حرية ـ (23/11/2024)
عبرعنوان مراوغ شرعت الكاتبة إنعام كجه جي رحلتها السردية، فالصيف السويسري الذي دارت خلاله الأحداث “أواخر الألفية الثانية”، لم يكن مرِحاً، ولا مبهجاً، وإنما كان فخاً سقطت فيه الشخوص، وهوت عبره إلى الطبقات الأعمق من الذاكرة، حيث تختبئ المأساة، ويتوارى تاريخ الألم.
ومع تجاوز عتبة النص الأولى، انطلقت الأحداث من دعوة تلقاها أربعة لاجئين عراقيين في أوروبا، للإقامة الصحية في مدينة بازل السويسرية، لتجريب عقار يستهدف الذاكرة، ويعمل على تخليصها من الإدمان العقائدي، والولاءات العمياء لفكرة أو أيديولوجية أو مذهب. وكان دافع اختيارهم كعينة للتجربة، أن كلاً منهم يعاني إدماناً لعقيدة ما. فـ”الحاتمي” مهووس بالقومية العربية، و”غزوان” غارق في التشيع، وتدمن “بشيرة” على اليسارية، و”دلاله” على التبشير.
الرواية الجديدة
وعلى رغم تنوع خلفيات الشخوص، وتعدد انتماءاتهم، فإن الكاتبة لم تحك نسيجاً بولوفونياً، ربما كان ليتناسب مع هذا التباين الأيديولوجي، والمذهبي، وإنما قررت أن تمنح صوت السرد لأحد أبطالها “حاتم الحاتمي”، ومعه راوٍ عليم. هذه الإجازة المدفوعة أتاحت تجاور شخوص منحدرة من مرجعيات متصارعة، في مكان واحد، وكان هذا التجاور التكئة الرئيسة، التي نهض عليها النص، ومنه عبرت الشخوص في رحلة عكسية إلى الماضي، وهكذا استعادت فشل الأحزاب والجماعات التي انتمت إليها في التعايش معاً وقبول بعضها البعض، بل إن تناحرها كان بمثابة المعول الذي هدم الوطن. هكذا ومن دون مواربة ألقت الكاتبة مسؤولية انهيار العراق على الأيديولوجيات المتصارعة، التي لم تضع للاختلاف سوى معنى الخصومة، والفرقة، والشقاق. وكانت المفارقة اللافتة أن اللاجئين الأربعة، تمكنوا من التعايش في إقامتهم الصحية، على النقيض من جماعاتهم، التي أحرقت صراعاتها تاريخ العراق، وحاضره، ومستقبله!
فانتازيا الوفاق
في بدايات رحلتها السردية، شيدت الكاتبة مستعينة بالفانتازيا مقهى سمته “مقهى الوفاق”، جمعت عليه شخصيات مؤثرة في تاريخ العراق، مثل الملك غازي، نوري السعيد، عبدالكريم قاسم، صدام حسين، السيد الصدر وغيرهم. وأكدت عبر هذا التجاور الذي جمع بين شخصيات متباعدة زمنياً وفكرياً، رؤاها حول كلفة العداء والصراع، التي تحملتها البلاد، “كأن مقهى الوفاق صهريج تنصهر فيه العداوات، يصبح اللامعقول معقولاً، تجف سواقي الدم التي لوثت دجلة وعكرت الفرات، سممت أسماك الشبوط ولوت أعناق النخيل” ص 13.
الروائية إنعام كجه جي
واتساقاً مع قضيتها الرئيسة حول التعصب العقائدي حدَّ اقتراف الجرائم والشرور، طرحت الكاتبة عدداً من القضايا الأخرى، التي أرقت المجتمع العراقي ولا تزال، مثل تأليه الحاكم، شيوع مناخ التآمر والوشايات، الخوف والنفاق السياسي، احتكار الحقيقة والصواب، ممارسة العنف والوحشية والتعذيب إزاء الآخر المختلف، التجارة بمفردة “الشعب” واستخدامها مسوغاً للعنف والملاحقة والفساد. وكان هذا الواقع الملغوم الذي انحدر منه اللاجئون الأربعة، وما كانوا يحملونه من ولاء وطاعة عمياء لأحزابهم المختلفة، دافعاً لتوجس الآخر الأوروبي، مما دفع به لتنظيم رحلة، تساعد في الكشف عن مدى مقدرتهم على التعايش في مجتمعهم الجديد، وإمكانية محو ولاءاتهم العمياء.
