حرية ـ (23/11/2024)
رفيق خوري
كان وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتز يقول، “التركيز على الديموغرافيا أساسي لفهم العالم”. لكن العالم يهرب من فهم الديموغرافيا إلى القلق حيالها.
أميركا التي يتألف شعبها من لاجئين جاءوا إلى “العالم الجديد” من كل أنحاء العالم، لا سيما من أوروبا، تضيق باللاجئين الجدد. والرئيس ترمب يستعجل طرد 10 ملايين لاجئ “غير شرعي” كأنهم ليسوا بشراً تحت رحمة “قيصر الحدود” الجديد.
روسيا في مشكلة مع اللاجئين ومشكلة من دونهم. وأوروبا تشدد القيود على الهجرة على رغم الحاجة إلى مهاجرين. وأفريقيا التي تصدر أكبر عدد من اللاجئين إلى المنطقة والعالم على غرار أميركا اللاتينية تواجه مشكلة لا حل لها.
أوروبا في أزمة ديموغرافية، تحتاج إلى مهاجرين اقتصادياً واجتماعياً وتخاف منهم أمنياً وفي إطار الحفاظ على الهوية. هي تعاني نقصاً في الولادات، ومن ثم نقصاً بالأيدي العاملة. والمعادلة الشائعة التي يرفع علماء الاجتماع الصوت في التركيز عليها هي: إما زيادة الولادات، وإما قبول المهاجرين.
لكن ما تعمل له أوروبا هو ضبط ما تسميها “الهجرة الشرعية” التي تسمح بدرس حال كل طالب لجوء والبحث عن مواهب وطاقات، ومحاربة الهجرة غير الشرعية بكل الوسائل، وبينها دفع الأموال إلى تركيا ولبنان والأردن وتونس وسواها لإبقاء المهاجرين على أرض هذه البلدان وإقفال باب التهريب من البحر أمامهم.
لكن المساعي عاجزة عن منع التهريب، لأن اللاجئ يريد التخلص من واقعه البائس والوصول إلى أوروبا، ولو عبر زوارق الموت في البحر الأبيض المتوسط، وكانت الأسلاك الشائكة والبوليس في انتظاره على شواطئ قبرص واليونان وإيطاليا، إن لم تعده من حيث أتى بواخر الدوريات.
أميركا يصل إلى حدودها مع المكسيك وأحياناً مع كندا عشرات الآلاف يومياً. هي لم تجد حلاً كاملاً حتى اليوم لمشكلة نحو 20 مليون مهاجر غير شرعي معظمهم من الأطفال الذين وصلوا إلى أميركا وكبروا فيها وتعلموا في مدارسها وعملوا في معاملها والمنازل.
الموضوع المهم الذي خاض دونالد ترمب معركته ضد المرشح الديمقراطي الرئيس جو بايدن ثم ضد كامالا هاريس بعد انسحابه، هو قوانين الهجرة. ترمب يريد أقصى التشدد في طرد اللاجئين، ويتهم الحكم الديمقراطي بأنه” رخو” مع الهجرة. لا بل يدعي أن اللاجئين “يفسدون الدم الأميركي” ويمارسون الاغتصاب والسرقة.
والواقع أن بين اللاجئين أصحاب كفاءات ومواهب تخدم أميركا. حتى النساء الأميات اللواتي يعملن في تنظيف المنازل ورعاية الأطفال، فإنهن يسهمن في ازدهار الاقتصاد من خلال إعطاء فرصة للأمهات الأميركيات العاملات لاستمرار العمل في الوظائف المنتجة.
روسيا تضم بحسب الإحصاءات الرسمية 17 مليون أجنبي بينهم 10 ملايين من كازاخستان وطاجيكستان وأوزباكستان وقيرغيزستان وتركمانستان، وهي جمهوريات سابقة في ما كان الاتحاد السوفياتي.
جريمة إطلاق النار على حفل موسيقي في موسكو التي قام بها إرهابيون من طاجيكستان دفعت كثيرين من الغاضبين إلى المطالبة بطرد الأجانب من البلاد، لكن روسيا تدرك أن غيابهم مشكلة للاقتصاد بسبب نقص العمالة الروسية وقلة الولادات، وإن كان وجودهم خطراً.
والسلطة تعرض عليهم الجنسية الروسية مقابل التطوع للقتال في أوكرانيا إلى جانب القوات الروسية. كما أن المنظمات الإرهابية، وعلى رأسها “داعش- خراسان” التي اعتمدت استراتيجية التغلغل في المجتمعات خلافاً لاستراتيجية “القاعدة” حول ضرب العدو البعيد، تجد فرصاً لتجنيد إرهابيين من بين هؤلاء.
وأفريقيا في مشكلة معقدة: كثير من الولادات، قليل من فرص العمل، وتصاعد في اللامساواة، غياب للحوكمة الرشيدة في بلدان عدة، وزحام في القيام بانقلابات عسكرية تسهم في مزيد من التخلف والعنف. جنرالات وكولونيلات ونقباء ينقلبون على رؤسائهم لأسباب شخصية في الغابون وتشاد والنيجر ومالي وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو.
أما الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي يحكم بلداً يضم 110 ملايين مواطن، فإنه يحذر من أن عدد سكان أفريقيا سيصل إلى 1.6 مليار إنسان خلال أعوام قليلة. ورغم كثرة الموارد فستكون غير كافية، وإذا لم تنظم حرية الإنجاب في مصر، فإن النتيجة كارثة. النتيجة فقر في الداخل وهجرة إلى الخارج.
لكن الهجرة قديمة قدم التاريخ، “فكل شعوب المنطقة اختلطت بشعوب جاءت من أمكنة أخرى” أكثر الهجرات جاءت على مدى قرون من اليمن إلى الخليج وبلاد الرافدين وشاطئ المتوسط. والهجرات ليست مجرد نوافذ مفتوحة للخطر. فالذين يعيشون خارج مكان ولادتهم هم 3.6 في المئة من سكان العالم وكانوا 3.1 عام 1960 بحسب إحصاءات نشرتها مجلة “الإيكونوميست”. و10 في المئة من المهجرين يأتون إلى البلدان الغنية.
ألمانيا فتحت أبوابها لملايين الأتراك بعد الحرب العالمية الثانية بسبب الحاجة إلى عمال للنهوض الاقتصادي، واستقبلت خلال حرب سوريا مليون لاجئ سوري بين هؤلاء، أطباء ومهندسون ورجال أعمال وعمال مهرة في أمور كثيرة دخلوا سوق العمل وحاز بعضهم الجنسية الألمانية ولولا هجرة شاب من حمص، ولو للدراسة في الجامعة، لما رأت أميركا طفله ستيف جوبز يكبر ويخترع “أبل”.
ولم يكن إيفان كراشيف رئيس مركز الدراسات الليبرالية في صوفيا يبالغ عندما قال، “الهجرة هي أفضل ثورة، ثورة الفرد لا الجماعة”.