حرية ـ (24/10/2024)
في الوقت الحاضر، ينقسم مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي إلى نوعين: أولاً، مؤثرون يبقون في المنزل حيث يصنعون مقاطع فيديو تصور روتينهم اليومي، أو عمليات تنظيف منازلهم وترتيبها أسبوعياً، أو طهو أطباق الطعام المختلفة باستخدام مكونات طازجة، وثانياً مؤثرون يخرجون بحثاً عن تحديات خطرة [القفز من مناطق مرتفعة جداً مثلاً]، إذ يضعون حيواتهم على كفوفهم في سبيل نشر فيديوهات على الإنترنت تكون مشوقة وتتحدى الموت، بقصد جذب الانتباه وزيادة عدد المشاهدات والتفاعلات.
الأسبوع الماضي تحديداً، أثناء إعصار “ميلتون” [الذي ضرب ولاية فلوريدا الأميركية]، وعلى رغم الظروف الخطرة، شاركت [المؤثرة] كارولين كالواي البالغة من العمر 32 سنة متابعيها رسالة تحد حول الأسباب التي دفعتها إلى تجاهل الإخلاء الإلزامي في منطقتها، قبل أن تستغل الفرصة للترويج لكتابها. وخرج [المؤثر] مايك سمولز جونيور في مدينة تامبا ليصور نفسه في بث مباشر على منصة “كيك” Kick وهو يقفز في الماء مستعيناً بمرتبة قابلة للنفخ، كل ذلك بينما الرياح العنيفة تتخبط من حوله. وقال للمشاهدين: “بدأت الرياح تشتد ولست أجيد السباحة، لذا كان علي أن أتمسك بهذه الشجرة”.
ولكن أحياناً، يقود هذا البحث المحموم عن المحتوى [المدفوع بالرغبة في جذب الانتباه وزيادة التفاعل] إلى حوادث خطرة وعواقب وخيمة جداً.
ذهب ضحية إحدى هذه الحوادث مؤثر بريطاني خلال أدائه عرضاً مثيراً وغير تقليدي على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك عندما سقط أثناء تسلقه أحد أكثر الجسور ارتفاعاً في إسبانيا، تحديداً جسر كاستيا لامانشا الواقع غرب مدريد مباشرة. ويزعم أن الشاب (لم يذكر اسمه) ذا الـ26 سنة وصديقه البالغ من العمر 24 سنة، تسلقا البناء الذي يرتفع حتى 630 قدماً من دون أن تكون في حوزتهما أي معدات أمان.
في الحقيقة، ليست هذه سابقة من نوعها في هذا المجال، إذ سبق أن وقعت حوادث مميتة أيضاً خلال صناعة “محتوى” بقصد عرضه على منصات التواصل. في يوليو (تموز) من هذا العام مثلاً، سقطت المؤثرة الهندية آنفي كامدار في مضيق يبلغ ارتفاعه 300 قدم بعد التقاط صور [سلفي] على مقربة من شلال كومبهي في ولاية ماهاراشترا في غرب الهند. وفي عام 2021، لقيت المؤثرة في هونغ كونغ صوفيا تشيونغ حتفها بطريقة مأسوية أثناء محاولتها التقاط [سلفي مع أصدقائها] بمحاذاة أحد الشلالات على تيار تسينغ داي.
كل هذه المآسي تحملنا على طرح السؤال: لماذا؟
بطبيعة الحال، الإجابة الأكثر وضوحاً تتمثل في: المال. إنشاء هذا النوع من المحتوى، خصوصاً البث المباشر، يعود على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بمئات الآلاف من الجنيهات، إن لم نقل أكثر. ولكن، ما النفع من كسب المال الكثير إذا كنت لن تعيش لتستمتع به؟
بالنسبة إلي، يبدو أن الدافع وراء أداء الجيل “زد” Z [الذي نشأ بين منتصف تسعينيات القرن الـ20 وأوائل العقد الأول من القرن الـ21] لا يتعلق بالمال بقدر ما يتعلق بالحصول على التقدير والابتعاد عن الواقع، إضافة إلى الانغماس في تجارب مبالغ فيها تؤثر في إدراكهم الشخصي للواقع. إلى حد ما، أتفهم هذا التوق. في الحقيقة، لم يبدأ ذلك كله مع الجيل “زد”، بل مع جيلي، جيل “الألفية” [أو جيل “واي”، الذي ولد في ثمانينيات وتسعينيات القرن الـ20 إلى أوائل العقد الأول من القرن الـ21 وشهد تحولاً كبيراً في التكنولوجيا والاتصالات مثل ظهور الإنترنت والهواتف الذكية].
