حرية ـ (25/11/2024)
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قالت الجدة الفلسطينية عائشة اشتية، إن رجلًا وجه سلاحاً نحو رأسها وطلب منها مغادرة المكان الذي اعتبرته بيتها لمدة 50 عاماً.
وأخبرت بي بي سي أن التهديد المسلح كان أثناء ذروة حملة متزايدة من المضايقات والترهيب التي بدأت في عام 2021، بعد أن تم إنشاء بؤرة استيطانية غير قانونية بالقرب من بيتها في الضفة الغربية المحتلة.
يُظهر تحليل جديد لبي بي سي أن عدد هذه البؤر الاستيطانية قد ارتفع بسرعة في السنوات الأخيرة. وهناك حالياً ما لا يقل عن 196 بؤرة في أنحاء الضفة الغربية، وتم إنشاء 29 منها العام الماضي، وهو أكثر من أي سنة سابقة.
هذه البؤر، التي يمكن أن تكون مزارع، أو تجمعات منازل، أو حتى مجموعات من الكرفانات، غالباً ما تفتقر إلى حدود واضحة وهي غير قانونية بموجب القانون الإسرائيلي والدولي على حد سواء.
ولكن خدمة بي بي سي العالمية اطلعت على وثائق تظهر أن منظمات ذات صلات وثيقة بالحكومة الإسرائيلية قدمت مالاً وأراضيَ تم استخدامها لإنشاء بؤر استيطانية جديدة غير قانونية.
كما حللت بي بي سي معلومات استخباراتية مفتوحة المصدر لفحص انتشار هذه البؤر الاستيطانية، كما قامت بالتحقيق حول المستوطن الذي تقول عائشة اشتية إنه هددها. ويقول الخبراء إن البؤر الاستيطانية قادرة على الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي بسرعة أكبر من المستوطنات، وهي مرتبطة بشكل متزايد بالعنف والمضايقة تجاه المجتمعات الفلسطينية.
لا توجد أرقام رسمية لعدد البؤر الاستيطانية. لكن فريق عين بي بي سي، استعرض قوائم حول هذه البؤر وأماكنها التي جمعتها منظمات إسرائيلية مناهضة للاستيطان مثل “السلام الآن” و”كرم نابوت”، بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية التي تدير جزءاً من الضفة الغربية المحتلة.
قمنا بتحليل مئات الصور الفضائية للتحقق من أن البؤر الاستيطانية قد أُنشئت في هذه المواقع ولتأكيد السنة التي تم فيها إنشاؤها. كما تحققنا من منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنشورات الحكومة الإسرائيلية، والمصادر الإخبارية للتأكد من ذلك وإظهار أن البؤر الاستيطانية ما تزال قيد الاستخدام.
يشير تحليلنا إلى أن ما يقرب من النصف (89) من الـ 196 بؤرة استيطانية التي تحققنا منها قد تم بناؤها منذ عام 2019.
ترتبط بعض هذه البؤر الاستيطانية بتزايد العنف ضد المجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية. في وقت سابق من هذا العام، فرضت الحكومة البريطانية عقوبات على ثمانية مستوطنين متطرفين لتحريضهم على العنف ضد الفلسطينيين أو ارتكابهم له. ستة منهم على الأقل قد أنشأوا بؤراً استيطانية غير قانونية أو يعيشون فيها.
في تصريح لبي بي سي، قال متحدث باسم وزارة الخارجية البريطانية: “نحن ندين بشدة المستويات غير المسبوقة من عنف المستوطنين ضد المجتمع الفلسطيني، كما هو موضح في التقرير، ونحث السلطات الإسرائيلية على إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب وقمع المسؤولين عنها”.
يقول آفي مزراحي، القائد السابق للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، إن معظم المستوطنين هم مواطنون إسرائيليون يلتزمون بالقانون، لكنه يعترف بأن وجود البؤر الاستيطانية يجعل العنف أكثر احتمالاً.
“كلما وضعت بؤراً استيطانية غير قانونية في المنطقة، فإنها تجلب التوترات مع الفلسطينيين… الذين يعيشون في نفس المنطقة”، يقول مزراحي.
