حرية ـ (28/10/2024)
يبدو أننا ومن دون إدراك ووعي أصبحنا نعيش فعلياً في عالم “أورويلي”. ففي حين كان من الممكن كشف المراقب والشك بوجوده ولو بعد حين، أصبح اليوم ذاك المراقب المتخفي صديقك المقرب الذي يرافقك في كل خطوة وموقف وحالة، بل إنه تطور ليصل إلى نسخة يتفوق فيها عليك شخصياً في الأداء والذكاء والسرعة والكفاءة في معظم الأحيان.
في الحقيقة نحن محاطون بكمٍ كبير من الجواسيس الإلكترونية على هيئة شرائح دقيقة الحجم مزودة ببطاريات ذات كفاءة عالية تزودها بالطاقة اللازمة للتنقل من دون أسلاك، مع ميزة إعادة التزود بالطاقة التي نحرص بأنفسنا على شحنها في كل مرة تعاني فيها من انخفاض طفيف في الطاقة، كما أننا ممتنون بعمق لمن زرعها في حياتنا، ولمن يقول إنه سيزرعها في رؤوسنا أيضاً.
شرائح ذكية في كل مكان، في هواتفنا المحمولة وحواسيبنا والألواح المحمولة والسماعات اللاسلكية والساعات وحتى أجهزة الصحة، والسؤال هنا: أليس هذا هو العالم الذي حذر منه جورج أورويل يوماً ما؟
بين الحقيقة والخيال
و”الأورويلية” هي صفة تصف موقفاً أو فكرة أو حالة مجتمعية حددها جورج أورويل على أنها مدمرة لرفاهية المجتمع الحر المنفتح ومصالحه، وتشير إلى سياسة غير سلمية للسيطرة بقسوة من خلال الدعاية والمراقبة والتضليل وإنكار الحقيقة والتلاعب بالماضي، والتدقيق الشديد والتقييد للحريات على اختلاف أنواعها، كما تشمل التنصت على مجموعة بالكامل أو جزء كبير منهم، بهدف متابعتهم وضبطهم وهذا نوع من المراقبة الجماعية.
ورواية جورج أورويل 1984 تنبه قراءها إلى أخطار المراقبة الجماعية، إذ تدور أحداثها الديستوبية في عالم خيالي يسيطر فيه حزب واحد يراقب ويعلم كل ما يدور حوله باستمرار. وهنا غالباً ما يُستشهد بالمراقبة الجماعية باعتبارها ضرورة لمكافحة الأعمال التخريبية ومنع الجريمة والاضطرابات الاجتماعية وحماية الأمن القومي وضبط سلوكيات السكان، وفي الوقت نفسه، غالباً ما تنتقد المراقبة الجماعية لانتهاكها حقوق الخصوصية وتقييد الحقوق والحريات المدنية والسياسية، إضافة إلى كونها غير قانونية بموجب بعض الأنظمة.
وفي عصرنا الحديث، تم التشكيك في ممارسة المراقبة الجماعية من قبل حكومات العالم بعد كشف إدوارد سنودن عن ممارسات المراقبة العالمية لعام 2013 من قبل وكالة الأمن القومي، وسرّب إلى الصحافة تفاصيل برنامج التجسس “بريسم” ومواد مصنفة على أنها سرية للغاية لدى وكالة الأمن القومي. وأثارت التقارير المستندة إلى الوثائق التي سربها سنودن إلى وسائل الإعلام المختلفة، جدلاً حول الحريات المدنية وحقوق الخصوصية في العصر الرقمي.
اتصالات الجيل الخامس التي ستوفر خط توصيل البيانات
الشركة الأكثر “أورويلية” على مر العصور
واليوم تعتبر المراقبة الجماعية قضية عالمية، ويحذر مقال نشرته “بيزنس إنسايدر businessinsider”، أن “أوبن أي آي” OpenAI ستكون الشركة الأكثر “أورويلية” على مر العصور. فبحسب جاري ماركوس، خبير الذكاء الاصطناعي وأستاذ علم النفس والأعصاب في جامعة نيويورك، الشركة التي تتبنى سباق التسلح العالمي بالذكاء الاصطناعي على وشك تحويل ما تخيله أورويل إلى حقيقة.
وصرح ماركوس في مناقشة مع بيتر نورفيغ، وأحد الخبراء المخضرمين في “غوغل”، أنه سيتم الضغط على شركة “أوبن أي آي” لكي تصبح شركة مراقبة. وفي حين أن الشهرة الكبيرة التي اكتسبتها الشركة اعتمدت في الأساس على منح الشركات إمكانية الوصول إلى نماذج الذكاء الاصطناعي وموارده، يعتقد ماركوس أنها لن تظل قادرة على كسب أموال كافية بهذه الطريقة لأن التكنولوجيا ليست متقدمة بما يكفي، لكن هناك طريقة أخرى لكسب المال وهي المراقبة.
وميزة الذكاء الاصطناعي الأهم التي تتركز في قدرته على تجميع كميات هائلة من البيانات بسرعة مذهلة، ستساعد أي شخص يدفع لفحص البيانات والحصول عليها، بخاصة إذا كانت وكالة حكومية تهدف لمتابعة تحركات مواطنيها أو حملة سياسية تستهدف ناخبين محددين، وبذلك لدى “أوبن أي آي” فرصة لتصبح شركة مراقبة قوية للغاية.
