حرية ـ (11/12/2024)
على رغم أهمية مجلات الأطفال ودورها المستمر في حياة أجيال متعاقبة، فإنها اليوم تقف في المنتصف بين القديم والحديث، إذ تواجه صراعاً بين قيمة النشر الورقي وقدرة النشر الإلكتروني على الانتشار. ففي عصر التكنولوجيا تحاول مجلات الأطفال الصمود في وجه الإنترنت والتطبيقات والذكاء الاصطناعي وكل المتغيرات التي حدثت في العقود الأخيرة بصورة متسارعة، وغيرت نمط الحياة والاهتمامات للكبار والصغار على حد سواء.
في الوقت نفسه فإن هناك دعوات متعددة ودراسات مختلفة للعمل على إبعاد الأطفال بقدر المستطاع عن الشاشات، ومحاولة إدماجهم في نشاطات حقيقية وتفاعلية قد يكون من بينها مجلات الأطفال الورقية.
غير أنه على أرض الواقع نجد أن كثيراً من المؤسسات القائمة على إصدار مثل هذه المجلات تبنت توجهاً في الفترة الأخيرة لإصدار تطبيقات إلكترونية أو لإطلاق قنوات تلفزيونية، بحيث أصبح الأطفال ربما أكثر اهتماماً بمتابعتها بصورة أكبر من الإصدار الورقي، الذي أصبح يحظى في بعض الأوقات باهتمام أقل من المؤسسة ذاتها، سواء في كم الأعداد التي يجري إصدارها أو في نوعية المضمون المقدم.
تثقيف الأطفال
كثير من مجلات الأطفال لها باع طويل، واستمر ظهورها لسنوات ممتدة ومن أشهرها “سمير” و”ميكي” و”ماجد” و”علاء الدين” و”العربي الصغير”، ومع السنوات ظهرت تجارب أحدث، وعلى رغم كل ما يواجهه قطاع النشر بصورة عامة من تحديات فإن مجلات الأطفال الورقية إلى حد كبير لا تزال تصدر بجودة عالية، وتلقى رواجاً بين الصغار.
عن واقع مجلات الأطفال يقول عبده الزراع، كاتب الأطفال رئيس شعبة أدب الطفل باتحاد كتاب مصر، “مجلات الأطفال تحتاج إلى اهتمام أكبر، وإلى زيادة عددها وتنوعها، ليتناسب مع العدد الكبير لأطفال الوطن العربي عموماً، وهي ضرورة لتثقيف الأطفال ولربطهم بثقافتنا في ظل كل ما يتعرضون له من دعوات إلى التغريب وطمس الهوية. كثير من مجلات الأطفال تحتاج إلى الدعم حتى تتمكن من الاستمرار، ولا بد أن يكون ذلك أولوية، فهي تقوم بدور كبير في التعليم والتنشئة والترفيه”.
عدد من مجلة “سمير” التي تصدر في مصر حتى الآن تعود لعام 1958
ويضيف الزراع “حالياً ومقارنة بفترات سابقة هناك عدد كبير من كتاب الأطفال واهتمام بأدب الطفل وإصدارات مميزة على مستوى الكتب والمجلات ووعي بأهمية هذا المجال، ومن هنا ينبغي الاستفادة من ذلك في مجلات الأطفال، هذا إضافة إلى تطور تقنيات الطباعة والإخراج، مما ينعكس على الصورة النهائية للمجلة، وفي الوقت نفسه كثير من المجلات أصبحت تواكب طفرة التكنولوجيا، التي تشهدها الأجيال الجديدة بإتاحة تطبيقات أو مواقع إلكترونية، باعتبار أن هذا أصبح جزءاً من حياتهم لا بد من مواكبته”.
وفي كتاب بعنوان “تطور مجلات الأطفال في مصر والوطن العربي” رصدت الكاتبة نجلاء علام تاريخ مجلات الأطفال منذ عام 1870 حتى عام 2000، الذي بدأ في مصر بإصدار “روضة المدارس” عام 1870 في عصر رفاعة الطهطاوي، ولاحقاً مع بدايات القرن الـ20 صدرت صحيفة “المدرسة”، التي قام على إصدارها الزعيم مصطفى كامل.