كنا نحن جيل “الألفية” آخر الذين نشأوا قبل تفشي وسائل التواصل الاجتماعي. نعم، كانت في متناولنا منصات اجتماعية من قبيل “بيبو” Bebo، و”ماي سبايس” MySpace، و”فيسبوك”، ولكنها لم تكن بالحجم المهول الذي تبدو عليه الآن. لم تولد “إنستغرام” إلا في السنة الثانية من دراستي الجامعية، وارتبط إطلاق المنصة بظهور المؤثرين وانتشارهم أيضاً.
في البداية، كنا ننشر لقطات تصور لحظات يومية وتفاصيل بسيطة مع أصدقائنا (وجبات العشاء، فناجين القهوة، الكتب التي كنا نطالعها). وكلها كانت طبعاً ذات حدود داكنة تسمح بالتركيز على وسط المشهد وتعطيه طابعاً فنياً. لم تكن أبداً محاولة للاستعراض أو الأداء أمام الآخرين بغرض جذب انتباههم [بل كانت طبيعية وصادقة]. كان الموضوع الذي نشاركه عادياً جداً إلى حد أننا لم نفكر أبداً في تحقيق انتشار واسع النطاق، أو تحويله إلى مهنة ومصدر دخل.
ولكن بعد ذلك، عندما كنا ننشر صوراً التقطناها لأنفسنا في إحدى الليالي في الخارج [سهرات وحفلات ومناسبات اجتماعية]، كنا نرفقها بـ”هاشتاغات” كثيرة في قسم التعليقات ونروح نراقب ازدياد عدد “الإعجابات” لدينا. 103 قلوب تحصدها صورة “سلفي” غير واضحة، مع أننا لا نعرف نصف هؤلاء المستخدمين؟ نعم، لا ريب أننا نريد مزيداً من المتابعين و”الإيموجيز” (الرموز التعبيرية) على شكل نار [تعبيراً عن الإعجاب الكبير] من غرباء يغمروننا بالإعجاب والانبهار.
طبعاً، طالما تداول المستخدمون أفكاراً مغلوطة ظنوا أنها تخدع نظام الخوارزميات ومعايير تفاعل الجمهور مع المحتوى، من ثم زيادة عدد الإعجابات أيضاً. أضف إلى ذلك قصصاً وإشاعات مبالغاً فيها مبنية على تجارب شخصية وملاحظات غير موثوقة، تنصحك بأن تتجنب أفعالاً محددة على المنصات الاجتماعية لأنها ربما تؤدي إلى نتائج سلبية. قال الناس: “لا تدخل أي تعديلات إلى المنشور بعد نشره، لأنه سيخفض عدد الإعجابات” [على اعتبار أنه لا يتناسب مع الخوارزميات التي تحدد مدى وصول المحتوى إلى الجمهور]. “انشر المحتوى في الساعة 2 صباحاً بتوقيت غرينتش كي يصل إلى الجمهور الأميركي”؛ “لا تنشر أبداً يوم الإثنين” [على اعتبار أن المستخدمين يكونون أقل نشاطاً على هذه المنصات في بداية الأسبوع].
شخصياً، بدأت أشعر بالإحباط والانزعاج من علاقتي مع وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً عندما صارت آخر التحديثات التي تصلني على حائطي الافتراضي تفيض بمنشورات لنساء فاحشات الثراء، يتباهين ببشرة لونتها أشعة الشمس بسمرة لافتة وبأجساد متناسقة (يرتدين عادة قبعات من القش واسعة الحواف وفساتين فضفاضة مريحة)، ويستعرضن لقطات من إجازاتهن المترفة والمبهرجة. كنت طالبة، والنقود في جيبي بالكاد تشتري طبقاً من “النودلز”، ولن أكون صادقة إذا ادعيت أن مقارنة نفسي بهن لم تجعلني أشعر بالنقص أحياناً. لماذا لم أسافر حول العالم؟ لماذا لم أتمتع بعضلات بطن مشدودة وجذابة؟
وكان ذلك كله قبل أن تبدأ وسائل التواصل الاجتماعي في تحقيق شعبية منقطعة النظير. يواجه الأفراد اليوم صعوبة كبيرة في تحقيق النجاح أو التميز، ما يبعث على الشعور بالعجز والإحباط. كذلك من الصعب جداً الحصول على المستوى نفسه من الجذب على المنشورات في الوقت الحاضر، ولهذا السبب على الأرجح يشعر المستخدمون الذين اتخذوا من صناعة المحتوى على المنصات الاجتماعية مهنة لهم ومصدر دخل بضرورة الذهاب إلى أقصى الحدود لتحقيق إنجاز ما. أشعر بالأسف تجاههم.
