حرية ـ (23/11/2024)
حسن فحص
يتزايد الحديث داخل الأروقة الإيرانية الرسمية والدبلوماسية وحتى العسكرية حول أن منطقة غرب آسيا، وبخاصة منطقة الشرق الأوسط فيها، تمر في مرحلة دقيقة وكثيرة الحساسية نتيجة حال الانتظار الذي يشبه انعدام الوضوح في الرؤية لما ستكون عليه الأمور نتيجة المرحلة الانتقالية التي تمر بها عملية اتخاذ القرار في الإدارة الأميركية.
إيران ليست خارج دائرة هذا الانتظار، وقد تكون في مركز الاهتمام والمعنية أكثر من غيرها بتداعيات هذا الانتقال، وما قد يحمله من تداعيات من خارج التوقعات قد تضعها في مواجهة أخطار وجودية وكبيرة.
وعلى رغم هذا الاعتقاد فإن قراءة إيرانية تعتقد أن المرحلة الانتقالية الأميركية، وصولاً إلى تسلم الرئيس الجديد مهماته الرئاسية في البيت الأبيض، عليها التعامل مع حقائق جديدة تختلف عما أسست له خلال ولاية دونالد ترمب الأولى، وما أسهمت به سياسة الحصار القاسي الذي اتبعته ضد إيران وتركتها على حافة الانهيار، نتيجة تفاقم الأزمات الداخلية والتراجع الاقتصادي والمالي الناتج من العقوبات التي فرضت عليها.
وأول وجوه الاختلاف بين إيران في نهاية عهد ترمب الأول وبداية عهده الثاني ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من تطورات أمنية وعسكرية نتيجة المواجهة المفتوحة القائمة بين إسرائيل، الحليف الأول والأهم والإستراتيجي للولايات المتحدة، وبين القوى التي تدور في الفلك الإيراني أو تشكل الأذرع الإقليمية للمشروع الإيراني، أو ما يمسى “محور المقاومة”.
وعلى رغم اعتقاد هذه الأوساط بأن إدارة ترمب الجديدة لن تكون قادرة على العودة لممارسة السياسات والإستراتيجيات التي اعتمدتها في السابق تجاه إيران من حصار وزيادة وتيرة العقوبات المترافقة مع تعطيل كل إمكانات الحصول على المصادر المالية، والتي أدت إلى تراجع صادراتها النفطية إلى ما دون 400 ألف برميل يومياً، فضلاً عن حرمانها عائدات تجارتها الخارجية المالية وبخاصة في قطاع الطاقة، فإن صعوبة العودة لمثل هذه السياسات لا يعني، وبحسب اعتقاد هذه الأوساط، أن إيران ونظامها وحكومتها ستكون بعيدة من التأثيرات السلبية لأي موقف أميركي يدخل في دائرة تصعيد الضغوط ضدها، على خلفية الأحداث والتطورات الإقليمية التي لا تختلف أهميتها وحساسيتها مع اختلاف الإدارة في البيت الأبيض.
ما تراهن عليه طهران في مواجهتها للسياسات الأميركية المحتملة مع الإدارة الجديدة هو أن واشنطن باتت تدرك صعوبة الرهانات على المعادلات العسكرية التي كانت تتولى إسرائيل مهمة القيام بها وأنها لم تعد تملك التأثير الكبير والسابق، لأن إسرائيل باتت أضعف عسكرياً مما كانت عليه، وأن حاجز الردع الذي كانت تتمتع به انكسر عندما احتاجت إلى مساعدة أميركية وغربية لصد الهجوم المركب من صواريخ وطائرات مسيرة قامت به طهران في أبريل (نيسان) الماضي، رداً على عملية اغتيال عدد من ضباط حرس الثورة في القسم القنصلي لسفارتها في العاصمة السورية، ثم الضربة الصاروخية التي حصلت مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي رداً على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في طهران، واغتيال الأمين العام لـ “حزب الله” في بيروت.
