حرية ـ (2/12/2024)
لطالما كان أمراً ثابتاً في أذهان العامة وذوي الدراية والعلم، في ما قبل القرن الـ 20، أن الأسطورة “أو الحكاية والقصة” غير الواقعية بحسب بطرس البستاني، في “محيط المحيط”، أو هي “سرد يمثل كائنات غير طبيعية وهواجس جماعية يراد بها تعليل ظواهر فلكية واجتماعية، على صورة آلهة وإلهات”، بحسب ما ورد في اللاروس الفرنسي.
ثم إن الاعتقاد كان لا يزال سائداً بأن الأساطير شأن تاريخي ولا يصح ذكرها إلا في سياق حضاري قديم، أو لدى التعمق في درس أنماط الحكايات، ومدى صلتها بالواقع أو بالخيال، إلى أن أطل القرن الـ 20 واتسع نطاق الثورة المعرفية في العلوم الإنسانية، ولا سيما منها علم النفس مع سيغموند فرويد وألفرد آدلر وكارل يونغ، الذين كشفوا تباعاً عن طاقات وآليات كانت لا تزال غير مستنفدة في النفس البشرية، مثل اللاوعي والذات والأنا العليا والأنا الجماعية والصور البدئية وغيرها، وكان لافتاً لجوء علماء النفس هؤلاء، ولا سيما منهم سيغموند فرويد، إلى شخصيتين أسطوريتين مستلتين من التراث المسرحي اليوناني وهما أوديب وإليكترا، لتعيين عقدة نفسية راسخة في النفس البشرية دعاها فرويد بـ “عقدة أوديب” التي يعني بها تعلق المولود الذكر بأمه على نحو مرضي وسعيه إلى الحلول محل أبيه في تلك العلاقة، في حين أن عقدة إليكترا التي اقترحها كارل يونغ لم يعتبرها فرويد جديرة بالتعميم، وآثر عدم اعتمادها أساساً في علم النفس التحليلي.
وأياً يكن الأمر فإن دخول الأساطير، باعتبارها نماذج دالة على فئات بشرية ذات صفات معينة، بات مسألة متداولة بين أفراد المجتمع المعرفي المتخصص، ولا سيما في علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها.
الكتاب بالترجمة العربية
الداعية النسوية ذات الشهرة العالمية جين شينودا بولين (1936) الأميركية من أصول يابانية، تخرجت طبيبة في جامعة سان فرانسيسكو وتخصصت في علم النفس والأعصاب على يد البروفسور جوزيف كامبل المتبع نهج كارل يونغ في اعتماد الأسطورة لتصنيف شخصيات مرضاه، ولم تلبث أن تجاوزته بسبب نظرته القاصرة إلى المرأة واعتبارها غير جديرة بعد بانتظامها في نماذج بدئية متحررة.
في كتابها بعنوان “في كل امرأة أسطورة”، والصادر حديثاً عن “دار مسكلياني” (2023) بنسخته العربية، وبترجمة من الكاتب عادل قرامي تطرح الكاتبة وعالمة النفس اليونغية، رؤيتها في مقاربة تحليل النفس البشرية وتحليل نفسية النساء بصورة خاصة، في ضوء فهم حديث للأساطير متلائم مع طبائع هؤلاء وتوجهاتهن ومدى دخولهم في شتى ميادين الحياة الاجتماعية المعاصرة.
لكل امرأة دور بطولة
تقول الكاتبة في مقدم كتابها المترجم إلى أكثر من 80 لغة حية، إنها استخلصت من مئات القصص الشخصية خلال عملها الطويل في مجال الطب النفساني، أن كل حكاية منها تنطوي على “أبعاد أسطورية” (ص:7)، وأن النساء لا يلجأن إلى الأطباء النفسانيين إلا في حال تعثر جهدهن في أن يصرن بطلات أو شخصيات رئيسة أكثر تأثيراً في حياتهن.
شخصية أثينا في الأسطورة (متحف الفن الإغريقي)
وتضيف الكاتبة بولين ما مفاده أن النساء لم يكن على دراية بقوة تأثير “القوالب النمطية الثقافية” التي تتحكم بمجرى حياتهن، ولربما كن يجهلن وجود قوى جبارة كامنة في كل منهن تدفعهن إلى الإنجاز، إن هي إلا المعبودات اليونانيات القديمات التي سيأتي الكلام عنها.
