حرية ـ (29/12/2024)
عبدالله عبدالسلام
«منين بييجى الشجن؟.. من اختلاف الزمن. ومنين بييجى السواد؟.. من الطمع والعناد.. من انكسار الروح فى دوح الوطن».. هكذا أبدع الراحل القدير، سيد حجاب، فى «تتر» رائعة الراحل، أسامة أنور عكاشة، «ليالى الحلمية». يمكننا أن ننسج على نفس المنوال، ونسأل: منين بييجى التغيير؟.. من الاعتراف بالواقع الحزين. ومنين بييجى الأمل؟.. من الاستعداد لتجاوز الألم. ٢٠٢٤ سيكون من أعوام العرب الأليمة فى العصر الحديث مثل ١٩١٧
(وعد بلفور)، و١٩٤٨ (النكبة)، و١٩٦٧ (النكسة)، و١٩٩٠ (غزو الكويت) و٢٠٠٣ (غزو العراق). فى العام الذى يغادرنا، أصبحت غزة نتيجة العدوان الإسرائيلى الهمجى مسلخًا تجاوز عدد الشهداء فيه ٤٥ ألفًا. أضحى القطاع كومة تراب. عادت المستوطنات، وأصبح الترحيل شبه إجبارى. تلاشى حلم الدولة الفلسطينية. استباحت إسرائيل لبنان، وقضت على قوة حزب الله. سقط حكم الأسد الدموى، لكن سوريا أمامها مخاض عسير حتى تعود دولة طبيعية. تركيا أصبحت اللاعب الإقليمى الرئيسى هناك. إسرائيل تستعد لدور إمبراطورى فى المنطقة.
السؤال: ماذا سيفعل العرب؟. ربما كان التاريخ وتجارب الآخرين خير معين على الإجابة. عقب الحرب العالمية الثانية، كانت اقتصاديات أوروبا، سواء الدول المنتصرة أو المهزومة، تلامس الأرض. البنية الأساسية مُدمرة، والناس لا تجد قوت يومها. كان قرار السياسيين أن التعاون بين أبناء القارة هو السبيل الوحيد للبقاء. بدأت أولى خطوات الوحدة الأوروبية فى الخمسينيات. اختار الآباء المؤسِّسون التكامل فى قطاع الفحم فقط، ثم توسع الاندماج والتحقت به دول عديدة أخرى، إلى أن وصلنا إلى اتحاد أوروبى يُعد القوة الثالثة فى العالم اقتصاديًّا بعد أمريكا والصين. كانت الواقعية السياسية البديل للأيديولوجيات. الحلول الوسط بين الدول أساس العلاقات. لا أحد سيحصل على كل ما يريد، ولا أحد سيخسر كل شىء. فى السنوات الأخيرة عندما زادت الأحلام المثالية، وتحدث مسؤولو الاتحاد عن سياسة موحدة وقوانين تحكم كل الأوروبيين، شعرت شعوب عديدة أنها ستذوب داخل كيان عملاق لا يراعى خصوصياتها. خرجت بريطانيا ٢٠١٦، وتراجعت شعبية الاتحاد فى دول عديدة.. عندما تتخلى عن الواقعية، تكون تلك هى النتيجة.
الزعيم الصينى الراحل دينج شياو بينج، الذى تولى السلطة عقب وفاة الزعيم الثورى ماوتسى تونج، توصل إلى أنه حتى تتقدم بلاده، وتقلل الفجوة مع الغرب، لابد من استيعاب بعض عناصر السوق والرأسمالية فى الاقتصاد الاشتراكى. بعد أن كان ماو يقول: «من الأفضل أن نظل فقراء فى رحاب الاشتراكية على أن نكون أغنياء فى ظل الرأسمالية»، رد دينج: «لا يهم لون القط. المهم أنه يصطاد الفئران». المسألة ليست رأسمالية ولا اشتراكية، بل مصلحة وتقدم الصين وشعبها. زعيم سنغافورة الراحل، لى كوان يو، الذى خلق دولة من عدم لتُصبح فى مصافّ الدول الأكثر تقدمًا، كان يفتخر بأن: «بلاده خالية من الأيديولوجيا مثل خلو المشروبات الغازية من السكر. أيديولوجية سنغافورة الوحيدة هى الطريقة الناجعة التى تعمل بها. إذا نجحت الطريقة فسنستمر فيها، وإذا فشلت فسنتخلص منها ونجرب غيرها».
فى عالمنا العربى، بدأنا مشروع الوحدة العربية بالتزامن مع أوروبا، لكن الأهداف كانت مثالية لم تصمد على أرض الواقع. جربنا الأيديولوجيات. بدأنا بالاشتراكية. وسواء كان التطبيق السبب أو الأفكار ذاتها، لم تكن النتيجة مرضية، حتى للمؤمنين بها. جربنا خليطًا غريبًا بين الاشتراكية والرأسمالية، ولم ننجح أيضًا. على المستوى السياسى، تقلبنا بين الأنظمة القومية والوحدوية والدينية، ولم تكن المحصلة سعيدة على الإطلاق. ما حدث عام ٢٠٢٤ كان ردًّا أليمًا ومأساويًّا على التخبط والجرى وراء أهداف غير واقعية.. حروب أهلية فى السودان واليمن وليبيا. سقوط نظام بشار، الذى قدم الأيديولوجيا على مصالح الناس وأمنهم. فشل التنمية فى غالبية الدول.
لماذا لا تكون الواقعية السياسية أسلوبنا الجديد فى التعامل مع مشاكلنا ومع العالم؟ لماذا لا تكون المصلحة والنضج السياسى وأخذ قدراتنا الحقيقية وليس المتوهمة فى الاعتبار هى الأسس التى تحكمنا؟. تاريخنا الحديث ليس تاريخ فرص مهدرة بقدر ما هو أحلام مثالية طاولت عنان السماء دون أن تكون لدينا الإمكانات أو الإرادة لتحقيقها. زعماء وسياسيون كثيرون رفعوا سقف الطموحات ثم فاجأهم الواقع، فإذا بالطموحات تتحول إلى إحباط وكآبة وندم.
الرئيس الأمريكى السادس والعشرون تيودور روزفلت يقول: «افعل ما تستطيع بما لديك، أينما كنت». الواقعية ليست كلمة سيئة ولا تكريسًا للضعف أو المهانة. إنها التوظيف السليم للموارد والإمكانات، والتدرج فى تحقيق الأهداف، وقبل ذلك، معرفة حدود قدراتنا فى هذا العالم.