ولكن أتمنى أن يفهموا أن هذه التفاعلات الرقمية وتلك الشخصيات الافتراضية التي صنعوها لأنفسهم عبر الإنترنت ليست حقيقية، ولا تعكس قيمتهم الذاتية. إنهم يخدعون أنفسهم بالاعتقاد بأنهم يتمتعون بشعبية كبيرة وجاذبية وبأنهم محبوبون، بناء على تعليقات أو تفاعلات عابرة من أشخاص غرباء. في نهاية المطاف، منشورهم ليس سوى منشور واحد من بين منشورات كثيرة مر عليها الآخرون مروراً عابراً في تلك اللحظة، وهذه التفاعلات لا تحمل أية قيمة حقيقية.
في رأيي، وسائل التواصل الاجتماعي مكب نفايات. تفيض بصور ومقاطع فيديو لا نهاية لها، وكلها تؤول إلى المصير نفسه، بغض النظر عن التفاعلات القصيرة الأمد بين المستخدمين. كل المنشورات يكون النسيان نهايتها. إنها لا شيء، بل إنها غير موجودة أصلاً بأي معنى أو شكل دائمين. لا يسعك أن تحفظها في صندوق ذاكرة يفتحه أطفالك في المستقبل.
كذلك عليك أن تأخذ في الاعتبار أموراً مثل تغييرات الخوارزميات وتحديثات المنتجات وقرارات رؤساء شركات التكنولوجيا العملاقة. بصفتك مؤثراً، تبقى دائماً تحت رحمة قراراتهم. لذا، لست أفهم لم عساك تخاطر بحياتك من أجل إنشاء محتوى ربما لا يحصل حتى على الوقع المطلوب. لماذا تهدر حياتك الجامحة والثمينة على مارك زوكربيرغ؟
ولكن ما الحل؟ حسناً، مثلما يتحكم رؤساء التكنولوجيا في ظهور أنواع معينة من المحتوى على المنصات الاجتماعية الافتراضية، في مقدورهم أيضاً تحديد المحتوى الذي يجب أن يتعرض للحظر أو العقوبة [مما يمنحهم سلطة كبيرة في توجيه سلوك المستخدمين]. في اعتقادي، عليهم أن يبذلوا جهداً أكبر من أجل منع السلوكيات الخطرة وتثبيطها (ولا يكفي أن يضع “تيك توك” تحذيراً يقول إن الأشخاص في الفيديو “محترفون”).
يكمن الحل الأمثل في أن تفرض هذه الشركات أيضاً حظراً على وسائل التواصل الاجتماعي أشبه بما صورته رواية الخيال العلمي (التي تحولت أيضاً إلى فيلم بالعنوان نفسه) “ريدي بلاير وان” Ready Player One، يكون عبارة عن يوم كامل يمنع فيه الجميع من تسجيل أي دخول إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ويضطرون إلى عيش الحياة الواقعية برمتها والانخراط في العالم الحقيقي، ولكن يبقى هذا احتمالاً بعيد المنال تماماً كما احتمال اندثار وسائل التواصل الاجتماعي.
في الأقل، يجب أن يتثقف الناس حول الأخطار والآثار السلبية التي تطرحها وسائل التواصل الاجتماعي في الصحة منذ سن مبكرة. ويتعين عليهم أن يتعلموا أن العيش من خلال العدسة لا يصنع حياة حقيقية، وأن مشاركاتهم ومحتوياتهم، حتى لو كان الغرض منها تبادل الاهتمامات والأفكار والتواصل في “مجتمعاتهم” الإلكترونية، من شأنها أن تخلف عواقب وخيمة.