النماذج الأصلية أداة فهم
تنطلق الكاتبة والباحثة بولين من مقولة لكارل يونغ مفادها أن اللاوعي الجماعي أو الجمعي يتعامل مع نماذج أصلية راسخة في أذهان البشر منذ الأزمنة الغابرة، وما كان يدعوها يونغ بالـ “أركيتيب”، وبناء عليه فإنه يصير جائزاً تصنيف البشر، والنساء منهم، وفقاً لنماذج أصلية بالغ الأقدمون في تصوير نفوذها وامتلاكها قدرات كبرى، وتميزها بصفات وخصال نفسية حتى حازت في نظر هؤلاء مرتبة الآلهة، والذي يذكر في هذا الشأن أن الكاتبة الطبيبة بولن، وإن استندت نظرياً إلى منهج يونغ في تصنيفها سلوك مرضاها وفقاً للنماذج الأصلية غير الواعية، فإنها اكتسبت من مسيرتها المهنية، على ما تقول، كثيراً من الخبرات في ما خص فئات الشخصيات الأنثوية وتقلباتهن ونزعتهن إلى التحرر والاستقلال بالذات وتحقيق الأهداف وغيرها، فعلى سبيل المثال أمكن للطبيبة بولين أن تستخلص من سلوك المرأة المعالجة ومن مجمل علاقاتها بالرجال والنساء والأبوين والأطفال، ومن نوع عملها وطبيعة أهدافها والصعوبات التي تعترض سبيلها ومن أمور أخرى، أنها تنتمي إلى النموذج الأصلي “أثينا”، وهي إلهة الحكمة وربة الحرف والمخططة العبقرية وابنة أبيها، إن كانت في ما تحياه خلال القرن الـ 21 حائزة درجة عالية من العلم، وبارعة في تخطيط أعمالها وتنفيذها ومحافظة على أولوياتها لا تتنازل عنها، وتشق سبيلها في سلك إدارة الأعمال داخل الشركات والمؤسسات الكبرى، ولا يحبطها أي عائق عن تحقيق طموحاتها وإشباع ميولها المنظورة في نموذجها الأصلي من دون أن تعيها وعياً مباشراً.
وهنا يأتي دور علم النفس اليونغي، كما انتهى إليه لدى الطبيبة الأميركية جين شينودا بولين، المتمثل في جعل المريضة أو المرأة المعالَجة تعي الأبعاد الأسطورية في شخصيتها، وتزداد تحفزاً لتحقيق ما طالما طمحت إليه منذ أن تكونت نفسيتها وكيانها، ولربما يكون هذا التحفيز، تحفيز المرأة بعامة، إحدى أدوات النضال للداعية النسوية التي تقدمت صفوف المناضلات في كبرى المنتديات العالمية، دفاعاً عن حقوق المرأة وصوناً للبيئة المهددة بالكوارث الماحقة التي يتسبب بها الرجال، حكام العالم، على حد قولها.
المرأة المعاصرة والنماذج الأصلية
هيرا في الأسطورة الإغريقية
تقول الكاتبة بولين بعد تجربة طويلة في التعاطي مع النساء ومعالجة حالاتهن النفسية، أن هؤلاء يولدن وفي دواخلهن عدد من السمات المميزة لشخصية كل منهن بالفطرة، فإما أن تكون مفعمة بالنشاط أو تكون متزمتة أو فضولية أو ميالة إلى الوحدة أو اجتماعية أو صاحبة طموح تسعى إلى تحقيق أهداف رسمتها في ذهنها، وعند بلوغ الطفلة الثانية أو الثالثة تبرز فيها الخصائص المشار إليها والتي تجسد نموذجاً معيناً لبعض الربات الإغريقيات، وفي هذا الشأن تقرر الباحثة بولين أن للبيئة الأسرية دوراً في تفتح هذه الشخصية وتطوير سماتها بمقدار ما لعوامل الثقافة والهرمونات النشطة لدى الأنثى والناس المحيطين بالطفلة المعنية من أثر فاعل وحاسم.
نماذج الإغريقيات و رمزيتهن
ارتأت الباحثة بولين أن تكون ثمة فئات من النماذج الأصلية التي اعتبرها الأقدمون ربات، ولا سيما الإغريقيات منهن، والتي تجسد كل منها على ما بات معلوماً فئة من السمات والطبائع الشخصية، فكان منها، بحسب ما ورد في الكتاب، الربات العذراوات: أرتميس (ربة الصيد والقمر)، وأثينا (ربة الحكمة والحِرَف)، وهيستيا (ربة الموقد والمعبد).
