حرية ـ (11/12/2024)
رفيق خوري
في العام الـ 43 من عمر الثورة الخمينية، كتب المحلل كريم سادجادبور أنه لم يسبق أن بدا النظام الإيراني أكثر ضعفاً مما هو عليه اليوم، لكن المرشد الأعلى علي خامنئي كان يتحدث عن موجة الحضارة الإسلامية الجديدة العظمى، ويرى أن أميركا تذوب بالتدرج، واليد العليا هي للشرق الأوسط الإسلامي بقيادة إيران.
ولم يتأخر قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي في المفاخرة بتصدير الثورة والقول إنه مع “مرور الزمن تتسع جغرافياً الثورة وتتقلص مساحة تنفس الأعداء”، من دون أن ينسى التذكير بأن “طوفان الأقصى هو المرحلة الأولى من الزوال الباكر لإسرائيل”، ولا أحد يتصور أن يتوقف المسؤولون في الجمهورية الإسلامية عن رؤية “الغرب تغرب شمسه والشرق تشرق شمسه”، من آسيا حيث إيران في قلب العصر الآسيوي.
غير أن الصورة تبدلت في الواقع أمام موجة هجمات من فصائل المعارضة والفصائل الأصولية، سيطرت بها على حلب وحماة وحمص ثم دمشق، أمام انسحاب القوات النظامية السورية والقوات الإيرانية والرديفة.
والقوة الدافعة مباشرة هي تركيا، مع تذكير أميركي للنظام بأنه ناور كثيراً واتكل على الدعم الروسي والإيراني، وأصر على تجاهل التسوية السياسية وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم (2254) الصادر عام 2015.
والفارق في الانتقال الإيراني من قمة الشعور بالقوة إلى أكثر درجات الضعف هو للمفارقة ما حدث في الحرب التي راهنت عليها طهران، لا فقط في الفصل الجديد من حرب سوريا التي كانت نائمة، بل وأيضاً في نشوة عملية هجوم “حماس” والانتصارات في حربي غزة و”الإسناد” في لبنان، والتي تحولت حرباً مدمرة للبنية التحتية والقيادات.
وقد حدث كل ذلك قبل مسارعة طهران إلى سحب الحرس الثوري وإخلاء المواقع الإيرانية والرديفة في سوريا، وطبعاً قبل أن تدهمها الأحداث المتسارعة على أيدي فصائل معارضة وأصولية قادها أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني، على طريق مفتوح بعد انسحاب الجيش السوري إلى دمشق، وإسقاط نظام الأسد (الأب حافظ والابن بشار) في لمحة عين بعد 61 عاماً من حكم وراثي اتكل على الروس والإيرانيين لحمايته من السقوط، ورفض أية تسوية مفضلاً الخيار العسكري الذي خدمه في البداية ثم رماه على الطريق.
وما كان سؤالاً مغلقاً تحول إلى جواب مفتوح حول العد العكسي إقليمياً ودولياً ومحلياً لنهاية “إيران الكبرى”، فمن الصعب بعد التغيير الكبير في سوريا وإعادتها لموقعها الجيوسياسي السابق أن تتمتع الفصائل المسلحة التي أسستها طهران للدفاع عن مشروعها بما كان لها من حرية الحركة وسهولة التسلح في لبنان والعراق وغزة، ومن دون أذرعها المسلحة ونفوذها الإقليمي فإن الجمهورية الإسلامية مضطرة إلى مواجهة السؤال الذي رفضت مواجهته دائماً، وهو هل تريد أن تكون ثورة أم دولة؟ دولة تهتم بالتنمية والعلاقات الطبيعية مع الدول وإنتاج النفط؟ أم ثورة لإنتاج الصواريخ والمسيرات والبرنامج النووي مع الإصرار على تصدير الثورة والنفوذ العسكري والسياسي بقوه الأذرع؟
وما كان جواباً دائماً هو أن ممارسة الثورة والدولة معاً لم يعد ممكناً، ولا مجال لما سماه كريم سادجادبور في “فورن أفيرز” الاستمرار في “محاولة إقامة إمبريالية تحت عنوان إنشاء ميليشيات لمقاومة الإمبريالية”، وأين؟ على أرض 85 في المئة من شعوبها تحت خط الفقر في العراق وسوريا ولبنان بعد إيران.
الـ “بنتاغون” أعلن أنه لن يذرف دمعة على الأسد، وموسكو أوحت أن اتصالات مع المعارضين قادت إلى تخلي الأسد عن منصبه ومغادرة البلاد، والكل في انتظار دونالد ترمب الذي يبدو في انتظار الانتقال من الحلول الفانتازية إلى البحث في التعقيدات الجدية، فأميركا كلها في ورطة، وما حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 “أنهى الرؤية الأميركية لما قبله وكشف خطأها”، بحسب والي نصر وماريا فانتامي، مع الحاجة اليوم إلى “إستراتيجية أميركية جديدة للشرق الأوسط”.
وليس ذلك بسيطاً كما تصور ركاب الدرجة الثالثة الذين صاروا ركاب الدرجة الأولى في إدارة الرئيس جو بايدن، وكما تصور الركاب الجدد الذين يجيء بهم ترمب بسبب الولاء الشخصي، فالحسابات الوظيفية شيء والرؤية الإستراتيجية شيء آخر، وأميركا باتت تفتقد شخصيات كبيرة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وقد لاحظ المؤرخ في “هارفرد” ستيفن غروبارد في كتاب تحت عنوان “قيادة مكتب: الرئاسة الأميركية من تيودور روزفلت إلى جورج دبليو بوش”، أنه خلال 70 عاماً “تعاظمت أهمية المنصب، لكن نوعية الذين احتلوه تناقصت بصورة دراماتيكية”.
ما بعد سوريا ليس كما قبلها بالفعل، وقد تأخر النظام كثيراً ليدرك أنه كان خارج اللعبة، وتأخرت إيران طويلاً قبل الاصطدام بدرس ثمين خلاصته أنه “لا أحد يربح حرباً بالوكالة”، كما قال البروفيسور مارك لينش في كتاب “حروب العرب الجديدة”، وقديماً قال المؤرخ الإغريقي ثوسيديديس إن “الأقوياء ليسوا دائماً قادرين على فعل ما يريدون، والضعفاء يجدون طرقاً للتمرد على التعليمات بحيث يحافظون على حق القرار لأنفسهم”.