حرية ـ (5/1/2025)
عبدالله الجديع
كثيرةٌ هي الكُتب التي ذاعَ صيتها بلغة الضَّاد وصار كتَّابها جزءًا من الثقافة العربية، حتى أضحتْ الإحالة إليها علامةً على أنَّ القائل أو الكاتب من النُّخب الثقافية، ومن هؤلاء علي عزت بيجوفيتش الرئيس السَّابق لجمهورية البوسنة والهرسك، وغني عن البيان الحاجة إلى إعادة قراءة ما اعتدنا عليه مرةً أخرى لنعرف الفرقَ بين الحقائق وما تنتجه الدِّعاية، فبيجوفيتش أحدُ أولئك الذين كانوا عُرضة لدعاية كبرى سيَّما وهو سياسي ارتبط اسمه بأحداث البوسنة والهرسك (1992-1995) الدَّامية، وفي هذا المقال إعادة قراءة للرِّجل ومواقفه، سعيًا للموضوعية في النظرة النقدية إليه وإلى تجربته، التي لم تلتفت إليها أكثر المقالات عنه، بقدر ما اكتفت بالشِّعارات الرَّمزية وتحويله إلى ما يشبه الأسطورة، باعتبار أنه صوتُ الإسلام في أوروبا أو العقل العبقري الذي استطاع أن يهضم الشرق والغرب وينتصر للإسلام، وبعبارة مترجم أغلب أعماله محمد يوسف عدس الذي عرَّف به وبفكره، فقال: ((الينبوع الإنساني الخالد للمفكر الإسلامي المبدع والقائد السِّياسي والرُّوحي المُلهم علي عزت بيجوفيتش)) (1)، أو كما وصفه عبد الوهاب المسيري: ((إنه ليس مجتهدًا وحسب، وإنما هو مجاهد أيضًا، فهو مفكر ورئيس دولة)) (2).
ولد علي عزت سنة 1925 في البوسنة، وكان جدُّه ضابطًا في الجيش العثماني (3) خدم في بلدة أسكدار التركية، وانضم بيجوفيتش إلى جماعة اسمها (الشبان المسلمون) في الأربعينات، يقول محمد يوسف عدس كاتب سيرة بيجوفيتش بالعربية عن هذه الجماعة: ((هذه الجماعة كانت تشكِّل معارضةً حقيقيةً للنظام القائم)) (4)، ولا يتحدَّث عما كان يدور قبل قيام جمهورية يوغسلافيا إنما تحدث عن معاداة الشيوعيين لهذه الجماعة من باب أنَّ ((الهجوم عليها وعلى قياداتها وعلى الإسلام نفسه هجومٌ عنيفٌ ظالمٌ به حشدٌ من الافتراءات والأكاذيب)) (5)، وكان أول سجن لبيجوفيتش سنة 1946 بتهمة الانتماء لهذه الجماعة، فما حقيقة هذه الجماعة هل كانت دعوية كما أشاع عدس ومن ردَّدوا كلامه أو غير ذلك؟
لقد احتلت ألمانيا النازية كرواتيا وأسست دولةً دميةً تابعةً لها تدعى (دولة كرواتيا المستقلة) سنة 1941، وضمت كرواتيا الحديثة تقريبًا، وكلَّ البوسنة الحديثة والهرسك، وكذلك أجزاء من صربيا، ودعمت لتوطيد حكمها محمد الخانجي البوسنوي الذي كان شيخًا أزهريًا زار مصر وتخرج من الأزهر سنة 1931، وفي مصر اختلط بالحياة الثقافية التي نشطتْ فيها جماعة الإخوان المسلمين، ثم رجع إلى البوسنة وأسس جمعية العلماء (الهداية) وتحالفت هذه الجمعية مع الشبان المسلمين الذين كان منهم علي عزت(6) في المدَّة نفسها التي كانت فيها دولة كرواتيا المستقلِّة التابعة للنازيين، وكان الخانجي يرى ((أنَّ الحلَّ الوحيد هو دولة إسلامية مستقلة تحت حماية هتلر، ووصل الأمر إلى أن اقترحَ الخانجي خطةَ توطينٍ دينية لإنشاء مناطق إسلامية خالصة)) (7).