وكانت قد أثيرت مخاوف من إمكانية استخدام تقنيات OpenAI لتعزيز جهود المراقبة في يونيو (حزيران) الماضي، عندما أعلنت “أوبن أي آي” أنها عينت مدير وكالة الأمن القومي السابق بول ناكاسوني في مجلس إدارتها، الأمر الذي أثار موجة من الانتقادات.
وفي هذا الصدد وصف “سنودن” هذا التعيين في منشور له على منصة “إكس” بأنه “خيانة مدروسة لحقوق كل شخص على وجه الأرض، وبأن تقاطع الذكاء الاصطناعي مع محيط بيانات المراقبة الجماعية، التي كانت تتراكم على مدى العقدين الماضيين، من شأنه أن يضع سلطات رهيبة في أيدي قلة غير مسؤولة”.
GEOINT Singularity
وفي السياق ذاته، تصف شركة الفضاء الأميركية حدثاً في المستقبل القريب، أطلقت عليه GEOINT Singularity، سيتم بواسطته مراقبة كل شيء على الأرض وفي جميع الأوقات، وتحليله بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعي، ثم إعادة توزيعه وإتاحته لعامة الناس على مستوى العالم في الوقت الفعلي.
وكلمة GEOINT هي اختصار لـ Geospatial Intelligence، ويصف هذا المفهوم مستقبلاً افتراضياً تتقدم قدرات الاستخبارات الجغرافية المكانية في توفير معلومات كاملة، كما ستتم بعد ذلك مراقبة النشاط البدني على سطح الأرض وتحليله وإتاحته في الوقت الفعلي، ليتم استخدام المعلومات المجمعة من قبل الحكومة والشركات والأفراد لاتخاذ القرار وفقاً لها.
وكان قد طرح المفهوم للمرة الأولى في دراسة لجوزيف كولر، المستشار الأول السابق لسياسة الفضاء في مكتب وزير الدفاع، أطلق عليها “مستقبل الاستخبارات الشاملة في الوقت الفعلي”، التي تفترض مستقبلاً (ليس ببعيد) سيتحقق فيه تفرد للاستخبارات الجغرافية المكانية من خلال التقارب بين ثلاثة اتجاهات رئيسة، الأول هو انتشار تقنيات الاستشعار عن بعد (مثل الأقمار الاصطناعية والطائرات من دون طيار وأجهزة الاستشعار الأخرى)، والثاني يمثله الاستخدام المتزايد لتحليلات الذكاء الاصطناعي لمعالجة وتحليل مجموعات البيانات الكبيرة، أما الاتجاه الثالث فهو توسع شبكات الاتصالات (مثل الاتصال واسع النطاق من الفضاء)، بحيث سيؤدي تقارب هذه الاتجاهات في النهاية إلى مراقبة وتحليل جميع الأنشطة البدنية على سطح الأرض. والواقع أن نتائج الاقتراب من تطبيق هذا المفهوم ليست مدركة بشكل كامل حتى الآن، ولكن في حين أنها قد تشمل تحسينات في الزراعة والاستجابة للكوارث ومراقبة البيئة، إلا أن هناك أيضاً مخاوف بشأن العواقب السلبية المحتملة والمتعلقة بالخصوصية والأمن وإساءة استخدام المعلومات بشكل عام.
لا شيء سيتوارى عن الأنظار
وتشير الدراسة إلى صعود الأبراج الكبيرة التي تحمل أقمار الاستشعار عن بعد والقدرات التي تتراوح بين التصوير بالرادار ذي الفتحة التركيبية والتصوير الليلي والتصوير بالأشعة تحت الحمراء، إلى جانب تحليلات الذكاء الاصطناعي التي تسمح بدمج البيانات من أجهزة استشعار مختلفة ومعالجتها وجعلها مفيدة لحاجات مستخدم معين على الأجهزة المحمولة في جميع أنحاء العالم، والممكّن لكل هذا هو اتصالات الجيل الخامس التي ستوفر خط توصيل البيانات اللازم للوصول إلى المستخدمين على مستوى العالم بسرعات النطاق العريض. وتلاحظ الدراسة الفرص الهائلة المتاحة للاستخدامات المدنية والتجارية وحتى العسكرية، على سبيل المثال ستتمكن الولايات المتحدة الأميركية من تتبع منصات إطلاق الصواريخ النووية المتنقلة لكل من روسيا والصين على مدار الساعة ومن دون انقطاع.
وفي الوقت ذاته وبنفس القدر، يمكن أن تهدد هذه التطورات الأمن القومي الأميركي وتطرح أخطاراً لا حصر لها، إذ يمكن للخصوم أيضاً تعقب تحركات المعدات العسكرية الأميركية وحلفائها، واكتشاف أنماط التدريب والعمليات، فيمكن للتصوير فوق الطيفي تحديد التركيبات الكيماوية، وللتصوير بالأشعة تحت الحمراء ذات الموجة القصيرة الرؤية عبر السحب، كما يمكن لبعض أجهزة الاستشعار التصوير في الليل.