ووجدت الدراسة أن مصر كان لها النصيب الأكبر في عدد مجلات الأطفال، إذ صدر فيها 29 مجلة أطفال حتى عام 2000، بعضها لا يزال مستمراً، وكثير منها توقف عن الظهور منذ سنوات طويلة باعتبار ارتباطها بمراحل معينة.
وتشير الكاتبة إلى أهمية مجلات الأطفال في التأثير في الطفل وإكسابه قيماً وأفكاراً معينة بأسلوب سهل ومحبب له، وتضرب مثالاً على ذلك باهتمام الاحتلال الإنجليزي عندما كان في مصر بإصدار مجلة موجهة للأطفال كان اسمها “مجلة الأولاد” عام 1923، إذ كان يهدف من خلالها إلى خلق جيل متقبل لفكرة الاحتلال، إلا أن التجربة حينها فشلت بكاملها.
الكتابة للطفل في عصر التكنولوجيا
إبداع عمل يستطيع إقناع الطفل وفي الوقت نفسه يكون بأسلوب سهل وممتع يدفع الصغار إلى الاستمرار في القراءة ويحمل قيمة أو فكرة معينة، هو أمر ليس بالسهل على الإطلاق، وخاض كثير من كبار الكتاب في العالم كله تجربة الكتابة للأطفال وأشاروا إلى صعوبتها، من بينهم توفيق الحكيم الذي قال عنها “إن البساطة أصعب من التعمق، وإنه لمن السهل أن أكتب وأن أتكلم كلاماً عميقاً، لكن من الصعب أن أنتقي وأتخير الأسلوب الذي يشعر معه السامع أنني جليس معه وليس معلماً له”.
غلاف العدد الأول من مجلة “علاء الدين” الأشهر في مصر حالياً
وفي العصر الحالي فإن المهمة صارت أصعب على كتاب مجلات الأطفال في العالم كله وليس في الوطن العربي، فقط في ظل الأشياء المبهرة التي يتعرض لها أجيال اليوم. يقول كاتب الأطفال السيد إبراهيم “الطفل حالياً لا يرغب في الوعظ المباشر، ويفضل الإيجاز والمادة التي بها شيء من التفاعل، فكاتب الأطفال عليه أن يقدم القيمة أو الفكرة التي يرغب فيها بصورة غير مباشرة، في الوقت نفسه على كاتب الأطفال أن يكون على اتصال مباشر معهم، ليتعرف على تأثير ما يقدم عليهم ومدى تقبلهم وتفاعلهم معه، وفي ما يتعلق بمجلات الأطفال العربية فهناك تجارب جيدة لا تزال تحافظ على معايير الجودة، وأخرى تحتاج إلى أن تتطور وتواكب متطلبات العصر”.
ويضيف “الوجود من خلال الوسائط الإلكترونية أصبح مهماً لأسباب متعددة، من بينها الكلفة الكبيرة للنشر الورقي، سواء من حيث كلفة الطباعة أو التوزيع، فالنشر الإلكتروني أصبح توجهاً عاماً في حركة النشر عموماً للكبار والأطفال على السواء، باعتباره أقل في الكلفة وأكثر انتشاراً، فمستقبلاً كل ما هو ورقي سيتلاشى مع الزمن، وهذا واقع لا محالة، النشر الإلكتروني أدى إلى ظهور كثير من المنصات التي أتاحت محتوى مميزاً لكثير من الأطفال، ويحقق أرقاماً مرتفعة جداً للزيارات في كل مكان في العالم من دون التقيد بمناطق التوزيع، وينطبق هذا أيضاً على مجلات الأطفال، وهذا شيء إيجابي، ويدل على أنه لا يزال هناك وعي بأهمية القراءة عند قطاع كبير من الأسر”.
تحديات متعددة تواجه رسامي الأطفال
في عالم مجلات الطفل فإن الرسوم لها أولوية وأهمية قصوى، فهي البوابة الرئيسة التي ستدفعه للاطلاع على النص، فالرسوم الجذابة والألوان المشرقة والشخصيات المرسومة بعناية هي عامل الجذب الأول للطفل، سواء في الكتب أم المجلات، يشكل هذا تحدياً كبيراً أمام الرسام.