أحد المستوطنين المتطرفين الذين فرضت عليهم المملكة المتحدة عقوبات هو موشيه شرفيت، الرجل الذي تقول عائشة إنه هددها بالسلاح. وقد فرضت الحكومة الأمريكية في مارس/آذار عقوبات على كل من شرفيت والبؤرة الاستيطانية التي أنشأها على بُعد أقل من 800 متر من منزل عائشة. وُصفت بؤرته الاستيطانية بأنها “قاعدة ينطلق منها لارتكاب أعمال عنف ضد الفلسطينيين”.
تقول عائشة التي تعيش الآن مع ابنها في بلدة قريبة من نابلس: “لقد جعل حياتنا جحيماً”.
تفتقر البؤر الاستيطانية إلى أي موافقة رسمية على مخططاتها من قبل السلطات الإسرائيلية، على عكس المستوطنات التي تعد أكبر حجماً وعادة ما تكون تجمعات حضرية يهودية مبنية في أنحاء الضفة الغربية، وهي قانونية بموجب القانون الإسرائيلي.
وكل منهما يعتبر غير قانوني بموجب القانون الدولي الذي يحظر نقل السكان المدنيين إلى أرض محتلة. إلا أن العديد من المستوطنين الذين يعيشون في الضفة الغربية يزعمون أنهم كيهود لديهم ارتباط ديني وتاريخي بهذه الأرض.
قالت أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة، في يوليو/تموز، في رأي تاريخي، إن على إسرائيل أن توقف جميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة وأن تجلي جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة. رفضت إسرائيل هذا الرأي واعتبرته “خاطئاً بشكل جوهري” ومنحازاً.
وعلى الرغم من عدم تمتع البؤر الاستيطانية بأي وضع قانوني، إلا أن هناك أدلة قليلة تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية تحاول منع النمو السريع في أعدادها.
اطلعت بي بي سي على أدلة جديدة تُظهر كيف قدمت منظمتان تربطهما صلات وثيقة بالدولة الإسرائيلية أموالاً وأراضيَ استخدمت لإقامة بؤر استيطانية جديدة في الضفة الغربية.
إحدى هذه المنظمات هي “المنظمة الصهيونية العالمية” (WZO)، وهي هيئة دولية تأسست قبل أكثر من قرن ولعبت دوراً مهماً في تأسيس دولة إسرائيل. لديها قسم يُسمى “قسم الاستيطان” وهو مسؤول عن إدارة مساحات شاسعة من الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967. يُمول هذا القسم بالكامل من الأموال العامة الإسرائيلية ويصف نفسه بأنه “ذراع للدولة الإسرائيلية”.
العقود التي حصلت عليها منظمة “السلام الآن” الإسرائيلية، وحللتها بي بي سي، تُظهر أن “قسم الاستيطان” قد خصص مراراً وتكراراً أراضيَ أقيمت عليها بؤر استيطانية. تنص العقود على حظر بناء أي هياكل وتقول إن الأرض يجب أن تُستخدم فقط للرعي أو الزراعة، لكن صور الأقمار الاصطناعية تكشف أنه في أربع حالات على الأقل تم بناء بؤر استيطانية غير قانونية عليها.
أحد هذه العقود وقعها زفي بار يوسف في عام 2018، وهو مثل موشيه شرفيت، فرضت عليه المملكة المتحدة والولايات المتحدة عقوبات في وقت سابق من هذا العام بسبب أعمال العنف والترهيب ضد الفلسطينيين.
تواصلنا مع “المنظمة الصهيونية العالمية” لنسألها عما إذا كانت على علم بأن العديد من قطع الأراضي التي خصصتها للرعي والزراعة يتم استخدامها لبناء بؤر استيطانية غير قانونية. لم ترد المنظمة. كما وجهنا أسئلة إلى زفي بار يوسف، لكننا لم نتلقَّ أي رد.
كما كشفت البي بي سي عن وثيقتين تُظهران أن منظمة استيطانية رئيسية أخرى، “أمانا”، قدمت مئات الآلاف من الشواكل كمساعدة لإقامة بؤر استيطانية.
في إحدى الحالات، قدمت المنظمة قرضاً بقيمة 1,000,000 شيكل (270,000 دولار) لمستوطن لبناء دفيئات زراعية في بؤرة استيطانية تُعتبر غير قانونية بموجب القانون الإسرائيلي.