وفي ذلك الوقت كان جوزيف تيتو يقاوم الاحتلال النازي سنة 1943، حتى انكسرت ألمانيا وأصبح رئيس جمهورية يوغسلافيا 1945، وشملت الجمهورية الجديدة بعد قيامها البوسنة والهرسك حتى تفككها سنة 1992، وبقيت جمعية العلماء ((الهداية)) والشبان المسلمين على نشاطهم بعد قيام يوغسلافيا فتتبعت الدولة عناصر المجموعة وسجنت بيجوفيتش لتلك العلاقة بالنازية أثناء احتلالهم في الأربعينات، إذ كان مؤيدًا للفرقة الجبلية فافن الثالثة عشر إس إس هاندشار (8)، وكلمة (هاندشار) نسبة إلى السِّيف الذي كان يحمله رجال الشُّرطة الأتراك في الإمبراطورية العثمانية، فسجن بيجوفيتش سنة 1946 بتهمة التعاون مع النازية وحكم عليه بالسِّجن لمدة 3 سنوات.
وفي 2001 أصدر بيجوفيتش مذكراته، ولم يشر إلى هذا التحالف بين جمعية (الهداية) والنازيين بكلمة بل قال: ((قلَّصتُ نشاطي في عام 1944، وذلك لأنني لم أكن مسرورًا من قيام المنظمة بعقد حلف مع منظمة علماء الدين (الهداية)، ولم أتفق أبدًا مع رابطة العلماء على الرَّغم من أنني أحترم الكثير منهم، لقد كنتُ أعتقدُ أنه لا ينبغي أن يكونَ هناك طبقةٌ اجتماعية خاصة حكرًا على العلماء أو المشايخ) (9).
بلا أيِّ كلمة عن التحالف الذي عقده رئيس جمعية (الهداية) الخانجي مع النازيين، ولا أنَّ جماعة الشبان المسلمين صارت جسمًا شبابيًا لمنظمة هداية، ولا إلى ماضيه هو نفسه أو تهمته التي وجهت إليه سنة 1946، بل كل ما في الأمر أنَّه قلص نشاطه-ولم ينسحب-لآرائه الاجتماعية التي ذكرها، رغم أنَّ تلك الجمعية كانت من أعوان النظام النازي، وكان هؤلاء مشتبه بهم بالتعاون مع المحتلين، ولكنَّ الحالة الدولية كانت في صالحه إعلاميًا، إذ بدأت الحرب الباردة بين العالم الشيوعي والغرب الرأسمالي مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، أي: عام قيام يوغسلافيا التي سجن فيها، وكانت التقارير الصحفية الغربية تتحدث عن اضطهاد ديني يمارسه الشيوعيون، دون اهتمام بالتهم التي رفعت ضد هؤلاء في المحاكم.
وفي 1970 كتب بيجوفيتش (الإعلان الإسلامي) وحاكى فيه الطريقة الشيوعية التي اشتهرت مع (الإعلان الشيوعي) سنة 1848، وقد ترجم (الإعلان الإسلامي) محمد يوسف عدس-وهو محسوب على جماعة الإخوان ممن رثاه القرضاوي حين مات-ويبدأ إعلان بيجوفيتش بتوضيح غايته ((إقامة مجتمع إسلامي موحَّد من المغرب إلى أندونيسيا)) (10)، وسعيه لقيام نظام إسلامي إذ إنَّ: ((المجتمع الإسلامي بدون السُّلطة الإسلامية مجتمع ناقص)) (11)، مع تأكيده على أنه ((لا يمكن أن يوجد سلام أو تعايش بين الدِّين الإسلامي والمؤسسات الاجتماعية والسِّياسية اللا إسلامية)) (12)، وصرَّح فيه بأنه ((لا يقوم نظام إسلامي دون استقلال)) (13)، ((إننا بإعلان الصحوة الإسلامية لا نبشر بعهد من السَّلام والدَّعة، بل نبشر بعهد من القلق والمعاناة فهناك أشياء كثيرة تستدعي القضاء عليها)) (14)، ((علينا أولًا أن نكون دعاة ثم بعد ذلك جنودًا مجاهدين)) (15).
