حرية ـ (3/11/2024)
رفيق خوري
تعددت الحروب والحيلة واحدة: لجوء إلى “التطريز” اللغوي للخلط بين النصر والهزيمة.
بعد حرب 1948 شاع تعبير “النكبة”، بعد حرب 1967 جاء تعبير “النكسة”، حرب 1973 أعادت تعبير “النصر”.
خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 لم يمنع قادة المنظمة من رفع إشارة “النصر”، حرب 2006 مع إسرائيل وضعها “حزب الله” في خانة “النصر الإلهي”.
والسؤال الآن هو عن التعبير الذي سيتم تطريزه بعد حرب غزة وحرب لبنان الثالثة، لكن التعابير لا تختصر الواقع.
حرب 1948 كانت هزيمة للجيوش العربية التي دخلت فلسطين لمنع قيام إسرائيل فانتهت إلى اتفاقات هدنة معها، قياداتها السياسية لم تقرأ الحسابات والمصالح الدولية، وبعضها كان في تفاهم سري مع الصهاينة، وقياداتها العسكرية خاضت المعارك بأعداد أقل بكثير من أعداد منظمة “الهاغاناه”.
الدكتور قسطنطين زريف حاول أن يشرح في كتاب “معنى النكبة” وسواه استغرب التعبير، لأن النكبة تحدث مرة واحدة في حين أن هزيمة العرب في فلسطين مستمرة ومتكررة.
حرب 1967 كانت هزيمة ساحقة، لكن الحزب الحاكم في دمشق ابتكر معادلة قوامها “خسرنا الأرض والمهم بقاء النظام”، والرئيس عبدالناصر وبقية القادة العرب بدأوا التحضير للحرب المقبلة، ولكن بخفض السقف والانتقال من تحرير فلسطين إلى “إزالة آثار العدوان” والعودة إلى حدود قبل حرب 1967.
نصر أكتوبر (تشرين الأول) كان مزيجاً من النصر والهزيمة: خصوم الرئيس السادات سموا حربه “حرب تحريك لا تحرير”.
العبور المصري لقناة السويس وتدمير ألوية إسرائيلية في سيناء، قابله عبور الجنرال شارون المعاكس إلى الضفة الغربية وصولاً إلى “الكيلو 101” على طريق القاهرة، والاندفاع السوري نحو جبل الشيخ تلاه تراجع تحت ضغط الهجوم الإسرائيلي المعاكس إلى سعسع. وما حدث على الجبهتين هو اتفاقات فك الارتباط قبل معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
اجتياح 1982 كان خسارة قادت بعد أعوام إلى ربح هزيل في “اتفاق أوسلو” و”النصر الإلهي” في حرب 2006 قاد إلى القرار (1701) وهدوء الجبهة اللبنانية حتى حرب “الإسناد” في الثامن من أكتوبر 2023، ومن المبكر تسجيل حكم نهائي على حرب غزة ولبنان، لأنها مستمرة ومرشحة للتحول حرباً شاملة تدخل فيها إيران وأميركا.
ذلك أن التدمير الوحشي الذي تمارسه إسرائيل في غزة ولبنان لبس كل المشهد، فالحرب ليست بين جيوش دول بل بين جيش دولة وفصائل مسلحة في غزة ولبنان من خارج الشرعية الفلسطينية والشرعية اللبنانية، في مثل هذه الحرب لا شيء اسمه ربح كامل أو خسارة كاملة.
يقول العالم السياسي الفرنسي برنار بادي أو “بديع” الإيراني الأصل إنه “لا حرب لا متماثلة منذ 1973 بين دولة استعمارية ومقاتلين يعبرون عن تطلع مجتمعات للتخلص من الاحتلال والسيطرة الاستعمارية أدت إلى انتصار الدولة في النهاية”.
وهو يسجل “نهاية الجيوبولتيك” و”نهاية لعبة الأمم” والحروب التي يقال إنها بقرار من ملوك ورؤساء، لكن أكاديمياً صينياً معاصراً يرى أن “الجيوبولتيك” اليوم هو صراع من “أجل البقاء”.
وإذا كان فرنسيس فوكوياما قد سارع إلى إعلان “نهاية التاريخ” بعد سقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي، فإن أستاذ الفلسفة في جامعة أوكسفورد، ويليام ماكاسكيل، يتحدث بالعكس عن “بداية التاريخ” ويرى أن “الإنسانية اليوم طفل ينمو، ونحن واحد من أول أجيال التاريخ”.
أما في العالم العربي، فلا بداية ولا نهاية للتاريخ، مجرد تكرار وإعادة تدوير الأحداث والأزمات والحروب، وأما الذين يتنطحون لصنع التاريخ، فإنهم يعيشون في فانتازيا تدفع ثمنها الشؤون.
المؤرخ مالكولم كير يسجل ملاحظة مهمة في كتابه “الحرب العربية الباردة”، وهي نهاية رحلة الحروب الأيديولوجية الباردة العابرة للحدود، والانتقال إلى التركيز على البقاء”، لكن ذلك كان قبل الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني في إيران وسجّل نصاً في الدستور يكلف الحرس الثوري مهمة “نشر الثورة” في المنطقة والعالم، وهذا ما قاد إلى حرب أيديولوجية باردة بين طهران وعواصم عربية، كما إلى حرب أيديولوجية حارة مع إسرائيل، بعدما تخلى العرب عن الحرب الأيديولوجية مع إسرائيل، وقدموا في قمة بيروت العربية عام 2002 مبادرة عربية للسلام قوامها الانسحاب إلى حدود 1967 وقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع عاصمتها القدس الشرقية في مقابل الاعتراف بإسرائيل وإقامة كل أنواع العلاقات معها.
لم تكن “اتفاقات أبراهام “بعد ذلك سوى ذهاب إلى أبعد في نهاية الحروب الأيديولوجية وفتح العلاقات مع إسرائيل من دون قيام دولة فلسطينية، ولا كان رفع إيران شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، بصرف النظر عن التطبيق، سوى إعادة قوية للعامل الأيديولوجي في الصراع مع إسرائيل.
والمشكلة هي أن “إدارة الحرب تبدلت بسبب التطور التكنولوجي في الأسلحة، فالمدنيون هم أكثر الضحايا في حرب الصواريخ والمسيّرات والغارات الجوية، فيما الخسائر العسكرية أقل بكثير، وإذا كانت “وول ستريت جورنال” قد نسبت إلى يحيى السنوار قوله إن موت المدنيين الفلسطينيين هو “تضحيات ضرورية”، فإن “محور المقاومة” كله يتصرف على أساس أن تضحيات المدنيين هي “ثمن النصر”، وليس سراً أن زعيماً فلسطينياً كبيراً كان يقول في نهاية الستينيات من القرن الماضي “عاوز شهدا”.
والأخطر من أخطار الحروب على كثرتها، هو السعي وراء الأهداف القصوى وتصور القدرة على تحقيقها بالقوة، من تحرير فلسطين التاريخية إلى إقامة إسرائيل الكبرى، ومن إلحاق العالم العربي بولاية الفقيه إلى رهان الصغار على دعم الكبار الكامل لهم في تحقيق أحلام ليست في مصلحة الكبار، ونحن في حرب الأهداف القصوى، لا أحد يعرف أين وكيف وبماذا وعلى ماذا تنتهي، والمفارقة أن الكبار يتحدثون عن “عالم اللايقين” فيما يبني الصغار لأنفسهم عالم اليقين الخادع.