أُسِّسَت منظمة “أمانا” في عام 1978 وعملت بشكل وثيق مع الحكومة الإسرائيلية لبناء مستوطنات في الضفة الغربية منذ ذلك الحين.
كما أن هناك أدلة متزايدة في السنوات الأخيرة على أن “أمانا” تدعم أيضاً البؤر الاستيطانية.
ويمكن سماع الرئيس التنفيذي لـ”أمانا”، زئيف هيفر، في تسجيل من اجتماع تنفيذي في عام 2021، تم تسريبه بواسطة ناشط، وهو يقول: “في السنوات الثلاث الماضية… إحدى العمليات التي قمنا بتوسيعها هي مزارع الرعي [البؤر الاستيطانية]”.
“اليوم، المساحة [التي يسيطرون عليها] تقريباً ضعف حجم المستوطنات المبنية”.
ضمت الحكومة الكندية هذا العام، منظمة “أمانا” إلى قائمة العقوبات ضد الأفراد والمنظمات المسؤولة عن “أعمال عنيفة ومزعزعة للاستقرار ضد المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية”. لم تذكر العقوبات البؤر الاستيطانية.
** اتصلت بي بي سي بمنظمة أمانا للبحث في سبب تقديمها للقروض المستخدمة في إنشاء البؤر الاستيطانية، لكنها لم تتلقّ رداً.
هناك اتجاه في الحكومة الإسرائيلية لإضفاء الطابع الشرعي على البؤر الاستيطانية بأثر رجعي، مما يحولها فعلياً إلى مستوطنات. على سبيل المثال، بدأت الحكومة العام الماضي في عملية إضفاء الطابع الشرعي على ما لا يقل عن 10 بؤر استيطانية، ومنحت ما لا يقل عن ست أخرى الوضع القانوني الكامل.
موشيه شرفيت، الذي تقول عائشة إنه طردها من منزلها في فبراير/شباط، أقام يوماً مفتوحاً في بؤرته الاستيطانية، حيث قام طاقم محلي بتصوير الحدث، وتحدث بصراحة عن مدى فعالية البؤر الاستيطانية في السيطرة على الأراضي.
شرفيت قال للحضور: “أكبر أسف لدينا [كمستوطنين] عندما قمنا ببناء المستوطنات هو أننا علقنا داخل الأسوار ولم نتمكن من التوسع… المزرعة مهمة جداً، ولكن الأهم بالنسبة لنا هو المنطقة المحيطة”.
وأضاف قائلاً إنه الآن يسيطر على حوالي 7000 دونم (7 كيلومترات مربعة) من الأرض – وهي مساحة أكبر من العديد من المستوطنات الكبيرة في الضفة الغربية التي يبلغ عدد سكانها الآلاف.
تحقيق السيطرة على مساحات واسعة، غالباً على حساب المجتمعات الفلسطينية، هو هدف رئيسي لبعض المستوطنين الذين يقيمون ويعيشون في البؤر الاستيطانية، كما تقول هاغيت عوفران من منظمة “السلام الآن”.
“المستوطنون الذين يعيشون على التلال [البؤر الاستيطانية] يرون أنفسهم كـ’حماة للأراضي’ ووظيفتهم اليومية هي طرد الفلسطينيين من المنطقة”، تقول هاغيت.
تقول عائشة إن حملة المضايقة والترهيب التي يقودها موشيه شرفيت بدأت تقريباً فور إقامة بؤرته الاستيطانية في أواخر عام 2021.
عندما كان زوجها، نبيل، يرعى ماشيته في المراعي التي استخدمها لعقود، كان شريفيت يصل بسرعة بسيارة رباعية الدفع ويقوم هو والمستوطنون الشباب بطرد الحيوانات، كما يقول.
يقول نبيل: “أخبرته بأننا سنغادر إذا أمرتنا الحكومة أو الشرطة أو القاضي بذلك”.
“قال لي: ‘أنا الحكومة، وأنا القاضي، وأنا الشرطة'”.