وإيران المربكة والمعرضة للضرر لن تكون بالسوء الذي تواجهه وتعانيه تل أبيب جراء الحرب التي تخوضها على جبهتي لبنان وغزة، والفشل في تحقيق أهدافها المعلنة بالقضاء على حليفتها “حماس” وتدمير “حزب الله” وترسانته العسكرية، وانطلاقاً من هذه الرؤية فإن الاهتمام الإيراني على المستويين السياسي والدبلوماسي يتمركز حول محاولة توجيه رسائل للإدارة الأميركية الجديدة بإمكان التوصل إلى أرضية مشتركة للتفاهم، والتوصل إلى تسويات تشمل جميع الملفات الخلافية بينهما، تبدأ من البرنامج النووي وصولاً إلى التفاهم على صورة الحل والمعادلة التي من المفترض أن تكون عليهما منطقة الشرق الأوسط.
ويبدو أن القيادة الإيرانية تدرك جيداً وبوضوح حجم الضرر الذي قد تتعرض له في حال لجأت إلى أية خطوة غير مدروسة في هذه المرحلة الدقيقة، وأن إمكان خسارتها على المستوى الإقليمي وما يستتبعه من احتمالات عودتها لدائرة الحصار المرافق، مع تهديد كبير لاستقرارها الداخلي واستمرار النظام، تدفعها نحو اعتماد آليات أكثر حذراً تساعدها في الابتعاد من الوقوع في الفخ الذي يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جرها إليه.
ومن هنا يمكن فهم كلام المرشد الأعلى للنظام تعليقاً على الهجوم الإسرائيلي ضد عدد من المواقع العسكرية في محافظات طهران وإيلام وخوزستان، عندما دعا الجميع إلى “عدم التقليل من شأن الهجوم وعدم المبالغة في آثاره وخطورته وحجمه”، ومن هنا يمكن فهم الحراك الدبلوماسي الإيراني، سواء باتجاه دول الجوار العربي وتحديداً الخليجي، من خلال التواصل والتنسيق الدائم مع السعودية، فضلاً عن إعادة تفعيل قناة عُمان للحوار غير المباشر مع واشنطن، إلى جانب الدور الذي تقوم به السفارة السويسرية باعتبارها راعية للمصالح الأميركية في إيران بتبادل الرسائل والمواقف بين الطرفين، إضافة إلى تأكيد الاستعداد للانفتاح تجاه العواصم الغربية من خلال تأكيد إمكان إعادة الحرارة لمسارات الحوار والتعاون في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، وفي الوقت نفسه محاولة تثبيت مواقعها وأوراقها الإقليمية بإعادة تصدير صورتها الداعمة والمتمسكة بحلفائها، سواء في لبنان أو سوريا، من خلال الزيارة التي قام بها كبير مستشاري المرشد علي لاريجاني إلى دمشق وبيروت، ثم استتبعت بزيارة لوزير الدفاع عزيز نصير زادة إلى دمشق، ووزير الخارجية السورية بسام صباغ إلى طهران.
هذا الحراك يكشف أن الدبلوماسية تلعب دوراً محورياً خلال تلك المرحلة في القرار الإيراني، وقد برز ذلك بصورة واضحة خلال اللقاء الذي جمع وزير الخارجية عباس عراقجي مع مسؤولي وموظفي قيادة الأركان المشتركة لقوات حرس الثورة، والذي كشف حجم الدور الذي تمارسه الدبلوماسية في كبح جماح الميدان أو المؤسسة العسكرية التي باتت “تنتظر الإشارة من الدبلوماسية للقيام بالرد العسكري على الهجوم الإسرائيلي” في إطار عملية استعادة وفرض الردع الإيراني.
هذا التناغم بين الدبلوماسية والميدان وتأكيد عراقجي بأن الدبلوماسية من دون الميدان تصبح “بتراء”، وأن الميدان من دون الدبلوماسية “يخسر تأثيره”، جاءت ترجمته عبر المواقف التي أعلنها مساعده مجيد تخت روانجي من الرياض بأن باب الحوار والتفاوض مع واشنطن مفتوح بناء على الأسس التي تضمن الاحترام المتبادل وحقوق الطرفين، وأن إيران على استعداد للبحث في إمكان التوصل إلى اتفاق مع واشنطن حول المستجدات التي طرأت على برنامجها النووي، من دون المساس بالاتفاق الموقع عام 2015.