حرية ـ (23/10/2024)
صباح ناهي
دأبت الناصرية المدينة التي تتوسط مدن قلب الجنوب النابض على الانتفاضات الدائمة بسبب الأوضاع التي تعيشها مذ كانت حاضرة العراق التاريخية بعواصمها السومرية الثماني، وما عاشته وتوابعها من أقضية ونواحٍ في الأزمنة الحديثة يشكل امتداداً تاريخياً لحواضر بلاد ما بين النهرين، وتاريخ الوعي الفطري الذي أحالها إلى حاضنة لغالب المتغيرات السياسية منذ التأسيس.
مدينة الأحزاب والغبار
فكل أحزاب العراق من دون منازع ولدت في هذه البقعة من أرض العراق التي شهدت أول تشكيل لحزب يساري في العراق وهو الحزب الشيوعي العراقي في مارس (آذار) عام 1938، على يد أحد أبنائها يوسف سلمان الملقب “فهد”، بعدها تشكلت فيها أول خلية لحزب قومي هو “حزب البعث العربي الاشتراكي” أثناء عودة فؤاد الركابي عام 1947 حاملاً فكرة الحزب، كما أسس طالب الرفاعي أول حزب إسلامي باسم “الدعوة” مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.
الوالي العثماني والمهندس البلجيكي
يصفها واحد من مؤرخيها وكتابها ومدوني سيرتها وحراس إرثها الطويل الباحث الروائي نعيم عبد مهلهل فيقول، “مدينة الناصرية تقع في الجنوب العراقي (360 كيلومتراً جنوب العاصمة بغداد)، بناها الوالي مدحت باشا وهدمها جنرالات الحروب والمقاولون الجدد وغبار موسم الصيف الطويل. وعلى رغم هذا فهي من مدن الابتكار الكوني إذ تفتخر بأنها واحدة من منازل الخليقة التي آوت بحنان الرب هواجس طفولة أكثر من ولي وقديس ونبي، ومنهم سيدنا إبراهيم الخليل أبو الأنبياء، وفي واحدة من قصباتها سطر أيوب أسطورة الصبر السومرية، واشتغلت ذاكرة البشر على اكتشاف الحضارة، من الكتابة والنحت والفلك وحتى صناعة الإمبراطوريات”.
ويبتعد مهلهل عن واقع المدينة الثائرة دوماً، ليقول عن تكوينها وكيف أنشئت حديثاً، “بنيت المدينة في القرن الـ19 بهندسة مهندس بلجيكي خططها باستقامة ممتدة على طول أذرع الأفق، لتصير شوارعها امتداداً مستقيماً تحت خط العين والبصر، خط مشت عليه خواطر أبناء المدينة من المبدعين، وكانت الحنجرة الرخيمة أول نتاج أحلامها بفضل الطبيعة الساحرة للمكان المظلل بغابات النخل الغافية على طول ضفاف الفرات الذي شق المدينة إلى نصفين. فكان القرن الـ20 هو قرن التحولات للمدينة عندما أسست فيها المدارس، واحدة للذكور وأخرى للإناث، ومن بين معلميها العرب واليهود والصابئة والمسيحيون، وهذا دليل على أن المدينة منذ بواكير وجودها كانت مدينة للمؤاخاة والألفة بين المذاهب والأديان، وكانت فيها محلة كبيرة لليهود وأخرى أكبر للصابئة المندائيين، وفيها عائلات كثيرة من أصول فارسية وتركية وكردية وهندية وحتى عائلات أوزبكية أو قوقازية، كما في بيت (علي دنبه) الواقع حتى هذه الساعة قرب صيدلية الحكمة في شارع الحبوبي، وهم من سكنة المدينة منذ مطلع القرن الماضي”.