يقول معين شعبان، رئيس لجنة مقاومة الاستيطان والجدار في السلطة الفلسطينية، “من خلال تقييد الوصول إلى أراضي الرعي، يضع المستوطنون في البؤر الاستيطانية مثل موشيه شرفيت الفلاحين الفلسطينيين في أوضاع متزايدة الخطورة”.
ويضيف شعبان “تصل الأمور إلى نقطة حيث لا يكون لدى الفلسطينيين أي شيء بعد الآن. لا يستطيعون الأكل، لا يستطيعون الرعي، لا يحصلون على الماء”.
ويقول أرييل موران، ناشط إسرائيلي يدعم المجتمعات الفلسطينية التي تواجه اعتداءات المستوطنين، إنه بعد الهجمات التي شنتها حماس على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول وحرب إسرائيل في غزة، أصبحت مضايقات موشيه شرفيت أكثر عدوانية.
شرفيت دائماً يحمل مسدساً معه في الحقول، لكنه بدأ الآن يقترب من النشطاء والفلسطينيين وهو يحمل بندقية هجومية على كتفه وأصبحت تهديداته أكثر جدية.
ويضيف موران: “أعتقد أنه رأى فرصة في سلوك طريق أكثر اختصاراً بدلاً من الانتظار لمدة عام أو عامين آخرين لإرهاقهم [العائلات الفلسطينية] تدريجياً. فالأمر بين عشية وضحاها”.
“وقد نجح في ذلك”.
الكثير من العائلات مثل عائلة عائشة، التي تقول إنها غادرت منازلها بعد تهديدات من موشيه شرفيت، فعلت ذلك في الأسابيع التي تلت 7 أكتوبر/تشرين الأول مباشرة.
يقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أوتشا (OCHA) إن عنف المستوطنين وصل إلى “مستويات غير مسبوقة” في جميع أنحاء الضفة الغربية.
في الأشهر العشرة الأخيرة، سُجل أكثر من 1100 هجوم من المستوطنين ضد الفلسطينيين، وقد قُتل ما لا يقل عن 10 فلسطينيين وأصيب أكثر من 230 من قبل اعتداءات المستوطنين منذ 7 أكتوبر، حسبما يفيد المكتب.
كما قُتل خمسة مستوطنين على الأقل وأصيب 17 على الأقل من قبل الفلسطينيين في الضفة الغربية خلال نفس الفترة الزمنية، وفق المكتب الأممي.
في ديسمبر/كانون الأول 2023، بعد شهرين من إجبارهما على مغادرة منزلهما، صورنا عائشة ونبيل أثناء عودتهما لجمع بعض متعلقاتهما.
وعندما وصلا إلى المنزل، وجداه منهوباً. في المطبخ، كانت الخزائن متدلية. وفي غرفة المعيشة، أخذ أحدهم سكيناً وقطع المفروشات.
تساءلت عائشة: “لم أؤذه. لم أفعل له أي شيء. ماذا فعلت لأستحق هذا؟”.
وعندما بدأوا في تفقد الأضرار وصل موشيه شرفيت في سيارة. وبعد فترة وجيزة وصلت قوات إسرائيلية من الشرطة والجيش. وأخبروا الزوجين ونشطاء السلام الإسرائيليين المرافقين لهما أنه يتعين عليهما مغادرة المنطقة.
وقالت عائشة لبي بي سي: “لم يترك لنا أي شيء”.
قمنا بالاتصال بموشيه شرفيت عدة مرات لطلب رده على الاتهامات الموجهة إليه، لكنه لم يرد. في يوليو/تموز 2024، اقتربت منه بي بي سي شخصياً في بؤرته الاستيطانية لطلب رده على الاتهامات وأيضاً للاستفسار عما إذا كان سيسمح للفلسطينيين – مثل عائشة – بالعودة إلى المنطقة. قال إنه لا يعرف عما نتحدث وأنكر أنه هو موشيه شرفيت.
الرسوم البيانية بواسطة كيت غاينور وفريق الصحافة المرئية في خدمة بي بي سي العالمية.
تصحيح 7 سبتمبر/ أيلول: تواصلت بي بي سي مع موشيه شارفيت شخصيًا في يوليو / تموز 2024 وليس يوليو / تموز 2023، كما ورد في هذا التقرير قبل التعديل.