حرية ـ (29/12/2024)
احمد الحمداني
تعيش العديد من الدول العربية والإسلامية في مرحلة من الضياع السياسي والاجتماعي، حيث تزايدت حدة الانقسامات المذهبية والسياسية بشكل لم يسبق له مثيل. وإذا كان التاريخ قد شهد العديد من الاختلافات بين الطوائف الإسلامية، فإن تلك الانقسامات قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في العصر الحديث، خاصة في الفترة التي تلت الحروب الطائفية والصراعات الإقليمية.
ما نشهده اليوم من تزايد للخطاب الطائفي بين السنة والشيعة ليس مجرد نتاج طبيعي للاختلافات المذهبية، بل هو نتيجة لتوظيف سياسي مقصود لعبت فيه القوى الإقليمية والدولية دوراً محورياً، ما ساهم بشكل كبير في صناعة الفتنة والطائفية وتفتيت مجتمعاتنا.
ينبغي أولاً فهم خلفية الصراع المذهبي بين السنة والشيعة. في جوهره، يعود هذا الخلاف إلى مسألة الخلافة بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث اختلف المسلمون حول من هو الأحق بخلافته.
هذا الانقسام، الذي بدأ كخلاف سياسي، تطور لاحقًا ليأخذ طابعًا دينيًا وعقائديًا.
رغم أن هذا الخلاف كان خلال فترات طويلة من التاريخ الإسلامي محصورًا في مجالات فكرية وفلسفية، إلا أنه تطور تدريجياً ليأخذ طابعًا اجتماعيًا وثقافيًا في بعض مناطق العالم الإسلامي.
لكن في العصر الحديث، أصبح هذا الخلاف المذهبي أداة قوية في يد القوى السياسية.
فقد سعت بعض الدول الإقليمية، مثل إيران والسعودية، إلى تعزيز انتماءات طائفية معينة لتقوية نفوذها في المنطقة. بينما استخدمت قوى أخرى، مثل الولايات المتحدة، الانقسامات الطائفية لتعزيز مصالحها الاستراتيجية، ما أسهم في تعميق الهوة بين السنة والشيعة. في هذا السياق، تحولت الطائفيات إلى أداة تدميرية بيد الأنظمة والجماعات التي تسعى للاستحواذ على السلطة والموارد.
العوامل الجيوسياسية، مثل الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، والحرب السورية (2011-الحاضر)، وأحداث البحرين واليمن، كلها ساعدت في تفاقم هذه الانقسامات.
استخدمت الدول الكبرى هذه الصراعات لتأجيج نار الخلافات الطائفية، ما أضر بوحدة الأمة الإسلامية وأدى إلى زيادة التطرف والعنف.
تستفيد بعض الأنظمة السياسية من هذا الانقسام المذهبي لصالحها، على الرغم من أن هذه السياسة تؤدي في النهاية إلى تقويض استقرار الدولة ووحدتها.
فعندما يتم استثمار الخلافات المذهبية في سياقات سياسية واقتصادية، يضعف ذلك الهوية الوطنية ويؤدي إلى ظهور صراعات داخلية، ما يسهل التلاعب بمفاصل الدولة.
في الدول التي تشهد صراعات طائفية، مثل العراق وسوريا ولبنان، يتم استغلال النزاع المذهبي لشرعنة التدخلات الخارجية، ولتفتيت النسيج الاجتماعي، وهو ما يؤدي إلى تآكل مفهوم الدولة الوطنية ويحل محله الولاء الطائفي أو الإثني.
وبدلاً من أن تكون الدولة مرجعية سياسية جامعة، تتحول إلى مجرد ساحة صراع بين جماعات دينية وطائفية.
إن الضياع الحقيقي الذي تعيشه بعض الدول العربية والإسلامية لا يتعلق فقط بالاختلافات المذهبية، بل بتدهور النظام السياسي نفسه.
في ظل غياب الدولة القوية، تصبح الجماعات الطائفية هي البديل الذي يبحث عنه الأفراد بحثًا عن هوية وحماية.
هذا يؤدي إلى نشوء دول فاشلة، حيث تفقد الحكومات القدرة على فرض النظام وتحقيق الأمن والمساواة بين مواطنيها.
وفي سياق هذا التدهور، لا يبقى للمواطنين سوى التعلق بالانتماء المذهبي أو الطائفي، مما يعمق من الأزمة ويجعل من الصعب إعادة بناء دولة موحدة ذات هويات وطنية مشتركة.
مع تنامي هذا الواقع، تتراجع القيم الديمقراطية وتزداد النزاعات المحلية، مما يجعل من الصعب العودة إلى السلام والاستقرار.
في النهاية، إن معالجة قضية التفرقة المذهبية بين السنة والشيعة تتطلب رؤى سياسية ومجتمعية جديدة.
يجب أن تتجاوز هذه الرؤى الانتماءات الطائفية الضيقة وتبني خطابًا جامعًا قائمًا على المواطنة والمساواة.
تتطلب هذه المرحلة إعادة بناء الهوية الوطنية على أسس من التعاون والتعايش بين مختلف المكونات، بعيدًا عن أي محاولة لاستغلال الدين أو المذهب لأغراض سياسية.
إن استعادة الوحدة الوطنية لا يتحقق إلا بتفعيل مؤسسات الدولة، وتعزيز الحريات، وإيجاد حلول سياسية تستند إلى المصالحة الوطنية الشاملة التي تضع مصالح الوطن والمواطنين فوق أي اعتبار طائفي أو مذهبي.