الفنان أحمد جعيصة، رسام الأطفال، يقول “الأجيال الجديدة أصبح إبهارها أصعب بفعل كم الأشياء المبهرة التي يتعرضون لها من وسائل مختلفة، من بينها الألعاب الإلكترونية والأفلام والتطبيقات المختلفة، فالأمر أصبح أكثر صعوبة بكثير عن مراحل سابقة كانت مصادر المعرفة المتاحة للأطفال محدودة، الأجيال السابقة كان إبهارها أسهل باعتبار أن عنصر الخيال لديهم كان أفضل، بسبب محدودية المصادر المتاحة، فلا يوجد شيء غير التلفزيون ومجلات وكتب الأطفال، الآن ومع ظهور الإنترنت وتعدد المصادر المتاحة للطفل فالوضع أصبح تحدياً كبيراً”.
عدد من مجلة “ميكي” يعود إلى خمسينيات القرن الماضي
ويوضح “رسوم أبطال مجلات الأطفال حالياً لا بد أن تكون تشبههم من حيث شكل الملابس أو تسريحات الشعر أو الإكسسوارات المستخدمة حتى يصدقها الطفل، يمكن ملاحظة ذلك في المجلات التي تصدر من سنوات طويلة وكيفية تغير طابع الشخصيات فيها من حيث الملابس وليس الشخصية نفسها مثل مجلة (سمير) على سبيل المثال، فهي من أقدم مجلات الأطفال وعاصرتها أجيال متعاقبة بأفكار مختلفة، فالتطور سمة الحياة وهو أحد سبب الاستمرار”.
ويستكمل “في عالم مجلات الأطفال فالكاتب والرسام عليهما مسؤولية متساوية مشتركة في الخروج بعمل جيد، فلا بد أن يقدموا سيناريو قوياً مترابطاً له علاقة بالواقع، ويجد فيه الطفل شيئاً من اهتماماته حتى يكون جاذباً بالنسبة إليه، وفي الوقت نفسه لا بد أن تكون الشخصيات مقنعة وقريبة منه، فالمهمة أصبحت أصعب بكثير، أيضاً من الأمور المهمة التي يجب أن يهتم بها القائمون على مجلات الأطفال هو أن يكون هناك جرأة في طرح الأفكار ومواكبة للأوضاع والمشكلات الموجودة في المجتمع، التي يعانيها أطفال اليوم، فلا بد من العمل على توعيتهم فنشرح وليس نمنع”.
أزمات تواجه مجلات الأطفال
قلة الدعم والارتفاع الكبير في أسعار الطباعة ومستلزمات الإنتاج أصبح من أهم التحديات التي تواجهها مجلات الأطفال، بخاصة أن المطبوعة الموجهة للطفل لا بد أن تكون بكاملها بالألوان وبطباعة فاخرة حتى تكون جاذبة للطفل، وأصبح هذا أزمة كبرى ضمن سياق عام تعاني فيه صناعة النشر كلها، مما ينعكس في صورة ارتفاع كبير لأسعار المطبوعات وإحجام من الجمهور على الشراء.
يشير السيد إبراهيم إلى أن “النشر الورقي أصبح مكلفاً ويحتاج إلى دعم كبير، فالمنتج الثقافي عموما أصبح ذا كلفة كبيرة، سواء لمنتجه أو مستهلكه، فأية مطبوعة للأطفال أصبحت مكلفة، باعتبار أن المنتج الموجه للطفل لا بد أن تتم طباعته بجودة عالية والعاملون في مجال أدب الطفل عموماً يجاهدون للاستمرار في ظل ظروف صعبة، غالب مجلات الأطفال موازناتها محدودة وتناضل من أجل البقاء والعاملين في هذا المجال سواء كانوا كتاباً أم رسامين يستمرون لإيمانهم الشديد بما يقدموه ولإدراكهم لأهميته وليس بغرض تحقيق الربح المادي”.
ويتفق مع الرأي السابق الرسام أحمد جعيصه،”كثير من المؤسسات الكبرى لا تعتبر الإصدار الموجه للطفل أولوية، ولا توفر له الدعم الكافي، ومن هنا فإن العاملين في هذا المجال يعملون بدافع من حبهم ورغبتهم في الاستمرار، لكن هذا له تأثير في دخول أجيال جديدة إلى عالم الكتابة والرسم للطفل مما سيشكل أزمة على المدى البعيد، بخاصة مع انخفاض أجور كتاب ورسامي الأطفال في غالب المؤسسات”.