حرية ـ (17/11/2024)
عندما قال المتنبي: “أنام ملء جفوني عن شواردها، ويسهر الخلق جراها ويختصم”، لم يكن يقصد المعنى تمام القصد، فأنى لشاعر مثله ملأ الدنيا وشغل الناس أن ينام ملء جفونه، وأنى لنقاده وحاسديه أن يتركوه يهنأ بنوم أو رقاد، أو بلحظة سكينة؟
كان زمن المتنبي (915م -965م) مكتظاً بالتناقضات؛ فهو شهد نضجاً حضارياً وتفككاً سياسياً، وبروز نزعات انفصالية وتفسخات بنيوية جعلت الشعراء يتنافسون ويتصارعون ويتنبازون بالألقاب. وفي غمرة ذلك برزت طبقة من النقاد ومؤرخي الأدب الذين لم ينصف جميعهم شاعرية المتنبي وموهبته الاستثنائية، فكان رد أحمد بن الحسين، ما ورد في البيت السابق المعبر عن لامبالاته وتجاهله المناوئِين لقصيدته التي بلغ في مدحه لها أنه جعل الأعمى ينظر إليها، وأن كلماتها أسمعت من به صمم.
رُمي المتنبي كثيراً بحجارة “النقد” الذي كان يصدر عن هوى وعن استخفاف بشاعريته، حتى إن أبا هلال العسكري، وهو من مشاهير أدباء عصره، لم يحفل بأبي الطيب ولم يسمه في “كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر”، ولكن كنى عنه مرات عند التمثيل بالمستهجن من شعره. لم يخطف الانتقاد النجومية من المتنبي العابر للغة والثقافة والزمن، والحداثي الراهن بعد تعاقب القرون وتوالي الحقب. كما أن النقد لم يزد شعره متانة، ولا سبكه يفاعة، ولا حكمته تداولاً بين الألسن، كأنها تحاكي وجدان الإنسان وأحوال الدول في كل حين.
كتاب رولان بارت “موت المؤلف”
ولم يكن المتنبي استثناء بين المبدعين الذين تعرضوا لسهام النقاد واستخفافهم وتعاليهم، فالعلاقة بين الكاتب والناقد ظلت، تاريخياً، مشوبة بالحذر والتوتر، وساد الاعتقاد بأن النقاد سلطة أو “طبقة”، وأن لهم هيمنة على الذائقة العامة، وتشكيل المزاج الجماهيري.
هذه السلطة مارست طغيانها، فقتلت كاتبات وكتّاباً، وهزّت ثقة كثيرين بمنتجهم، ونزعت منهم اليقين بجودة ما صاغته ذائقتهم. كان يتعيّن أن تكون هناك سلطة فوق هذه السلطة التي كانت أحياناً لا تتورّع عن التوحش، حتى ساد اتجاه كان أبرز دعاته “الرافعي” الذي نقد “العقاد” بشراسة زاعماً أنّه “لا ينقد فقط وإنما يشوي ويُوجع ويكاد يحرق”، وجاء من بعده من يؤيّد هذا التوجّه السادي، قائلاً: “المبدع كالشيطان لا يحيا إلا بالرجم”!
الحاجة إلى النقد
ولعلّ الفكرة التي ترى أنّ حاجة الإبداع إلى النقد كحاجة الكائن إلى الهواء، هي واحدة من الأساطير التي سيطرت على الثقافة، وأنتجت طبقة متحكّمة، تتوهم بأنها ترفع وتنزّل، أي تُحيي وتُميت. الكتّاب والفنانون الحقيقيّون (كباراً كانوا أم صغاراً) صاغوا ملحمتهم بمعزل عن هذه السلطة، وتعاملوا معها بازدراء وتعالٍ. كانوا يصغون لها، لكنّهم لا يكترثون بما تقترحه. في لحظة التعافي والتصالح هذه نشأت الحريّة في الكتابة التي تشقّ الطريق برؤاها الحدسيّة العميقة.
