حرية ـ (17/12/2024)
عندما نقرأ عن عظماء العالم القديم نقف بذهول أمام تعدد معارف هؤلاء المبدعين، فعلى سبيل المثال أرسطو إلى جانب كونه فيلسوفاً ومدرساً وكاتباً وناشطاً سياسياً، كان خبيراً في علم الأحياء والميتافيزيقيا والزراعة والطب والأخلاق وعلم النبات، وهيباتيا كانت فيلسوفة وعالمة فلك ورياضيات، وليوناردو دافنشي كان مهندساً ومصمماً ورساماً ونحاتاً وعالماً ومنظراً. وعند هذا الكم من المهارات نسأل: ما كل هذا التوسع والنطاق اللا محدود من المعارف؟ كيف أمكن لشخص أن يكون كل هؤلاء معاً؟
بعض منهم يقول إن العلوم كانت موحدة، ولم يكن هناك هذا التقسيم في التخصصات، وآخرون يقولون إن الخبرة في مجال تساعد في تغذية التميز في مجال آخر، ولكن العلماء أدرجوا هذه الظاهرة تحت مسمى “التعددية المعرفية” التي يصل إليها الشخص بعد أن ينتقل من كونه هاوياً في أكثر من هواية إلى أن يكون متعدد المهارات وصولاً إلى أن يصبح متعدد المعارف، أي يوثق هذه المهارات في خبرات وربما شهادات عليا.
ينصح اليوم بعدم التشبث بمسار واحد ممن مسارات الحياة
التركيز على شيء وحد
لكن الحقيقة أننا لا نرى هذه الميزة (التعددية المعرفية) في عصرنا الحالي، وربما يعزى هذا إلى تعميم فكرة التركيز على تعلم وإتقان شيء واحد والتخصص به، وبذلك نميل إلى التمسك بمسار واحد مع تجاهل المجالات الأخرى التي نملك اهتماماً وإمكانات فيها، ويعتقد العلماء أن هذا ربما يكون الجانب المظلم للتركيز، لأن الدخول بصورة جدية في مجالات مختلفة يوصل إلى استكشاف إمكاناتنا الكاملة بصورة أو بأخرى.
فعدد منا لديه اهتمامات كثيرة متفرقة لكن حين يوزع اهتمامه على واحدة منها تصبح مهنته، وربما يمارسها بعضنا الآخر في وقت الفراغ، وهذا بحد ذاته نوعاً من تعددية المواهب التي بإمكانها أن توصل إلى تعددية المعارف، فالحقيقة أن الشخص يصل إلى “التعددية المعرفية” بعد أن ينتقل من كونه “هاوياً في أكثر من هواية” إلى أن يكون “متعدد المهارات” يجمع بين تخصصات عدة بطريقة عملية، وصولاً إلى أن يصبح “متعدد المعارف”، أي يوثق هذه المهارات من خلال الدراسة والممارسة في خبرات وربما شهادات عليا.
لكن ماذا عن الحال الوسط بين تعدد الهوايات والتعددية المعرفية؟
تعددية المواهب
يعرف قاموس “كامبريدج” الشخص المتعدد المواهب بأنه ذاك الذي يقوم بوظائف عدة مرتبطة إلى حد ما وذات صلة بصورة أو بأخرى، ولديه مهارة كبيرة في كل منها، وكأنها قاعدة غير معلنة من المواهب المفيدة والمترابطة والمتوافقة بصورة صارمة للوصول إلى زيادة في العمل والمكتسبات.
ومن هنا نجد أن لميزة “تعدد المهارات” في عصرنا الحالي أهمية لا يمكن تجاهلها، ولكن في الوقت ذاته تبدو وكأنها لعنة على بعض منا، إذ يعد انتشار مصطلح تعدد المهارات نتاج ثقافة تشجع الأشخاص الموهوبين على القيام بما يحبونه من جهة، وتعاقبهم على القيام بذلك من جهة أخرى، من خلال قلة تقدير عملهم أو عدم الاعتراف به أصلاً.
كما أنها تشعر الشخص الآخر بالارتباك أمامها، كأن تقرأ في السيرة الذاتية لأحدهم أنه كاتب ومذيع “بودكاست” وصانع أفلام وكاتب سيناريو معاً، هذا الجمع بين هذه العناوين يعطي انطباعاً مختلفاً تبعاً للأشخاص، فالأكيد أن التطوير والترقية والتدريب المستمر واقع تتطلبه كل المهن على اختلافها، إلا أن السؤال هل الجميع ينطلق من حب التعلم والتطوير أم أن الحاجة والرغبة في البقاء تعملان خلف الكواليس؟
أعمال جانبية
إذ نجد أصحاب المهارات المتعددة متمسكين بألقاب تتعلق بمهاراتهم المختلفة، على رغم عدم قيامهم بأعمال ترتبط بها جميعاً، لكن بسبب انعدام الأمان المالي والمستقبل غير المضمون يحاول المبدعون الترويج لأنفسهم من خلال مهاراتهم كلها، عسى أن تصيب واحدة منها، لذا يعتقد بعض منهم أن تبني هذه العقلية نتيجة لاقتصاد العمل الموقت، إذ يحتاج الناس إلى أعمال جانبية عدة لتغطية نفقاتهم، فبحسب الإحصاءات بحلول عام 2021 كان نحو 64 في المئة من جيل الألفية في الولايات المتحدة يديرون عملاً جانبياً إلى جانب وظائفهم بدوام كامل، في حين كان يعتقد، في وقت سابق من عام 2019 أن المسار الوظيفي المتعدد المهارات يقتصر على رواد الأعمال فحسب.
صعود مفهوم المسارات المتعددة
ولكن ينصح اليوم بعدم التشبث بمسار واحد من مسارات الحياة، في مقابل الانفتاح على مسارات عدة في وقت واحد، والتحرك أيضاً بعيداً من التخصص بما يتماشى مع انتقالنا نحو اقتصاد قائم على المعرفة والمعلومات وإنتاج المحتوى، بالانطلاق من نطاق الخبرات والقدرات ذاتها، فكون المرء متعدد التخصصات يوفر عامل تميز آخر للعلامة التجارية يمكن أن يساعد العملاء المحتملين في فهم مدى اتساع نطاق مهاراتك على الفور، ففي عصر يؤكد على العلامة التجارية الشخصية، تبني عقلية متعددة المواهب ينقل المرء إلى مكان يستطيع فيه إظهار من هو وما الذي يجيده بالضبط، والتمكن من كسب لقمة العيش من خلال المواهب المتعددة.
والحقيقة أن هذه العقلية توصل إلى هوية إبداعية مركبة ترتكز على مثال “الرجل الذي يتقن مهناً عدة” جامعاً بين قوة الإنتاج والقيمة الفردية، الذي يخوض في عدد من المهارات، بدلاً من اكتساب الخبرة من خلال التركيز على واحدة فقط.
ونجد اليوم عدداً من المشاهير يصفون أنفسهم بمتعددي المهارات أو المهن، بغض النظر عن مستواهم المادي، على سبيل المثال باريس هيلتون مديرة تنفيذية ورائدة أعمال وفنانة و”دي جي” وعارضة أزياء وممثلة ومغنية وناشطة إنسانية ومستثمرة، بحسب وصفها.