حرية ـ (12/11/2024)
على مر العصور ظل نهر النيل شاهداً صامتاً على تطور الحضارة المصرية القديمة، محتفظاً بأسرار غائرة في أعماقه بعيدة من متناول الأيدي، كنوز مغمورة تحمل في طياتها مفاتيح قد تعيد كتابة فصول من تاريخ مصر القديم.
محاولة للتنقيب في هذا العالم المليء بالخفايا والأسرار، تزيح الستار عن أسباب تعطل العمل الأثري في نهر النيل على مدى 16 عاماً، إذ يرجح مسؤولون واختصاصيون في الآثار الغارقة ذلك إلى نقص التمويل، والافتقار إلى المعدات الحديثة، وتراكم طمي النيل عبر الزمن، مما يعوق العمل الأثري تحت مياه النهر.
توقف العمل 16 عاماً
عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس الذي كان مسؤولاً عن أول عملية غوص للكشف عن الآثار في نهر النيل عام 2008، تحدث لـ”اندبندنت عربية” قائلاً، إن النيل يضم آثاراً فريدة تتطلب لاكتشافها عملاً جاداً وتقنيات متطورة مثل السونار والمسح الدقيق، لأن الطمي يطمس كل شيء تحت الماء. وأكد ضرورة تشجيع البعثات الأجنبية لاستئناف البحث.
توقفت أعمال البحث عن الآثار في النيل لقدم المعدات
العثور على آثار فرعونية غارقة في النيل أمر طبيعي، وفقاً لحواس إذ كانت المسلات والتماثيل تنقل عبر النهر، وأدت حوادث عديدة إلى غرق بعضها. وذكر حادثة وقعت عام 1881 حين غرقت سفينة محملة بمسلتين قرب معبد الأقصر، ولا تزال السفينة ومحتوياتها تحت مياه النيل حتى اليوم، مما يؤكد أن النيل لا يزال يحتفظ بكنوز من الحضارة الفرعونية.
معوقات لوجيستية
يغوص الرئيس السابق للإدارة المركزية للآثار الغارقة في مصر أسامة النحاس في المعوقات التي تقف حائلاً أمام العثور على الآثار المغمورة بنهر النيل، موضحاً أن العمل توقف بعد عام 2008 نتيجة نقص التمويل، والأحداث السياسية المتلاحقة، وتحديات عديدة، أبرزها ثقل المياه نتيجة تراكم الطمي.
وأكمل النحاس، “الحفائر تحت المياه النيلية تختلف تماماً عن تلك في البحر، ففي البحر يمكن سحب الرمال من القاع، أما في النيل فإن الطمي المتراكم يزيد من صعوبة الوصول إلى الآثار”.
ما تفتقده وزارة الآثار لاستكمال مثل تلك المشروعات يتطرق إليه المتخصص في التراث بمنظمة “إيسيسكو” بقوله، “نحتاج إلى توفير أجهزة ومعدات حديثة مثل السونار، وأجهزة (جي بي أس)، ورادارات تحت المياه لاختراق قاع النهر”. وأشار إلى أن مجرى النيل تغير عبر العصور، مما يشكل عائقاً أمام الوصول إلى الآثار المغمورة، لافتاً إلى واقعة السفينة الغارقة في نهر النيل التي كانت تحمل المسلات. وقال إن هذه السفينة أصبحت الآن تحت الأرض وليس تحت المياه بسبب تغير مجرى النيل وطمس المناطق المحيطة بها.
أجهزة متهالكة
يتفق عماد خليل، مدير مركز الآثار البحرية بجامعة الإسكندرية وأستاذ كرسي “يونيسكو” للتراث الثقافي المغمور بالمياه، مع الرأي السابق، موكداً أن “البحث عن الآثار الفرعونية في نهر النيل ليس بالأمر السهل، إذ إن الرؤية تحت سطح النهر سيئة للغاية، وتياراته قوية، مما يتطلب غواصين محترفين ذوي خبرة”.
وذهب خليل إلى الأسباب التي تعطل البحث عن كنوز نهر النيل الغارقة قائلاً “لم ننفذ في نهر النيل مشروعاً موسعاً حتى الآن، كانت مجرد محاولات محدودة على مدار الـ16 عاماً الماضية، والبحث في النهر يتطلب أجهزة حديثة ومتطورة لتقديم قراءات دقيقة”.
“نهر النيل يعد من المصادر الغنية بالآثار المغمورة التي يمكن اكتشافها، مما يستدعي توفير أجهزة متخصصة للكشف عن الآثار المغمورة، مثل أجهزة الاستشعار من بعد، التي ستكون ضرورية للبحث في الأعماق الكبيرة للنهر، وإذا توفرت الإمكانات المناسبة، سيكون من الممكن العثور على أجزاء من معابد ومنشآت قديمة ومسلات في أعماق النيل”.