وفيما سبق كان يلخِّص أهم أفكار سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) الذي كتب فيه: ((الإسلام لا يملك أن يؤدي دوره إلا أن يتمثل في مجتمع)) (16)، ((المجتمع المسلم، المجتمع الذي يصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياته الاجتماعية) (17)، ((المجتمع الإسلامي لا يتحقق إلا بهذا…في الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه ويعملون هذا تحت قيادة مستقلة)) (18)، ((تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله والتصورات تواجهه بالدعوة… وتواجهه بالقوة والجهاد)) (19)، لقد عاش سيد قطب في مصر وصادم الدولة المصرية بنظام جمال عبد الناصر الذي شكَّل مع تيتو رئيس يوغسلافيا حركة عدم الانحياز وكان المؤتمر الأول لهذه الحركة في بلغراد سنة 1961، واقتبس بيجوفيتش أفكار سيد قطب وأذاعها في يوغسلافيا كذلك، على خطوات سيد قطب في مهاجمة النظام المتقارب مع النظام المصري.
وبقيت فكرة الانفصال وإنشاء كيان إسلامي تختمر في رأس بيجوفيتش فكتب سنة 1972 مقالًا بعنوان (الثورة الإسلامية)، ومما جاء فيه:
((الطاقات الإسلامية عليها أن تقلع عن التفكير بصفتها جزائرية أو ليبية، عراقية، أفغانية، صومالية، أو نيجيرية إلخ، كل هؤلاء يجب أن يكونوا مسلمين فقط، وسياستهم يجب أن تكون إسلامية، لا عربية أو تركية أو فارسية أو أندونيسية)) (20)، داعيًا إلى ((الجهاد من أجل القضاء على الاحتلال السياسي والفكري والروحي الأجنبي، لتحقيق الاستقلال الشكلي والحقيقي للدول الإسلامية)) (21)، ((إنَّ الجهاد من أجل هذا البرنامج العملي يجب أن يأخذ شكل العمل المنظم… لأنَّ الإسلام طريقة عمل أكثر من كونه طريقة تفكير، ومنهج حياة أكثر من كونه منهج فلسفة)) (22).
وهي الأفكار نفسها التي دعا إليها سيِّد قطب قبله فقال: ((الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة التي يتساوى فيها العربي والرُّومي والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله)) (23)، ويتحدَّث عن الدين بأنه ((لم يكن إعلانًا فلسفيًا سلبيًا إنما كان إعلانًا حركيًا واقعيًا إيجابيًا إعلانًا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله)) (24)، ((المجتمع الإسلامي وليد الحركة، والحركة فيه مستمرة، وهي التي تعيِّن أقدار الأشخاص فيه وقيمهم، ومن ثَم تحدد وظائفهم فيه ومراكزهم)) (25).
على أنَّ النِّظام في يوغسلافيا لم يكن مماثلًا في ممارساته لما سادَ في ذلك الوقت في غيره من الأنظمة الشُّيوعية الأخرى كالصِّين والاتحاد السوفيتي كما أشيع في أدبيات المعجبين ببيجوفيتش فنظام تيتو اختلف مع الاتحاد السوفيتي فهو من مؤسسي حركة عدم الانحياز، أي: عدم الانحياز إلى الولايات المتحدة، أو الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة، فلا يعتبر نفسه جزءًا من الكتلة الشرقية، ولا يريد أن يُحسب كذلك على الغربية، وكان لهذا أثر على سياسته الداخلية فسمح بحريات كبيرة للأديان، وحينها ((شعر المسلمون بنوع من التسامح الديني الذي مكنهم من الاستمرار في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية أكبر مما هو في كثير من البلدان الشيوعية المجاورة)) (26).