بنيت مدينة الناصرية في القرن الـ19 على يد مهندس بلجيكي
في ما يعد الشاعر المعروف عبدالقادر الناصري رائداً للحداثة الشعرية في المدينة ومن المجيدين في كتابة الشعر، وهو أصلاً من عائلة كردية نزح والده من مدينة السليمانية وسكن فيها، “فكانت ولادة مدينة الناصرية من عاطفة الوالي ونرجيلة المتصرف ورغبة العثمانيين في إغراق المكان لحظة التمرد والعصيان. لهذا كان تأسيسها بمكان أقل من مستوى النهر ومناسيب فيضانه، لرغبة في لجم ثورات أبنائها بثورة الماء، فكان عليها أن تعاني وحتى ستينيات القرن الماضي من الفيضانات الموسمية، ويتذكر أهل المدينة غضب نهر (أبو قداحة) وليالي السداد ومواويل القمر في الليل الذي كان يحتضن سهر الأبناء على مدينتهم”، يقول الكاتب.
تاريخ من الصراع
قبلها شهدت الناصرية مطلع القرن الماضي حالات تمرد على الجيش البريطاني عندما قتل العريف في الجيش العراقي حسين أرخيص الجنرال البريطاني جفرسون، فيما ثارت مجموعة من عشائر أل أزيرج عندما تصدوا للجنرال البريطاني في نهر الفرات وقتلوه في “باهيزا” مع عدد من الجنود البريطانيين حتى أطلق عليهم الإنجليز عبارة “الشجرة الخبيثة”، لخروجهم عليهم من خلف أشجار النخل، التي يحتمي فيها المهاجمون. ويعزو عدد من الباحثين سبب هذا الغليان في نفسية أبناء الناصرية إلى رفض كل أساليب الديكتاتوريات ورفض تسلط شيوخ العشائر وقسوة “السراكيل” هناك، في ما يعزو فريق آخر من الباحثين سبب هذه الثورات والانتفاضات إلى الموقع الحضاري التاريخي لهذه المدينة التي تضم بين آثارها أكثر من 800 مدينة وموقع أثري بحسب (تاريخ حضارة وادي الرافدين) لمؤلفه عالم الآثار والتاريخ طه باقر.
ولادة عسيرة
ولدت الناصرية مع حلم تركي وانتهت اليوم مع حلم متعدد الجنسيات، وبين الحلمين تحاول المدينة أن تغرد خارج السرب وتصنع خصوصيتها الجنوبية التي تريد فيها النأي عن تواريخ مثل تلك. فهي تحاول حتى في أرشفة وجودها أن تذكر فقط اسم مؤسسها مدحت باشا ولا تشير إلى غير ذلك.
فما يربطها بوالي والصدر الأعظم لاحقاً سوى الفرمان السلطاني، وما تلاه كانت المدينة خاضعة لسلطة “عشائر المنتفق” العربية القادمة من الجزيرة العربية، وبقيت تحمل اسم (لواء المنتفك) الذي لحقت فيه أمصاره القديمة والمستحدثة كقضاء سوق الشيوخ والشطرة وقلعة سكر الجبايش والرفاعي وغيرها من النواحي والقصبات الأخرى.اقرأ المزيد
أسس الباشا المدينة ثم نساها إلى هموم أخرى حملته من منصب إلى عزل وإلى المؤامرات والنفي، بعد أن حظي بشرف أن يكون صدراً أعظم للحاضرة السلطانية في الأستانة (إسطنبول) لينتهي به الأمر منفياً في الحجاز، وليكتب لزوجته الشركسية حنينه إلى أمكنة أحبها وعاش في رؤى تحديث أشواقها، كما في بغداد عندما أسس خط “التروماي” وجلب الكهرباء واستحدث وللمرة الأولى في العراق نظام التجنيد الإجباري. لكنه وبحسب أوراقه وبعض المتناثر من تلك الذكريات واليوميات، لم يأت على ذكر المدينة التي صنعت بفرمان منه، وربما نسي تلك البيوت المشيدة بالطين والقصب والآجر لتنمو بعد حنين وتصير رقماً صعباً في ذاكرة الجيوش الإنجليزية الزاحفة بجيوشه الهندية والإيرلندية والأسترالية والإنجليزية من البصرة، صعوداً إلى بغداد وليتوقف طويلاً زحفها عند (البطيحة) في الناصرية في معركة “باهيزة”، وليكتب ضباط الحملة كثيراً عن هذه المدينة التي كانت بالنسبة لهم خط المواصلات الرابط بين الكوت والبصرة وبغداد، وربما أثر هذا التوقف الطويل في سير العمليات في هزيمة الجنرال الإنجليزي في معركة الكوت أمام جيوش الترك بقيادة الفريق خليل باشا، وليخضع هو وجيوشه إلى حصار طويل انتهى باستسلامه وأخذه أسيراً إلى بغداد ومن ثم إلى الأستانة، يؤكد المهلهل مؤرخ الناصرية في بعدها الاجتماعي.
