاس عندما ترك مهمته وعاد لبلاده قام بإنشاء متحف صغير أسماه “متحف الصداقة” يحوي ذكرياته مع السلطان وهداياه، تخليداً لصداقتهما.
في المقابل، كانت أفكار السلطان عبدالحميد هي أن الهنود الحمر شعب مضطهد، وكان يرفض الآراء التي تقول إنهم متوحشون، بل على العكس كان يرى وجوب حماية الهنود ومنع تدمير ثقافتهم التي كان يرى أنها الثقافة الأصلية لأميركا، كما تم في عهده جلب بعض العائلات من الهنود من الولايات المتحدة إلى إسطنبول وسمح لها بالاستقرار في الأراضي التركية.
بالعودة لموضوعنا الرئيس، الحمام الماهر الموجود في الولايات المتحدة جذب انتباه السلطان عبدالحميد، وحول هذا الأمر يروي الكاتب رمضان إرهان غولو ما جرى بالكلمات التالية “عام 1883 قدم السلطان عبدالحميد بعض الطلبات من سفير إسطنبول لدى واشنطن توفيق باشا، الطلبات تتضمن بعض حاجات القصر”.
وإضافة إلى طلباته مثل الأثاث والمضخات والتبغ، “طلب السلطان أيضاً من السفير إحضار خيول وحمام، وأكد إحضار أنواع مختلفة من الحمام الزاجل والداجن والبري، فطلب إرسال زوج واحد من كل سلالة من الحمام الذي يمكن الوصول إليه من مختلف المدن والمناطق في الولايات المتحدة، وأكد ضرورة وضع الحمام في صناديق آمنة لضمان وصولها بالسلامة على الطريق، وتعيين ضابط محلي ليكون مسؤولاً عن الصناديق التي تحمل الحمام”.
وعلى رغم إنشاء منظمات بريدية واتصالات حديثة في أوروبا وفي الدولة العثمانية خلال فترة التنظيمات، إلا أن وسيلة الاتصال القديمة عبر الحمام الزاجل بقيت مستخدمة، فيما نشأت الأهمية المتجددة للحمام الزاجل في أوروبا في القرن الـ19 من القلق من وقوع خطوط التلغراف في أيدي العدو في حال نشوب حرب أو فقدان إمكان الاتصال بالتلغراف لأي سبب من الأسباب، وعلى رغم استخدام الحمام في الاتصالات بطرق وأسباب مختلفة، إلا أن أهم رسائل الحمام كانت تلك المستخدمة للتواصل مع المناطق العالقة أثناء الحرب.
ولذلك يمكن القول إن الغرض والفائدة الأهم من استخدام الحمام الزاجل، ضمان التواصل مع الخارج لأولئك الذين تقطعت بهم السبل في حال محاصرة المنطقة في الحرب، وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن التواصل مع المناطق التي لم يعُد الاتصال المباشر فيها ممكناً إلا من خلال الحمام.
التكنولوجيا لم تقضِ على دور الحمام
تم استخدام شركات الحمام التي أنشأها السلطان عبدالحميد بصورة فاعلة في الحرب العالمية الأولى وتم أيضاً استخدامها أثناء فترة “حرب الاستقلال”، وبما أن أكبر عائق للحمام هو أنها حيوانات حساسة للغاية للغازات السامة، لذلك أمر مصطفى كمال أتاتورك الذي شهد فائدة الحمام الزاجل عن كثب خلال حرب الاستقلال، بإجراء دراسات لتطوير أساليب يمكن أن تحمي الحمام من الأسلحة الكيماوية، وتأكد أن الحمام أصبح جزءاً من الجيش.
باختصار كان مشروع “الحمام الاستخباراتي” في تركيا وهو مشروع للسلطان عبدالحميد، ويُعدّ أحد الأعمال القيمة في تاريخه، وكان هذا المشروع مفيداً جداً لتركيا خلال الحرب العالمية الأولى وحرب الاستقلال، وبعد سقوط السلطنة وقيام الجمهورية التركية تمكن الحمام من الحفاظ على وجوده كعنصر في الجيش.
وفي عصر الحداثة أيضاً لا يمكن القول إن دور الحمام اختفى مع ظهور التكنولوجيا الحديثة، فخلال فترة الحرب الباردة، استفادت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بصورة كبيرة من الحمام الزاجل مع مشروع “تاكانا” وكلفته بعض المهمات الأكثر استراتيجية.