حرية ـ (2/12/2024)
يقال إن الفراشة التي ترفرف بجناحيها في مكان ما تؤثر في مسار الأحداث في أبعد نقطة منها على سطح الأرض، وهو ما يسمى “أثر الفراشة” الذي يعني أن كل كائن مهما بدا هشاً أو صغيراً فإنه جزء من سلسلة منتظمة تتأثر كل حلقة فيها بالأخرى، وإذا فقدت واحدة من الحلقات مهما ضعف شأنها فإن السلسة بأكملها ستنهار، وهذا ما ينطبق تماماً على النظام البيئي فوق سطح كوكبنا، لكن للفراشة أثراً أكبر بكثير من رفرفة جناحيها على النظام البيئي العالمي، فبالمعنى النفسي يعد تحول الدودة إلى حشرة في شرنقة، إذ تجرى تحولات كثيرة لا نعرف عنها كثيراً حتى اليوم، ثم تخرج منها فراشة ملونة جميلة وزاهية سرعان ما تبدأ رحلتها القصيرة نحو مكامن تكاثرها.
هذا التحول يستخدمه علم النفس والعلوم الروحانية لوصف تبدل أحوال الإنسان في حياته في محاولة تبديل الأمور من الأسوأ إلى الأحسن. وتمثل الحلقة الوسطى داخل الشرنقة تحولات كل إنسان يحاول اكتشاف نفسه كي يولد من جديد، خصوصاً بالنسبة إلى من يمرون في صعوبات الحياة وأسئلتها الكثيرة وتعقيداتها نحو مرحلة جديدة مختلفة.
في حياة البشر
بحسب القواميس اللاتينية فإن كلمة “سايك” (Psyche) في الإغريقية القديمة كانت تعني الروح أو النفس، وكذلك كانت تعني الفراشة. وفي ما بعد أعطى مصطلح “البسيكولوجي” للدلالة على علم النفس الحديث. والفراشة في الأسطورة الإغريقية تمثيل للصعود الروحي والتجدد النفسي والانقلاب من حال سيئ إلى حال أحسن بالجهد الخاص.
أما علم النفس الحديث فيعد ترميز الفراشات إشارة إلى الولادة الجديدة والأمل والشجاعة والتخفف من محاولة التحكم بالأمور، فالدودة لم تكن تعرف أنها ستصبح فراشة تثير إعجاب الناظرين، وكأنها دعوة لترك الأمور تسير على طبيعتها، أو كما كتبتها الأقدار، وهذا ما يحد من القلق الذي يصيب نسبة عالية من سكان كوكب الأرض في زمننا المعاصر.
في الأسطورة الصينية تعد الفراشة رمزاً للحب والسعادة والحرية. أما في الأساطير الهندية فترتبط الفراشات بصورة خاصة بالأرواح وعوالمها، وبعضها يحمل أرواح الأجداد لزيارة ديارهم على الأرض. ويعتقد الهنود أن رؤية الفراشة دليل على الحظ الحسن القادم. وتشارك التقاليد القبلية الأفريقية الهنود والصينيين في النظرة إلى الفراشات كرمز للتغيير والحرية، وبأنها أرواح الأموات الذين يعودون لزيارة أحفادهم أو لحماية القبائل وقراهم.
ترميز الفراشات إشارة إلى الولادة الجديدة والأمل والشجاعة والتخفف من محاولة التحكم بالأمور
تعامل العرب شاعرياً مع الفراشة كما مع كل ما في طبيعتهم، فالشعر كان لسان العرب وطريقة تعبيرهم منذ تطور اللغة العربية في القرون السابقة على ظهور الإسلام، وطالما تغنوا بجمالها ورقتها وقوتها على رغم ضعفها الظاهر. ومع ظهور المدارس الصوفية اللاحقة على الإسلام صارت الفراشة تمثل الروح أو النفس، وهو توصيف قريب من ذلك المعتمد في علم النفس الحديث. وقد أضاف الصوفيون المسلمون وصوفيو البوذية والهندوسية إلى وصف الفراشة بحث الروح البشرية عن الإجابات في النور المطلق كالفراشة حين تجد النور وتدور حوله حتى يحرقها، أو إلى أن ينطفئ، أو إلى أن تسقط من شدة الإرهاق.
في أميركا الوسطى القديمة كانت الفراشة في طقوس الأزتيك رمزاً لعيد تكريم الشمس، وكانت الصلاة تقول، “قدموا البخور للشمس المكرسة كفراشة في دائرة ذهبية”. واعتقدت معظم القبائل الأميركية القديمة أن المحاربين الشجعان يتحولون إلى فراشات بعد موتهم، على رغم أنهم تشاءموا من الفراشات السوداء وربطوها بالأمراض المعدية وخطف الأرواح بصورة جماعية ربما بسبب الفيروسات التي وصلت إلى القارة الأميركية مع وصول المهاجرين إليها، ولم يكن السكان الأصليين قد أصيبوا بها، فأدت إلى موتهم بصورة جماعية من أقل فيروس انتقل إليهم كالأنفلونزا.