البعد الثقافي
بين العصملي الباشا والسير برسي كوكس المفوض السامي البريطاني، تأخذ متصرفية المنتفك حظها كما باقي المدن، وتفتح الناصرية أذرع التحول للحكومة الوطنية الجديدة على رغم الانتداب والوصاية والاستعمار المبطن، لتبنى فيها المدارس الجيدة بمعلميها من المسلمين واليهود والصابئة، وتبنى فيها المستشفيات وتشيد الحدائق في وسط شارع الأسطوري (عكد الهوى) قبل أن يغير اسمه إلى شارع الحبوبي تيمناً بالمجاهد النجفي العلامة محمد سعيد الحبوبي الذي توفي في شارع الحبوبي أثناء عودته من معركة الشعبية في ثورة 1920 الوطنية، ولينتصب اليوم تمثاله البرونزي في ساحة بمنتصف الشارع تكاد تكون أهم نقطة حيوية في المدينة، ليقف الشيخ الجليل متكئاً على عصاه وهو يقص للأزمنة الغابرة والقادمة وللأجيال قصة مدينة آوت الجرح ومدته بعدد الخيل والرجال والقصائد.
ففي الناصرية عاش (فهد) يوسف سلمان، مؤسس الحزب الشيوعي العراقي وأمينه العام الأول، حياة مطاردة عيون السلطة التي أعدمته إبان العهد الملكي، ليتوالى إعدام رفاقه طوال الأعوام الـ80 من عمر الحزب، كما أعدم مؤسس البعث فؤاد الركابي لتتوالى تصفية رفاقه على مدى الأعوام الـ50 اللاحقة، وهرب أهل “الدعوة” بعد إعدام قياديه أبناء الصدر، ورفاقهم المؤسسون للقيادة والحركة، ثم عادوا إلى السلطة بعد 2003، وهرب القوميون العرب من أهل الناصرية إلى القاهرة ولندن وسواهما ليكتبوا تاريخاً من نضالهم.
كانت الناصرية مدينة للمؤاخاة والألفة بين المذاهب والأديان
وكان للناصرية على رغم شعورها بالغبن في امتلاك السلطة كونها الرائدة في التأسيس نصيب من الوزارات العراقية أعطت المدينة اثنين من رؤساء الوزارات هما صالح جبر في العهد الفيصلي الثاني، والسيد ناجي طالب في الزمن الجمهور، كما كان الراحل فؤاد الركابي من مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي وأمينه العام أيام جبهة 1957. وشغل إحدى الحقائب الوزارية مع عدد من أبنائه الذين استوزروا في حقب الحكومات المتلاحقة، عدا المناصب السياسية المهمة في كثير من الأحزاب عبر تاريخ العراق الحديث. كما تفتخر المدينة بأن كثيراً من عقولها من أساتذة وأكاديميين جامعيين يجلسون على الكراسي التعليمية في كثير من جامعات العالم، إذ يكتب لواحد من أبناء المدينة الذين يرجعون إلى أصولها، أن يسمى باسمه واحد من الكويكبات الفلكية من قبل جمعية الفلك البريطانية، وهو الدكتور عبدالعظيم السبتي من الطائفة المندائية، وهو اليوم أستاذ ممارس في اختصاصه في أرقى الجامعات البريطانية، ومثله كثير ممن تحتفي بهم جامعات الغرب من بينها جامعة كولومبيا حيث يتولى البروفيسور محسن الموسوي درس الاستشراق.