ولئن اختصت هذه النماذج جميعها بالمرأة غير المرتبطة بعلاقات زواج بالرجل، فإنها مثلت، ولا سيما أرتميس وأثينا، دعوة إلى الفرح والانفتاح على الخارج وإصراراً على الإنجاز، في حين أن “هيستيا تجسد النموذج الأصلي الانطوائي ” (ص:59) الذي تركز بموجبه الشخصية المطابقة كل جهودها على الداخل، أي على عالمها الداخلي ومشاغلها واهتماماتها الخاصة.
وتأكيداً على مدى انطباق هذه النماذج على شخصيات أنثوية معاصرة فقد مضت الكاتبة تذكر أمثلة حية على نموذج أثينا، الطيارة الشهيرة “إميلي إيرهارت” (1897-1937) التي استطاعت أن تحلق فوق أمكنة لم يبلغها أي طيار من قبل، وكانت كثيرة المجازفة في تجارب عبورها المحيط الأطلسي إلى أن توارت عن الأنظار في آخر طيران لها.
وقد يجسد هذا النموذج الأصلي أيضاً شكل إبداع المرأة في الشعر والرسم والموسيقى والأمثلة على ذلك كثيرة، أدريان ريتش الشاعرة، وجودي شيكاغو الرسامة، والمغنية هولي نير، وغيرهن.
النموذج الأصلي هيراثم مضت الباحثة لتشمل بدراستها الفريدة وذات الأصداء العالمية الفئة الأخرى من النماذج الأصلية أو من الربات، وفقاً للتراث اليوناني، ومن تلك النماذج تفرد الكلام على هيرا التي عرفت عندهم بربة الزواج، والقرينة الملكية لزيوس (جوبيتر)، والتي كثيراً ما تغنى بها الشعراء الإغريق القدامى ومدحوا عينيها “البقريتين” الواسعتين، وكانت تجسد شخصية المرأة المتزوجة والوفية لزواجها واقترانها في نظر بعضهم بقدرتها على تزويد الناس بالقوت.
وفي المقابل كانت هيرا تجسد نزعة المرأة المتزوجة للدفاع عن زواجها حتى لو اضطرت إلى ملاحقة عشيقات زوجها (زيوس) وأبنائهن.
وإثباتاً لصحة مقاربتها وانطباق قوالبها الأسطورية على النساء الحاليات، أوردت الكاتبة بولين أمثلة حية على ذلك نظير السيدة الأميركية الأولى في حينه نانسي ريغان (1921-2016) التي آثرت أن تكون زوجة روني على أن تستمر في مجالها الفني وهو السينما، وأن تتمثل بصفات هيرا الإيجابية وما يقتضيه هذا الزواج من التزامات اجتماعية ودينية.
وفي المقابل مثلت السيدة “جين هاريس”، ” معاصراً لطراز هيرا المهجورة” (ص:238)، وكانت الأخيرة مديرة لإحدى المدارس الأميركية واتهمت بقتل عشيقها الذي جمعته بها علاقة حب طويلة، وعلى هذا يمكن للمرء أن يورد أمثلة كثيرة من واقعه تكون مطابقة لهذا النموذج.
نماذج أخرى ومقاربة سليمة
قد لا يتسع المجال هنا للكلام على نماذج أخرى وردت في متن الدراسة المستفيضة، مثل نموذج “ديميتر” ربة الأمومة المضحية والحزينة وطبيعة صلتها بالرجال وزهدها بالعلاقات الجنسية، كما لن يتسنى التوسع في الكلام على ملكة العالم السفلي والمرأة التقبلية “بيرسيفوني”، ولا الإحاطة بربة الحب والجمال “أفروديت” التي لا يزال يحضر طيفها في كل عمل إبداعي، على حد وصف الكاتبة، على أن الثابت الأهم الذي يخلص إليه قارئ هذا العمل البحثي الجريء في علم النفس اليونغي، إن صح التعبير، أن النماذج الأصلية النامية إلى الأساطير اليونانية النسائية بخاصة تفيد فعلاً في كونها قوالب لتصنيف أنماط الشخصيات النسائية الواقعية وتحليلها، وصولاً إلى جعل النساء مدركات لأبعاد هذه النماذج الإنسانية والعاطفية والاجتماعية، ولتحقيق تحررهن المرتجى، على ما قصدت إليه الكاتبة الباحثة والمناضلة النسوية جين شينودا بولين.