“موت الناقد” بترجمته العربية
وتصعيداً لهذا الصدام بين الطرفين، ظهرت دعوات أدبية تنظّر لـ”موت الناقد” بعد “موت المؤلف” الذي رأى فيه رولان بارت ولادة للقارىء، وعزل النص عن منتجه، وانفتاح النص على تعدد القراءات والاجتهادات التأويلية. ورغم تراجع بارت، فيما بعد، عن “موت المؤلف”، إلا أن صاحب كتاب “موت الناقد”، الأكاديمي البريطاني رونان ماكدونالد ظل قابضاً على فكرته بأن في موت الناقد حياة للقارىء، من دون وصاية أو توجيه أو تنمر، حيث تصدعت سلطة الناقد إلى حد أن أصبح بمثابة “بائع ملابس مستعملة”.
ماكدونالد في كتابه، الذي ترجمه فخري صالح، يشير إلى الدور الهائل والخلاق الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة، مع الأخذ بالاعتبار أن النسخة الإنجليزية من كتاب (The Death Of The Critic) قد صدرت 2007، حين كان انفجار السوشيل ميديا في بداياته، ولم يكن قد مضى على انطلاق “فيسبوك” إلا سنوات قليلة، وكان في إطار ضيق ومحدود. لكن الوقائع اللاحقة أثبتت صوابية أفكار ماكدونالد من حيث أن النقاد تنحوا عن الطريق، مفسحين المجال، رغماً عنهم، لسلطة شعبية ديمقراطية تختبر ذائقتها، عبر المنصات المفتوحة، وتشكلها من دون وسطاء أو رقباء أو خبراء أو أوصياء.
إذاً، ما حاجة الإبداع إلى النقد، وهل يمكن أن يستقيم عودُ مبدعٍ بمنأى عن مساهمات النقّاد واقتراحاتهم؟
مأساة النقد، جلّه، أنه يعمل وفق “كتالوج”، يقوم على التصنيف، وعلى الاستقراء الرغائبيّ، وعلى الانتخاب الفوضويّ، لا سيما أنّ غالبية النقد العربيّ نشأ في غابة من المفاهيم المبهمة، إلى درجة لم يعد فيها المتلقي يعرف لماذا يرتقي هذا الكاتب ويتدنّى سواه، ووسط هذه الغابة نشأت المصالح وعلا صوت المال والزبائنيّة، إلى حد أنّ هناك “كتّاباً” يدفعون لـ”نقّاد” من أجل الترويج لهم، ودعوتهم إلى المهرجانات والمؤتمرات، وكتابة الأطروحات الجامعيّة عنهم.
وبعيداً عن الاستطراد، لا متّكأَ للمبدع إلا الناس، القرّاء، الجمهور، المتلقي الفطريّ الذائقة، غير المؤدلج ثقافيّاً، الذي يستقبل الكتابة بقلبه. صحيح أنّ الذائقة العامة، وهذا تعميم ناقص، مصابة بالإعياء، لكنّها تظلّ أكثر صدقاً من انطباعات “ناقد” أخفق في أن يكون مبدعاً، حتى ليصحَّ أن نردّد مع مَن يتهكّمون فيقولون إن الناقد كاتب سابق فاشل!
ورغم كل ما سبق فإن ثمة حلقة ناقصة تتمثل في كفاءة القارىء، وقدرة أدواته المعرفية على التمييز بين الغث والسمين. فالانطباعات العامة لا تكفي، والتفضيلات الشخصية لا تبني تصوراً مقنعاً عن أحقية القراءة أو عدمها، ما يمكن أن يوقعنا في مأزق الكتابة السطحية التي لا تتبثت من معايير الجودة، ولا تتقيد بنظام التعبير اللغوي، ولا تعبأ بالنحو والصرف والإملاء وعلامات الترقيم.
لا بد من وسيط ما يجسّر الهوة بين حرية الاختيار وجودة الاختيار، وهذا ما كان يتولاه “النقاد الراشدون” إن جاز التعبير. الآن بعد الجهر بـ”موت المؤلف” وتأبينه، ثم الاحتفاء بـ”موت الناقد”، فقد تُرك الحبل على الغارب، حيث لا يكفي التبشير بـ”ولادة القارىء” من دون أن نتساءل عن أحوال الولادة وظروفها والحاضنة التي سترعى هذا المولود.