جدلية الأنا والآخر
فرض اختيار الكاتبة مدينة بازل السويسرية كي تكون فضاء مكانياً لسردٍ، قضيته الرئيسة هي العراق، بروز ثنائية الأنا والآخر، وحضور المقارنات بوجهيها الضمني والصريح، التي أسفرت تارة عن انحياز لذاك الآخر، وتارة أخرى عن إدانته، فحين راحت تصف جمال المدينة الأوروبية، نظافتها، ونظامها، ووعي سكانها بالحفاظ على النهر وعدم تلويثه؛ أحالت ضمناً لنقيض تلك الصورة في بلاد، تحاشت مراراً وصفها بالوطن، ترتع فيها العشوائية، والفوضى، واللاوعي، واللااعتناء بالنهر.
ولم تكتف بالمقارنة الضمنية، بل أبرزت عبر الأحداث مقارنة صريحة، رصدت من خلالها ثنائيتي الصدق والخداع، الغش والأمانة، “كان هاتفه قد تعطل وخرج في العصرية يبحث عن مكان لتصليحه، تناول صاحب الدكان الجهاز الذي انغلق فجأة ولم يعد يضيء، عالجه ببضع لمسات فعاد إلى العمل، أراد أن يدفع إليه فامتنع العامل وهو يبتسم، قال إنه لم يفعل شيئاً، تعجبه الأمانة ولعله يفتقد الغشاشين” ص 63. وكما قارنت الكاتبة بين معاطف أوروبية متروكة بلا حارس، وأحذية عربية تُسرق من أمام المساجد؛ قارنت بين وطن يمتهن أبناءه ويلفظهم، وشتات يحويهم ويصون كرامتهم.
لكن هذا الانحياز إلى “الآخر” تبدل في مواضع أخرى من النسيج وتحول إلى إدانة، عزز الفضاء المكاني وما احتواه من معالم، مناسبتها وتأثيرها. فالمبنى العتيق الذي شهد عقد الاجتماع الصهيوني الأول، وطرح هرتزل فيه فكرته عن تجميع اليهود من أنحاء العالم، وإنشاء وطن لهم على حساب الشعب الفلسطيني، استدعى إدانة “الآخر” الذي عاون الصهيونية على اغتصاب الأرض الفلسطينية، واستباحة كرامة أبنائها ودمائهم.
كذلك كان مبنى اتحاد المصارف السويسرية محفزاً لاتهام “الآخر” مرة أخرى بمعاونة الفاسدين الذين يفقرون شعوبهم، ويسرقون أموالهم، ويدخرونها في هذا المصرف. كذلك لم تعف الكاتبة الغرب من مسؤولية ما كان يحدث من تعذيب في السجون العراقية، حتى ذلك الذي كان يحدث بأيدي عراقيين، لا سيما أن بعض أساليب التعذيب، كانت مستوردة من فرنسا وألمانيا، وغيرهما من بلاد العالم المتحضر!
لا فكاك من الذاكرة
تقاسم الشخوص ذاكرة حية لم ينل منها الزمن، ولا عقار شركات الدواء السويسرية، وبخاصة في ظل تواطؤ منهم، بدا في تحايل أربعتهم على التجربة، وعدم التزامهم بها، معلنين ولاءهم لماضٍ استمرت رسائله في العبور إلى الحاضر، محمولة فوق رياح الذاكرة، تذكي النوستالجيا وتحولها إلى أزمة يتشاركونها، تدفعهم لمقارنة ما تركوه في أوطانهم وما وجدوه في البلاد الثانية، توهمهم أن شيئاً ناقصاً في مذاق الخضروات الأجنبية، تعطل تآلف “الحاتمي” مع مدينة منضبطة، تنتظر حافلاتها قراره بالعبور “بلا زمار، ولا إصبع نابية أو شتيمة”.