في الديانة المسيحية هناك صلة واضحة بين تحول الفراشة وموت يسوع المسيح وولادته من جديد. تماماً كما تدخل الفراشة شرنقتها لتولد من جديد، وضع يسوع في قبر بعد صلبه وولد من جديد بعد ثلاثة أيام خارجاً من كفنه والغار الذي دفن فيه وصاعداً إلى السماء. والربط واضح تصويراً وتمثيلاً وواقعاً في قصة مسيرة يسوع المسيح ومسيرة الفراشة في انتقالها من مرحلة إلى أخرى.
ما هي الفراشة؟
تمر الفراشة بمراحل مختلفة وتعيش لمدة قصيرة وتطير لآلاف الكيلومترات في رحلات سنوية للوصول إلى أماكن التكاثر والغذاء، وليست هذه هي الأسباب الوحيدة التي جعلتها مصدر إلهام للفنانين والشعراء والرسامين وعلماء البيئة والطبيعة والمناخ وعلوم الحشرات والحفريات وعلماء النفس والأديان، وعلى رغم تنوع مروحة المهتمين بالفراشات في العلوم والآداب والفنون والروحانيات، فإنها لا تزال حتى اليوم تحت عدسة البحث العلمي الجدي، ولا يزال يكتشف العلماء أنواعاً جديدة منها عاماً بعد عام حتى وصل عدد أنواع الفرشات المعروفة حتى اليوم إلى 25 ألفاً، لكل منها خاصية تفترق بها عن سائر الفراشات، سواء في حواس النظر أو التذوق أو ألوانها ورحلاتها وطولها وعمرها وطريقة تمويهها وطيرانها.
في البدء تضع أنثى الفراشة بويضاتها الصغيرة على الأوراق وسيقان النباتات والأشجار قرب طعام اليرقة التي ستولد من البويضة. وبعد أن تضع الفراشة بويضاتها تموت في الحال، وبعدها بأربعة أيام تولد اليرقة.
وتكون اليرقة على شكل دودة طويلة، وهي مرحلة التغذية والنمو، فتأكل اليرقة بشراهة، وإذا لم يتوفر لها الغذاء لفترة قصيرة ستموت، على رغم أنها لا تأكل سوى أنواع قليلة من أوراق النباتات. وفي أثناء نمو اليرقة تتخلى عن جلدها أربع مرات قبل أن تبدأ بتغليف جسمها لتصبح شرنقة خلال أسبوعين. وفي داخل الشرنقة يبدأ تشكل هيكل الفراشة خلال 10 أيام. ثم تخرج الفراشة بكامل ألوانها نحو مرحلة الحركة والتزاوج ووضع البيض، وهذه المرحلة رحلة طيران طويلة بحد ذاتها تموت بعدها الفراشة بمجرد أن تضع بيوضها.
فراشات الـ”مونارك” (Danaus plexippus) من أشهر أنواع الفراشات المهاجرة، إذ تسافر من أميركا الشمالية إلى المكسيك في رحلة سنوية تقطع فيها 4800 كيلومتر. وتنطلق هذه الفراشات في رحلتها خلال فصل الصيف وتصل في فصل الشتاء، ثم تدور دائرة التكاثر وتتعاقب أجيال الفراشات فينتقل الجيل التالي إلى الشمال في فصل الربيع. وتبث فراشات الـ”مونارك” أو فراشات الملكة المهاجرة مجموعة من الإشارات التي تساعدها في معرفة طريقها، وتعتمد أيضاً على الشمس والحقول المغناطيسية للأرض في تحديد مساراتها، وهناك أنواع من الفراشات المهاجرة التي تحفظ معالم طبيعية معينة يستدل عليها من خلالها.
تمثل الحلقة الوسطى داخل الشرنقة تحولات كل إنسان يحاول اكتشاف نفسه كي يولد من جديد
خلال فصل الشتاء تعيش الفراشات جميعها في سبات شتوي، وهي حالة نوم متواصل طوال الفصل. وتدخل الفراشة في هذه الحال في أي مرحلة من دورتها الحياتية، سواء كانت بويضة أو يرقة أو شرنقة أو حتى كفراشة يافعة. وتوقيت استيقاظ الفراشة من السبات مهم للغاية، ويجب أن يكون في دفء الربيع، وفي وقت تنمو فيه أوراق النباتات لتتغذى عليها، وإلا فإنها ستموت. ومن المحتمل أن تستيقظ اليرقات مبكراً أثناء السبات إذا ما تم إزعاجها، سواء بانخفاض أو ارتفاع الحرارة أو عدم وجود أوراق النباتات المحددة التي تتغذى عليها. لهذا يعد تغير المناخ مشكلة واضحة لسبات الفراشات، لأن درجات الحرارة المرتفعة بصورة غير عادية في فصل الشتاء تجعلها تستيقظ في وقت مبكر.
لدى كل فراشة عينان “مركبتان” تجمعان آلاف العدسات الصغيرة في كل عين. وتحوي عيون الفراشات على خلايا كاشفة للضوء أكثر من أعين البشر تسمى “المستقبلات الضوئية”، وهي تحول الضوء إلى إشارات كهربائية يتم إرسالها إلى الدماغ. وتتمتع الفراشات برؤية ألوان لا تصدق بسبب هذه المجموعات من الخلايا التي تريها محيطها كالفسيفساء. ونتيجة لفهم العلماء للطريقة المعقدة لعمل عيون الفراشات قام البشر بتطوير مصابيح LED ومعالجة تمييز الألوان لدى البشر وفي آلات التصوير.