سعى تيتو لصداقة الدول العربية والإسلامية، وفي عام 1961 وللمرة الأولى مُنحت صفة مسلم في المعجم الاثني اليوغسلافي كتدليل على الأصل العرقي (27)، وفي عام 1968 اتخذت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في البوسنة قرارًا بالاعتراف بالمسلمين كقوم (28)، وفي 1971 تم الاعتراف بالمسلمين البوسنيين ومنحهم صفة ودرجة القومية المستقلة أُسوة بالصرب والكروات والسلوفانيين في عموم يوغسلافيا (29)، وقام تيتو بإصلاحات دستورية سنة 1975 حتى إنه أعطى كوسوفا كيانًا سياسيًا مكافئًا لمستوى الجمهوريات اليوغسلافية الأخرى، وسمح ببناء مساجد للمسلمين في بلجراد، وإنشاء معهد للدراسات الإسلامية في سرايفو (30)، لقد بُني في ذلك العهد 600 مسجد (31).
ومع ذلك رأى بيجوفيتش الاستقلال للمسلمين عن يوغسلافيا التي عاش فيها منذ إعلانه في السَّبعينات، والصِّدام مع النظام الذي حصَّل المسلمون فيه مكتسبات كبيرة تعترف بهم، إيمانًا منه بالسَّعي للسيطرة على السلطة لإنشاء مجتمع إسلامي بدولة إسلامية في أوروبا، كما هو حال الإخوان في مصر حين رفعوا هذه الشعارات ضد جمال عبد الناصر، ولم يعبأ بيجوفيتش بفشل تجربة نموذجه القطبي بإعدام سيد قطب في 1966، بل رأى أن يكرر التجربة في يوغسلافيا.
وفي 1983 قبضت السُّلطات على بيجوفيتش وحكمت عليه بالسِّجن 14 عامًا بتهمة العمل على قلب نظام الحكم لإقامة دولة إسلامية، وكان عمله (الإعلان الإسلامي) الذي كتبه في 1970 قد اعتبر في المحكمة دليلًا على هذه التهمة، وهو الذي سجن في الأربعينات بتهمة التواطؤ مع النازيين، وفي سجنه في فوتشا كتب خواطره ما بين (1983-1988)، وطبعت تلك الخواطر في كتاب بعنوان (هروبي إلى الحرية)، وفيه تأثر بأسلوب الشذرات الذي انتشر في أوروبا كما هو حال كتب ماركوس أوريليوس، باسكال، ونيتشه، وغيرهم، ويظهر أنَّه في سجنه قد سمح له بقراءة ما رغب من الكتب والاحتفاظ بمدوناته وسجَّل إعجابه بالعديد من الأدباء والفلاسفة الغربيين، وتظهر في كتابه ثقافته الأوربية الكبيرة التي لا تقارن بضعف ثقافته بالإسلام، وهو نفسه يقرَّ بهذا، فكتب: ((لا أعرف ماضي أمتي أو لا أعرفه كما ينبغي ولكنِّي أعرف حاضرها، أي: أعرف النتيجة، ومن هذا الحاضر يمكنني أن أستنتج الكثير عمَّا سبقه)) (32).
ولا تتساوى أهمية تلك الشذرات، فقد تكون بلا كبير معنى مثل قوله: ((هل يمكن أن يقال شيء عن العدم؟)) (33) وتنتهي إلى هنا الشذرة، أو قوله: ((يمكن للنار أن تدفئنا، ولكنَّها يمكن أن تحرقنا أيضًا)) (34)، إلا أنَّ شذراته الأهم كانت تفصح عن حالته النفسية وأي حزن ألمَّ به: ((ربما يكون الحزن هو الحالة الطبيعية للرُّوح في هذا العالَم)) (35)، وتكشف عن تصوُّراته الدينية إذ يرى التصوُّف طريق الإسلام الأقرب إلى الله ((ثمة طريقان إلى الله مختلفان تمامًا: طريق المنطق، وطريق التصوّف، الأول غير مباشر، والثاني مباشر)) (36).