يحتاج الأثريون المصريون أجهزة الاستشعار من بعد حديثة لتحديد موقع الآثار المغمورة
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، بدأت مصر مشروعاً جديداً محدوداً بالتعاون مع جامعة فرنسية لتوثيق النقوش الصخرية في بحيرة الخزان الواقعة بين خزان أسوان والسد العالي. وأسفر ذلك عن اكتشاف نقوش ملكية وخراطيش لملوك من عصور مختلفة.
أسرار مغمورة
ومن أجل الإلمام بتفاصيل أكثر دقة حول طبيعة الآثار الغارقة بنهر النيل، قال كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار محمد مصطفى عبدالمجيد الذي شارك في عمليات الغوص الوحيدة للبحث عن الآثار الغارقة تحت مياه نهر النيل عام 2008، إن المشروع بدأ بناء على قرار من الدكتور زاهي حواس، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار آنذاك، بهدف البحث عن مسلتين غارقتين في نهر النيل منذ عام 1881، ولكن بعد مراجعة الأرشيف، تبين أن المسلتين تم إنقاذهما بعد عام من غرقهما، ليتم بعدها تحويل المشروع إلى استكشاف ميناء قديم كان يستخدم لنقل الجرانيت من أسوان إلى باقي أنحاء مصر.
وأضاف مصطفى الذي سبق أن تولى مسؤولية إدارة الآثار الغارقة، “استمر العمل في المشروع أربعة مواسم، شملت عمليات مسح واسعة بدأت من المنطقة القريبة من فندق كتاركت، مروراً بالضفة الشرقية لمدينة أسوان، وصولاً إلى جزيرة إلفنتين”. هذه العمليات أسفرت عن اكتشاف بقايا أسوار معبد ومقصورة تعود إلى عصر الملك بطليموس السادس قرب معدية النجع البحري، إضافة إلى مرساة حجرية وأجزاء من تجهيزات مركب بين جزيرة إلفنتين ومدينة أسوان.
زادت الفيضانات المتعاقبة من أعمال البحث عن الآثار قرب النيل (رويترز)
ومن بين الاكتشافات التي ذكرها مصطفى تجهيز استراحة للخديوي عباس حلمي الثاني، إضافة إلى آثار منقولة تعود إلى العصر الفرعوني، واكتشاف جزء من سور معبد بجزيرة إلفنتين، ومن المرجح العثور على نحو 300 قطعة منقوشة لبقية السور في نهر النيل.
وفي مقال سابق بعنوان “كنوز تحت مياه النيل”، قال الدكتور زاهي حواس، إن الفراعنة كانوا ينقلون أحجاراً ضخمة وتماثيل ومسلات عبر نهر النيل، ووصل وزن إحدى المسلات إلى نحو 121 طناً. وأكد أن هناك كنوزاً غارقة في النهر لا تزال موجودة حتى الآن.
وأضاف، “بدأنا في إعداد أول خريطة أثرية لنهر النيل، وعملنا في منطقتين الأولى قرب فندق كتاركت في أسوان، والثانية في منطقة جبل السلسلة”. وأشار إلى أن من أبرز الاكتشافات كان غرق مسلة صغيرة أسفل فندق كتاركت، إضافة إلى الرصيفين الشمالي والجنوبي لجبل السلسلة، إذ تحوي مياه نهر النيل عديداً من الكنوز الأثرية.
بينما يشير كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار إلى أن المشروع كان ممولاً من التلفزيون الفرنسي، وكنا نمتلك تجهيزات كاملة لتنفيذ العمل، بما في ذلك معدات الغوص والمراكب الخاصة بالمسح، فضلاً عن أجهزة سونار وتقنيات مسح متقدمة. ومع ذلك، يواجه الفريق تحدياً كبيراً الآن، إذ إن هذه الأجهزة قديمة ولم تعد صالحة للاستخدام حالياً، كما نحتاج إلى تحديث المنظومة الحالية بأجهزة سونار جديدة، إضافة إلى معدات قادرة على اختراق التربة، وهو ما نأمل الحصول عليه من مؤسسات داخل مصر أو من الخارج.
ظلت مياه النيل قرب الأهرام لقرون طويلة قبل انحصارها (رويترز)
ويلفت مصطفى إلى صعوبات أخرى تتمثل في تأثير الفيضان السنوي على القطع الأثرية الموجودة في نهر النيل، إذ يؤدي الفيضان إلى دفن عديد من القطع الأثرية في الرمال، بل وأحياناً يزيحها عن أماكنها الأصلية، مما يزيد من صعوبة العثور عليها أو تحديد مواقعها بدقة.
وختم حديثه قائلاً، “هناك عديد من الأسئلة التي نسعى للإجابة عنها، مثل كيفية بناء الأرصفة وكيفية نقل الحجارة عبر المياه، وما إذا كانت هناك نقوش على هذه الأرصفة، وحتى الآن، تم إخراج تسع كتل منقوشة من المقصورة، ونحن مستمرون في دراسة محتوياتها وتحليل النقوش لفهم سياق استخدامها وتاريخها بصورة أعمق”.