في حين يحلم وهو الميال إلى مرابع الفوضى “بنساء تلعلع ضحكاتهن في سكنات الليالي، يتفرجن من سطوحهن على سكارى يتبولون في عتمة الزوايا” ص9. هذه النوستالجيا ذاتها هي التي جعلت تعثر “دلاله” في غابة سويسرية، محفزاً لشعورها بافتقاد روائح بلادها، ومعالمها، عطر النارج في حدائق بيوتها الفسيحة، شلال بيخال، بحيرة الحبانية. وهي أيضاً النوستالجيا التي دفعت “حاتم” و”بشيرة” للإسراع بزيارة معرض فني يحمل اسم بغداد، وهي التي ألقت بهما في تنور الشجن، حين صادفا موسيقى عراقية فلكلورية. وهي التي حفزت استدعاء أمجاد الماضي، عند مشاهدة صورة ابن الهيثم في غرفة الفتاة اليابانية، التي شاركتهم النزل، وقرنت الاحتفال بتقاعد مديرة الدار بإعداد مأكولات عراقية، وحفزتهم عند النهر السويسري على استعادة مشهد نهر دجلة، الذي كانوا يبثونه شكواهم وآلامهم.
آثام وصراعات
لم تكن الذاكرة رافداً للحنين وحسب، لكنها كانت كاشفة وفاضحة، مما جعلها وقوداً لصراعات احتدمت في العوالم الداخلية للشخوص، إذ استمرت في مواجهتهم بخطاياهم، وآثامهم، فـ”الحاتمي” المدمن على العقيدة العروبية، شارك في حفلات إعدام أقامها حزبه، ولم يوقفه كون الضحية جاراً أو رفيقاً، ولم تثنه إحاطته بهيمنة مناخ عطن أفسدته الشكوك والوشايات. كما أن فراره لم يكن إلا محاولة للنزول من سفينة أوشكت على الغرق، أما “بشيرة” فكانت يساريتها معطوبة بأوهام الحب والبطولة، ولم يكن حملها عرضاً جانبياً، كما زعمت، للنضال. في حين أسلمت “دلاله” عقلها للعبث، وخذلت زوجها العطوف المحب.
أما “غزوان” فسعى مثل غيره إلى مجده الشخصي، متستراً بشعار الولاء للعقيدة. وأسهمت تلك الحقائق التي تكشفت عبر السرد، في مزيد من إدانة مبدأ الإدمان العقائدي، أو الولاء للعقيدة، والكشف عن سفهه وعبثيته. وعمدت الكاتبة لدعم رؤاها حول عبثية هذا الإدمان، عبر ما غذت به نسيجها من سخرية، “أطلق النار من سلاحه الحزبي مثل رجل آلي، أغمض عينيه لكيلا يرى الأجساد تنقصف، فتحهما وشاهد سواقي الدم، شم النجيع وهو يهتف بشعارات النصر مع الهاتفين، كأنهم عادوا فوراً من تحرير فلسطين” ص 50.
ومثلما أفسحت كجه جي مساحة للفانتازيا في بدايات رحلتها، جمعت عبرها بين شخصيات تاريخية متباينة في عقائدها، وأيديولوجياتها، وأزمنتها على “مقهى الوفاق”، عادت وجمعتهم مرة أخرى قبيل نهاية السرد. لكن المقهى في المرة الثانية، تخلى عن الوفاق لمصلحة الشقاق، وأدار المجتمعون عليه ظهورهم لبعضهم البعض، لتعكس الكاتبة عبر هذا التقابل الهوة العميقة بين الأحلام الرومانسية والواقع السوداوي المفجع، الذي يبدو أن لا أمل فيه للخلاص. وترصد المسافات الشاسعة بين دول تحبو، تواصل أحزابها وجماعاتها الجديدة سيرة التناحر والصراع، ودول أخرى تتقدم، ولا تنطفئ جذوة ثوراتها العلمية والتكنولوجية!