ويؤكدُ على ضرورة التضحية في تصوُّره الديني ((كل الأديان الزائفة هي أديان مصالح، أما الدين السماوي وكل الأديان الحقة فهي أديان تضحية)) (37)، وكتب: ((يبدو التفاؤل أحيانًا مثيرًا للسخرية)) (38)، كان مزيجًا من كل هذا من الاستعداد للتضحية، مع الإحباط والتصوُّف، وأفكار ضرورة الانفصال والاستقلال والحاكمية في تأثر بمفاهيم سيِّد قطب، مع الإعجاب بشخصية المخلِّص كما هي في الثقافة المسيحية ((وصف شخصٌ ما المسيح بأنه الشخصية الأكثر صمودًا في تاريخ البشرية وإنه كذلك)) (39).
لم يُكمل بيجوفيتش مدَّة حكمه في السِّجن وخرج عام 1988 ليجدِّدَ نشاطه السِّياسي فشارك بتأسيس حزب العمل الديموقراطي 1989، وصار رئيسه سنة 1990، وبه أضحى رئيس البوسنة في بداية التسعينات، وهي بداية أفول الشيوعية والاشتراكية في العالَم وبداية التفرُّد الأمريكي وكانت ضريبة ذلك تمزق يوغسلافيا، وقد لمس بيجوفيتش موافقة الولايات المتحدة على استقلال البوسنة مما دفعه إلى إعلان الاستقلال وهو ما أدى إلى حرب طاحنة وعمليات تطهير عرقية قادها اليمين الصربي تجاه البوسنيين المسلمين مع انهيار يوغسلافيا سنة 1992.
ومع الحرب تدفق متطوعون إلى البوسنة للقتال في مواجهة الصِّرب، وكان بينهم متطوِّعون عرب من عدة دول ومنهم من له سابقة في حرب أفغانستان 1989، وكان أحد المقاتلين العرب المصريين في أفغانستان قد تعرَّض لتجربة البوسنة ومشاركة العرب فيها في كتاب بعنوان (تجلية الراية) وهو أحمد حازم، وسجَّل بعض الملاحظات وتعبِّر عن مزاج بعض المتطوعين الذين سبق أنَّ شاركوا في أفغانستان، كتب: ((كان مستغربًا اعتبار عليًا [يقصد بيغوفيتش] أصوليًا مجاهدًا بينما كانت صور مديرة أعماله ومترجمته ابنته سابينا بيجوفيتش تتصدر الصحف بالملابس الغربية الفاضحة)) (40)، ((كان شباب سريبرينتسا المسلم يعلِّق شارات الجيش الألماني النازي أو الكرواتي ليغيظ الصرب في بداية الحرب)) (41)، ويعترض على منع القوات التابعة لبيجوفيتش محاولات ((بعض المتطوعين تدمير مقاهي لبيع الخمور ولعب الميسر في مدينة ترافنك وزاد عليها بطردهم خارج الكتيبة ومصادرة سلاحهم الفردي)) (42). ويعترض على بيجوفيتش لأنه ((فتح الباب بلا تحفظ للحرس الثوري الإيراني إبان حرب البوسنة وانتشرت صور الخميني وخامنئي على أعمدة الإضاءة في مدينة زينتسا البوسنية الكبيرة كما سمح لهم بالدعاية لعقيدتهم وتدريب بعض وحدات الجيش مثل اللواء المسلم السابع)) (43)، ويقول عن سلوك تلك العناصر الإيرانية والموالية لها: ((لم يضيِّع رجال الحرس الثوري وحزب الله الوافدين على البوسنة وقتًا في جبهات القتال وانخرطوا في زواج المتعة بأكبر عدد من فتيات البوسنة المعدمات في تلك الأيام، شملت أنشطتهم توزيع صور الخميني ومؤلفاته على البوسنيين الذين لم يكن أكثرهم يعرف قراءة الفاتحة)) (44).
لقد اعتبر بيجوفيتش بعد ذلك أنَّ جلبَ متطوعين للقتال في البوسنة قد تسبَّبَ بضررٍ أكبر من النفع الذي كان يؤمله فيهم (45)، متغافلًا عن كونه ساهم في تضليل الذين ذهبوا إلى البوسنة فهو الذي كان قد كتب في 1970 عن المجتمع المسلم الذي سيحكم فيه المسلمون على ما هي أفكار سيد قطب عن الحاكمية ثم فاجأهم بتصريحاته في 1992: ((إنه لا ينوي إقامة دولة إسلامية كما يُشاع عنه، إنما هي دولة مدنية)) (46).
