حرية ـ (12/1/22025)
عبد الله عبد السلام
الثلاثاء الماضى، شاهدت مؤتمرًا صحفيًا للرئيس ترامب عقده فى منتجعه بولاية فلوريدا. كانت أسئلة الصحفيين مُدجنة لم تخرج عن الخط. اختفت الأسئلة الاستفزازية. لم تكن هناك صدامات، كما كان يحدث خلال فترة رئاسته الأولى. هل تغير ترامب وأصبح هادئًا يسعى للتوافق وليس الانقسام ويتعامل مع القضايا بطريقة مختلفة؟ لم يحدث. أفكاره بشأن ضم كندا لأمريكا واستعادة قناة بنما وشراء جزيرة جرينلاند من الدنمارك ولو بالقوة، كما هى. بل إنه يعتزم إعادة تسمية خليج المكسيك ليكون خليج أمريكا قائلا:«يا له من اسم جميل». داخليا، لم يتغير أيضا، هاجم بايدن بشدة وعنف. ذكر القضاة الذين كانوا يحاكمونه بالاسم ونعتهم بأوصاف مُريعة. وصف جاك سميث المحامى الخاص، الذى وجه اتهامات جنائية له، بأنه معتوه ولئيم ومجنون.
الذين تغيروا هم الصحفيون وملاك الصحف والشبكات الإخبارية. وجدوا الرياح تتجه يمينا، فطأطأوا رؤوسهم لها. السياسات التحريرية بدأت تتكيف مع توجهات ترامب الذى جاء هذه المرة بتفويض شعبى كبير وأغلبية جمهورية فى الكونجرس. التغييرات فى القيادات التحريرية لن تتوقف حتى إرضائه، وقد لا يرضى أبدا. الفن أيضا يحدث فيه أمر مشابه. الأحد الماضى، لم يستعرض ممثلو هوليوود قدراتهم، خلال حفل توزيع جوائز جولدن جلوب، فى إلقاء النكات أو قراءة بيانات تسخر أو تهاجم ترامب، كما كان يحدث من قبل. سياسيون ديمقراطيون قاطعوا حفل تنصيبه الأول، سيشاركون هذا المرة. المقاومة والرفض والاحتجاجات على سياساته وتهجماته على الإعلام والصحافة والخصوم تضاءلت. ترامب يدرك ذلك ويتمادى فى استغلال الوضع لصالحه.
لكن ما يحدث فى شركة فيسبوك أمر آخر. مالكها مارك زوكربيرج قال إنها ستتوقف عن تدقيق المعلومات والحقائق للمواد التى تُبث عليها. ادعى أن مدققى الحقائق، الذين دافع عنهم فى السابق، كانوا متحيزين للغاية وبدلا من خلق الثقة أضاعوها. اعترف أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة نقطة تحول نحو إعطاء الأولوية للتعبير بحرية أكثر. من الآن فصاعدًا، سيتم العمل على إزالة القيود المفروضة على موضوعات الهوية الجنسية والهجرة. ستظهر من جديد البوستات التى تتهم المهاجرين بأبشع الأوصاف. قبل ١٠ سنوات، زوكربيرج نفسه أكد أهمية الهجرة لاقتصاد أمريكا. أسس منظمة لتسهيل الهجرة بما يتماشى مع سياسة أوباما آنذاك. الآن غير الدفة. تبرعت شركته بمليون دولار لحفل تتويج ترامب رئيسًا فى ٢٠ يناير الحالى.
نيك كليج مسؤول الشؤون الدولية فى فيسبوك، والذى شغل سابقا منصب نائب رئيس وزراء بريطانيا، استقال من عمله لأنه لا يصلح لفترة ترامب. كليج وسطى، والوسطية انهارت ولم تعد قادرة حاليا على التنافس مع الجاذبية الفائقة للمتطرفين المحيطين بترامب، كما يقول كاتب أمريكى. كليج أيضا من أنصار العولمة، التى تتوارى فى زمن الحمائية والقومية وأمريكا أولا. الخطورة أن من حل محله من غلاة المحافظين. جويل كابلان نائب رئيس الأركان الأمريكى فى عهد بوش الابن معروف عنه رفضه لعمليات تدقيق الحقائق وسعيه لإقامة شراكات بين فيسبوك والمواقع الإخبارية اليمينية، كما دعا إلى عدم فرض قيود على الأخبار المزيفة.
إنها عملية مقايضة كبرى تقوم بها النخبة السياسية والإعلامية والصحفية والتكنولوجية الأمريكية للتكيف مع العصر الجديد. التنازل عن جزء من حريتها واستقلاليتها مقابل البقاء. الشبكات الاجتماعية ليست منظمات خيرية أو طليعة للدفاع عن الحريات والحقيقة. إنها شركات خاصة تستهدف الربح. لا تلعب سياسة بقدر ما تخضع لشروط السياسة. فى الماضى القريب، سمحت للإدارة الديمقراطية بالحصول على معلومات خاصة بأصحاب الحسابات ولبت رغباتها فى التضييق على الآراء المحافظة. حاليا، تستعد للانضواء تحت علم ترامب. باختصار ستكون منصات حزبية وليس عامة تحاول الابتعاد عن الاستقطاب. هذه التحولات بمثابة نغمة موسيقية جميلة على أُذن ترامب، الذى وصف ما قامت به فيسبوك بالممتاز.
نيك كليج قال إنه كان يأمل فى إقامة جسر بين السياسة والتكنولوجيا لكن السياسة ستبتلع التكنولوجيا فى السنوات القليلة المقبلة. ستحدد أجندة مواقع التواصل، وعليها الانصياع، وإلا فالعقوبات جاهزة، وقد تصل إلى وقف المنصة عن العمل. روبرت رايش وزير العمل الأمريكى الأسبق قال: استعدوا لأربع سنوات من الأكاذيب والفوضوية. هل معنى ذلك أن الأمور استتبت لترامب؟ ليس تماما. المجتمع الأمريكى ونخبته ليسوا بهذه الهشاشة والضعف. ستكون هناك أصوات ضد سياسات ترامب سواء فى الإعلام أو الصحافة أو المجتمع المدنى، لكن المساحة التى كانت تشغلها هذه الأصوات ستقل وتخفُت كثيرا، ومع ذلك سيحاول ترامب إسكاتها أو تشويهها. الخطاب السياسى والإعلامى الأمريكى أصبح فى عهدته.