وفي الجانب الفني للمدينة ريادة في الغناء العراقي الحديث، وكانت أصوات أبنائها من أول الأصوات التي صدحت في الإذاعة العراقية، ووقف المطرب الراحل داخل حسن جنباً إلى جنب مع مطرب المقام العراقي محمد القبانجي ليبثا على الهواء أولى الحفلات الغنائية. وفي الشعر أيضاً كانت لها ريادة في إبداع أبنائها أمثال قيس لفته مراد وعبدالقادر الناصري ورشيد مجيد وغيرهم. وينعكس هذا على بقية الفنون والإبداعات الأخرى.
“وتعيش الناصرية يومها في حرمان لكثرة ضحاياها وسواد أيامها في ظل أنظمة تعسفت عن فهم قيمتها التاريخية، وإفقارها وعدم إشراك أبنائها في المناصب العامة. “ويتغير هاجس وجودها من حال إلى حال، متغير يخضع لظرفية التواريخ التي تكاد تكون تواريخ صاخبة لأزمنة لم يهدأ فيها فصل واحد من فصول الراحة التي ظل الناصري يتمناها بعيداً من الحروب والقهر السياسي والجهل الذي يولد من تراكم ذلك القهر ومسبباته. وعلى رغم هذا يملك الناصري ذاتاً نقية تعود إلى حضارة النشوء الأول لبيوت وعائلات المدينة، فيما يتراكم عليها غرباء تزحف بهم ظروف ومستجدات لواقع هو في المحصلة نتاج ما حصل للبلاد جراء المسببات التي خلقت الوضع الحالي وقبله، غرباء المدن البعيدة والريف القصي والبلاد المجاورة، وهم اليوم يمتزجون مع نسيج المدينة ويخلقون ذائقة أخرى، ولكن المدينة ولخصوصية وجودها المميز تحاول أن تنأى عن مزاج الغرباء وسلوكهم لتبقى مدينة رائقة لصفاء الوعي واللحظة المدهشة”، هكذا يصف الروائي نعيم عبد مهلهل مدينته المتمردة دوماً.
انتفاضة أكتوبر
شهت الناصرية وتوابعها من الأقضية الخمسة، انتفاضة عارمة امتدت ثمانية أشهر، منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019، لتسجل “أعمال قتل ممنهجة استهدفت المتظاهرين العراقيين في المدينة بين يومي 28 و30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، عقب يوم واحد من حادثة حرق القنصلية الإيرانية لدى النجف. وقد قتل زهاء 70 شخصاً وسقط أكثر من 225 جريحاً في 28 نوفمبر، بينما قتل 15 متظاهراً وجرح 157 آخرون في 30 نوفمبر، مما أدى إلى إقالة الفريق جميل الشمري من رئاسة خلية الأزمة المكلفة معالجة الأوضاع في المحافظات الجنوبية، وأعلن رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي في 29 نوفمبر تقديم استقالته إلى البرلمان، وتم حرق القنصليات الإيرانية من قبل متظاهري الناصرية، وتهديد النظام السياسي برمته، ووقف العملية السياسية في البلاد والدعوة لانتخابات جديدة.
وكان أبرز المتصدين للنظام السياسي هم أبناء ذي قار ومركزها الناصرية، الذين ينتفضون اليوم على السلطة، لأنها تسعى لاعتقال عدد من المطلوبين هناك، بعضهم متهم بجرائم جنائية وآخرون من متظاهري أكتوبر، كما أشيع.