أما جماعة الإخوان فقد استغلت الأحداث الدَّامية لنشر الخطابات المعهودة منها عن كون ((التكتل الصليبي الصهيوني لم يكن في يوم من الأيام أشد تآمرًا على الإسلام منه اليوم)) (47) كما كتب محمد قطب شقيق سيِّد قطب، وأثمر ذلك بإنشاء مؤسسات إغاثية ضمنت موارد مالية جديدة للجماعة ليس في البوسنة والهرسك فقط بل في عموم أوروبا، وانتهت الحرب بتوقيع بيجوفيتش على اتفاق دايتون 1995، حيث قُسمت البوسنة والهرسك ونتج عن ذلك سلطة معقَّدة، ولم يتحقق شيء مما كان يذيعه بيجوفيتش من قبل عن (المجتمع المسلم) الذي يستقل، عانى من حربٍ دامية دفعته إلى تحطيم شعاراته التي رفعها سنة 1970: ((لا يمكن أن يوجد سلام أو تعايش بين الدين الإسلامي والمؤسسات الاجتماعية والسياسية اللا إسلامية)) (48).
وبعد أن كان يرى ضرورة وجود مجتمع من المغرب إلى أندونيسيا في إشارة إلى الخلافة، ويطالب كل مواطن عربي ألا تكون سياسته وطنية بل إسلامية، صار يعرِّف نفسه على أنه ((أوروبي)) (49)، وهكذا انتهى به الأمر إلى انتماء قاريٍّ أوروبي دون مراجعة منه لنفسه وتاريخه وأفكاره السابقة التي نشرها في السبعينات، ثم إنه في التسعينات بدأ في تأليف كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) (50)، وضمَّنه بعض ملاحظاته الفكرية والفلسفية وتشبه مصادره فيه ما اعتمد عليه في كتابه (هروبي إلى الحرية).
فتحدَّث فيه مطولًا عن كون ((الحياة معجزة أكثر منها ظاهرة)) (51)، وسجَّل ملاحظاته النقدية المطوَّلة عن الحضارة الغربية، بما يعتبر كلاشيهات مثل الحديث عن الإلحاد، وانتشار الخمور، وتسليع الفن، في حين احتل كلامه عن الإسلام قسمًا صغيرًا، وفيه أعاد تصوراته الدِّينية بمفاهيم سيِّد قطب، لكنَّه هذه المرَّة صرَّح باسم سيد قطب مصدره فيها، فقال: ((الله أكبر، ولا إله إلا الله، هما في الوقت نفسه أعظم القوى الثورية في الإسلام، ويرى سيد قطب بحق أنهما ثورة على ضد السلطة الدنيوية التي تغتصب الحق الإلهي في حكم العالَم، يذهب سيد قطب إلى أنهما يعنيان انتزاع السلطة من الكهان ومن زعماء القبائل والأغنياء والحكام، وإعادتهما إلى الله، ولذلك كما يستخلص سيد قطب: كانت لا إله إلا الله ضد جميع أصحاب السلطة في كل عصر وفي كل مكان)) (52).
لقد بقي يصوِّب سيد قطب في آرائه، دون إحالة-لو استثنينا بعض الآيات من القرآن الكريم-إلى مراجع أصيلة في الإسلام مثل تفسير معتبر متقدِّم، أو كتاب في السُّنة، أو كتاب في الفقه، أو الأصول، بقي على تصوُّراته في الحاكمية القطبية، رغم أنه لم يرد دولة دينية بل مدنية، ولم يستطع أن يوفق بين هذا الفصام في تصوُّراته بين آراء سيد قطب التي تلغي الأوطان وتجعل الجنسية محصورة في الدين فقط، وبين تعريف بيجوفيتش لنفسه على أنه مسلم أوروبي، بين ضرورة الاستقلال والصِّدام مع كلِّ ما هو ما ليس إسلاميًا اتباعًا لمفهوم الحاكمية، وبين سلوك بيجوفيتش نفسه الذي أقر باتفاق لتكوين نظام علماني، لقد كان في الواقع ينسحب بهذا الكتاب من الحياة السِّياسية، إلى التنظير مرة أخرى دون سلاح علمي في الدِّين غير ما اعتقده من تصوُّرات سيِّد قطب وثقافة أوروبية، لذلك كان بيجوفيتش عند الإخوان من المفكرين العِظام، وبقي موضوع ثناء دائم بينهم حتى بعد موته سنة 2003.
وقد تعرَّض له محمد حامد الأحمري في كتاب تمجيدٍ له بعنوان: (نبتُ الأرض وابنُ السَّماء)، ورأى فيه أنَّ (الإعلان الإسلامي) ((بيان سياسي واعٍ في زمن مبكر)) (53) فما الكتاب إلى تلخيص لأفكار سيد قطب، ومدحه فقال: ((علي عزَّت أنموذج نادر من الرِّجال الذين هم أكبر من زمانهم أو مكانهم)) (54)، ((كان قويًا مع مرونة)) (55)، ((إنَّ نباهته وعزيمته وحميته وحرصه على تحرير فكره وأمته وعلى معالي الأمور صنع له أعداء حاقدين)) (56)، دون أي بحث منه في مسألة ارتباط بيجوفيتش في شبابه بالنازيين، بل وضع حاشية في كتابه بأنَّ بيجوفيتش انضم إلى مجموعة الشباب المسلمين مبكرًا سنة 1946(57)، وهذا خطأ فهذا تاريخ سجنه لا انضمامه، فقد انضم إليهم قبل قيام يوغسلافيا سنة 1945، والشاهد من هذا أنه لم يُحكِم تاريخ الرَّجل ويتحدَّث عنه وِفق المدائِح لا الوقائِع.
قال: ((هو مسلم تحت جبروت الحزب الشيوعي)) (58)، وسبق ما ليوغسلافيا من خصوصية عن غيرها من الدول الشيوعية في التعامل مع المسلمين حيث سمحت لهم بالعبادة بحرية واعترفت بهم كقومية، ويستمر في كيل المدائح: ((هو صاحب رؤية وتوجه للخلاص من هيمنة نظام عالمي قديم إلى عالم جديد)) (59)، ((هو مناضل جبَّار ضد الشر)) (60)، ((حاله ينبئ عن عقل هادئ متفرِّد)) (61)، ((كان صادقًا ملتزمًا بما يطرحه من أفكار ومن شعارات، لا يقبل أن يقول شيئًا ويسلك سواه وهذه غاية في الاستقامة)) (62)، وهو وصف مبالغة يدل عليها ما سبق.
((روحه الحيَّة ويقظة عقله وتنوع معارفه ساعدته على سبر أغوار الروح)) (63)، ((أحبه مثقفو العالَم وكرهه متعصبوه)) (64)، ((كان عزت لمّاحًا في ملاحظاته التربوية)) (65)، ((وله نظرات ثاقبة في قضايا تاريخية وإنسانية مهمة)) (66)، ولا ينسى أن يضع في مراجعه لهذا العمل المفرط في المديح اسم يوسف القرضاوي (67)، فهكذا تعامل الإخوان مع سيرة بيجوفيتش الفكرية والسياسية، بتمجيد لا ينفذ منه تخطيء، بجعله خارقًا للعادة لا إنسانًا أصاب وأخطأ، ويكون مخالفه متعصِّبًا أو كارهًا حاسدًا، لا مخالفًا يرى الصواب في غير ما قاله، في حين كانَ الرجلُ أحوج إلى النقد والتقويم أكبر من كل هذا الإطراء، حتى لا تعيدُ أخطاءَه أجيالٌ تالية.
الحواشي:
(1) تقديم مذكرات علي عزت بيجوفيتش، كتاب المختار، ص9. (2) تقديم عبد الوهاب المسيري لكتاب الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، دار الشروق، ص9. (3) مذكرات علي عزت بيجوفيتش، ص22. (4) مذكرات علي عزت بيجوفيتش، ص22. (5) مذكرات علي عزت بيجوفيتش، ص33. (6) في سبيل الله والفوهرر النازيون والإسلام في الحرب العالمية الثانية، ديڤيد معتدل، ص٢٧١، (7) في سبيل الله والفوهرر النازيون والإسلام في الحرب العالمية الثانية، ص٢٧٢. (8) David Binder, Alija Izetbegovic, Muslim Who Led Bosnia, Dies at 78, The New York Times, Oct. 20, 2003. (9) سيرة ذاتية وأسئلة لا مفر منها، علي عزت بيجوفيتش، آفاق معرفة متجددة، ص35. (10) الإعلان الإسلامي، علي عزت بيجوفيتش، مكتبة الإمام البخاري، ص61. (11) الإعلان الإسلامي، ص89. (12) الإعلان الإسلامي، ص94. (13) الإعلان الإسلامي، ص108. (14) الإعلان الإسلامي، ص111. (15) الإعلان الإسلامي، ص127. (16) معالم في الطريق، سيد قطب، ص5. (17) معالم في الطريق، ص36. (18) معالم في الطريق، ص50، 51. (19) معالم في الطريق، ص57. (20) عوائق النهضة الإسلامية، علي عزت بيجوفيتش، جمعية قطر الخيرية، ص117، 118. (21) عوائق النهضة الإسلامية، ص116. (22) عوائق النهضة الإسلامية، ص116. (23) معالم في الطريق، سيد قطب، دار الشروق، ص25. (24) معالم في الطريق، ص61. (25) معالم في الطريق، ص117. (26) ذكريات من يوغسلافيا، محمد بن ناصر العبودي، ص10. (27) الإسلام والغرب تعايش أم مجابهة، إنجمار كارلسون، صوت إسكندنافيا، ص152. (28) الإسلام والغرب تعايش أم مجابهة، ص152. (29) الإسلام والغرب تعايش أم مجابهة، ص152. (30) مذكرات علي عزت بيجوفيتش، ص45. (31) الإسلام والغرب تعايش أم مجابهة، ص153. (32) هروبي إلى الحرية، علي عزت بيجوفيتش، مدارات للأبحاث والنشر، ص113. (33) هروبي إلى الحرية، ص58. (34) هروبي إلى الحرية، ص60. (35) هروبي إلى الحرية، ص62. (36) هروبي إلى الحرية، ص88. (37) هروبي إلى الحرية، ص81. (38) هروبي إلى الحرية، ص66. (39) هروبي إلى الحرية، ص296. (40) تجلية الراية، أحمد حازم، ص381. (41) تجلية الراية، أحمد حازم، ص385. (42) تجلية الراية، أحمد حازم، ص396. (43) تجلية الراية، أحمد حازم، ص412. (44) تجلية الراية، أحمد حازم، ص412. (45) تجلية الراية، أحمد حازم، ص457. (46) مذكرات علي عزت بيجوفيتش، ص88. (47) دروس من محنة البوسنة والهرسك، محمد قطب، دار الشروق 1994، ص5، 6. (48) الإعلان الإسلامي، ص94. (49) مذكرات علي عزت بيجوفيتش، ص141. (50) الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص36. (51) الإسلام بين الشرق والغرب، ص88. (52) الإسلام بين الشرق والغرب، ص269. (53) نبت الأرض وابن السماء، محمد بن حامد الأحمري، مكتبة العبيكان، ص24. (54) نبت الأرض وابن السماء، 25. (55) نبت الأرض وابن السماء، ص25. (56) نبت الأرض وابن السماء، ص29. (57) نبت الأرض وابن السماء، ص16.
(58) نبت الأرض وابن السماء، ص31. (59) نبت الأرض وابن السماء، ص34. (60) نبت الأرض وابن السماء، ص34. (61) نبت الأرض وابن السماء، ص34. (62) نبت الأرض وابن السماء، ص39. (63) نبت الأرض وابن السماء، ص51. (64) نبت الأرض وابن السماء، ص57. (65) نبت الأرض وابن السماء، ص66. (66) نبت الأرض وابن السماء، ص70. (67) نبت الأرض وابن السماء، ص127.